المقالة

كروية الشكل أم مسطّحة؟

بوابة الوسط

لاطعم، ولا مذاق ولا طرافة، في العيش في عالم يخلو من جنون، وعجائب، وغرائب البشر. إذ لولاهم لصار مضجراً، كئيبا، متوقعاً، ولتحولت الحياة فيه إلى دورة حياة ميكانيكية تدور وتدور حتى تقتلنا مللاً. لذلك، فإني أشعر بالامتنان نحو المجانين، وغريبي الأطوار، الذين مازال بمقدورهم إدهاشنا، وجعل الحياة ممكنة، وممتعة، أحياناً، رغم ما تعجّ به من شرور ووحشية، وسفك للدماء، وقهر للإنسان.

في الآونة الأخيرة، تردد في الأخبار المحلية، بإحدى الصحف، على شكل مزحة، أن جمعية أهلية، تسمى “جمعية الأرض مسطحة- The Flat-Earth Society” سوف تعقد اجتماعاً عاماً لأعضائها، في جميع مدن المملكة المتحدة، وأن مدينة برايتون، جنوب شرق لندن، سوف تكون مقر اللقاء.
ورغم غرائبية الخبرـ المزحة، فإني تعودت على التعامل مع ما تنقله لي وسائل الإعلام من أخبار بمشاعر مزيج من صبر وحكمة حتى مع الأخبار التي تجعل شعر رأسك يقف تعجباً، ودهشة، من شدة لامعقوليتها، مثل الخبر أعلاه. فالبشرية دخلت القرن الواحد والعشرين، منذ عقدين، والتقنية والتقدم العلمي قد جعل البشر يرسلون بمركبات فضائية إلى كوكب المريخ، وقبلها وصلوا القمر ومشوا على سطحه، الأمر الذي يجعل المرء مخظئا يظن أن مسألة شكل الأرض قد صارت في حكم البديهيات، فإذا به يفاجأ أن ما يعتبره مسلمة علمية، تعد مسألة تحتمل إعادة النظر من قبل أناس آخرين، ليس في بريطانيا فقط بل في بلدان كثيرة موزعة في أنحاء العالم.
خلال السنوات القليلة الماضية، انتشر في وسائل التواصل الاجتماعي فيديو لشيخ مسلم، يتحدث فيه بقناعة عن استحالة كروية الأرض، ويحاجج جازماً بتسطحها، ضارباً العديد من الأمثلة، وحاشداً العديد من الأقوال والحجج. وأذكر أن غرائبية آرائه، جعلت صحيفة بريطانية هي “الاندبندت”، قبل توقف نسختها الورقية، تنشر تقريراً طويلا حوله.

وأذكر، أيضاً، أنه خلال فترة السجن الأولى، كنتُ ورفاقي موقوفين بسجن الْجدْيّدة، شرق طرابلس، وهو سجن مدني، بإدارة وشرطة مدنية. وكنّا موقوفين في مبنى صغير منفصل عن مبنى السجن الرئيسي- المخصص للموقوفين والمسجونين في قضايا وجنح جنائية- كان، سابقاً، سجناً مخصصاً للنساء، ثم خصص، فيما بعد، للموقوفين في قضايا ذات طابع سياسي، وأمن دولة. وفي أحد الأيام، أحضرت الشرطة شيخاً هرماً من منطقة الجُفْرَة، بوسط ليبيا، وكان معاقاً، في قدميه ويديه، ولا أعرف على وجه التحديد طبيعة التهمة التي تسببت في القبض عليه، وترحيله إلى طرابلس، وتوقيفه في سجن الجديّدة. كان رجلا طيباً، دمثاً، ومتعصباً لأرائه السياسية، وله كراهية وأحقاد وثارات ضد حزب البعث، ولا أعرف حتى الآن أسبابها. وكان الرفاق الموقوفون متعاطفين معه ومهتمين برعايته، لأنه، فعلياً، غير قادر على العناية بنفسه بسبب الإعاقة. ومثل الشيخ الواعظ الذي تحدثنا عنه أعلاه، كان عجوزنا لايصدق مطلقا بحقيقة نزول مركبة فضائية، تحمل بشراً فوق سطح القمر. في البداية، حاول بعض الرفاق توضيح الأمر له بالدلائل العلمية والبراهين، لكنه كان أشد عناداً من ثور. ورفض كل ما قدّم له من أدلة، مجادلاً كيف يمكن النزول على سطح قمر خلقه الله من نور!
هنالك، فقط ، أدرك الرفاق أن عليهم الاهتمام بأمور سجنية أخرى، أجدى وأنفع لهم ولحيواتهم، تعينهم على تدبر أمورهم، في ذلك الحيز المكاني الضيق، ومحاولة توسيع حدود جدرانه، التي تحول بينهم وبين التفاعل مع زخم الحياة خارجها.

لكن ذلك حدث قديم زمنياً، مرّ عليه أزيد من أكثر أربعة عقود، تغير خلالها العالم، وتغيرنا، وكذلك تغيرت الجُفْرة، وتغيرت الدنيا، بأكملها، وتغير ناسها، وازدادوا عدداً، وتعقيداً، وحروباً، وعداوات، حتى ضاقت، ولولا فسحة الأمل والحب والحلم بغد أفضل، لصارت جحيما أرضياً. هذا ما كنتُ أعتقده. لكن أن اقرأ، وأسمع، عن أناس في مدينة كوزموبوليتية، علمانية، ومركز حضري وحضاري، ومنارة للعلم وللثقافة، مثل لندن، يؤسسون جمعية لا تصدق، حتى الآن، بكروية الأرض، مسألة ليس سهلاً قبولها، ومن الممكن بلعها على مضض، على أساس أنها جزء من ذلك الهامش الحياتي المسموح فيه للبشر بالتعبير عما لديهم من أفكار، حتى وإن اتسمت بالغرابة، وليس لنا نحوها سوى التسامح، والابتسام، والدعاء بالهداية.

الجدير بالذكر، أن الجمعية المذكورة، حسب ما ورد في الإعلان، اختارت أن يتمّ اللقاء في مقهى معروف، بمدينة برايتون، يسمى (The Glob)، والتي تعني، باللغة العربية، الكرة الأرضية!
والأهم من ذلك، هو التعليق الذي كتبه محرر الخبر، حيث نبّه محذراً إلى حقيقة أن عدد أعضاء الجمعية، في جميع مناطق بريطانيا، ليس صغيراً، وأن حضورهم جميعا وحرصهم على التواجد بذلك المقهى، قد يؤدي، وفقاً لاعتقادهم بتسطح الأرض، إلى حدوث تزاحم واكتظاظ، في جهة من المقهى، مما يخل بتوازن الأرض المسطحة، وربما التسبب، بدون قصد، في حدوث اختلال في توازن أرضية المكان، يؤدي بدوره إلى حدوث هزة أرضية بالمقهى، وبمدينة برايتون!

مقالات ذات علاقة

كلمة السر هي “الــنـــاس”

الصادق النيهوم

وين ثروة البترول.. الحبوني وحِقبة الاستقلال الليبية

محمد دربي

فيلم تونسي.. الهروب الكبير والقبض العظيم!!!

خالد الجربوعي

اترك تعليق