جميل حمادة
المدينة القديمة طرابلس الجميلة؛ ملأتها مناظر الزينة والورود والمنمنمات الزاهية والأقواس الملونة تجلل معالمها والتماثيل التي تحاكي تاريخها وترسم حكايات الجدات وقصص البحارة والمغامرين…
زرتها في اول ايام الشهر الفضيل نهارا. كانت فارغة تماما؛ لأن الناس كانوا نيام في اول نهار طبعا؛ وكانت طرابلس شيئا آخر تماما؛ كعروس ترتدي كامل زينتها.. وانا الذي عشت فيها ثلاثين عاما تقريبا. كانت كأنها تتعافى وتستعيد لياقتها الكاملة من طبقات التاريخ الغابر؛ بينما تهيئ شوارعها وباحاتها وكورنيشها لاستقبال الزوار والسائحين من كافة الأنحاء القريبة والبعيدة. وطرابلس الرحبة المضيافة تحب ضيوفها وتأخذهم في حضنها بكل أريحية وسخاء.
> شعراء من الشرق والجنوب
الشاعر الوسيم الأنيق؛ ابن مدينة بنغازي الجميلة صالح قادربوه؛ والذي أصبح ابنا شرعيا لطرابلس منذ ما يقرب من ثلاثة عشر عاما أو تزيد. وفي هذه السنوات كان أقام في العديد من أحيائها فأضحى جزءا صميميا من نخبتها الثقافية.. وكذلك كان فرج العربي ومازال.. وكذلك فعلت مجموعة من شعراء الجنوب المجيدين البارعين الذين جاؤوا الى العاصمة فسكنوا عيونها ودخلوا في صلب نسيجها الثقافي.. فجرى الاحتفاء بهم وتكريم بعضهم في غير محفل وأكثر من منتدى.. مثل منتدى المناضل بشير السعداوي وغيره؛ فعرفنا منهم شعراء رائعين ومتميزين مثل عمر عبدالدايم وهود الأماني ويوسف سليمان وعبد القادر العرابي وآخرين.. تزامن ظهورهم “المفاجئ” مع ظهور شعراء أيضا رائعين من طرابلس؛ مثل أكرم اليسير؛ محمد عبدالله؛ ايوب البرعي؛ هناء المريض، أحمد الفاخري، سالمة المدني، محمود العوامي، سمية الطرابلسي وآخرين.
لكنها مسكينة طرابلس الجميلة التي باتت تلبس اليوم حلتها الجديدة الزاهية؛ لكنها حائرة كيف يكون السبيل الى الاحتفاء بأبنائها الشعراء القادمين من الجنوب أو الشرق مثلا؛ ذلك لأنها ربما لم تكمل بعد رسم خارطتها الثقافية المنصفة لمقبل الأيام.. صحيح ان طرابلس قد احتفلت في أكثر من مهرجان شعري او ثقافي بشعراء متميزين لامعين مثل الشاعر المبدع محمد المزوغي والشاعر عمر عبدالدائم وهناء المريض وحنان محفوظ واسامة الرياني وعبد القادر العرابي.
> شعراء مصراتة وشعراء الواحات
وماذا كان يجب على طرابلس ان تفعل وكيف تحفظ أبنائها عليها.. فلا يسيئون فهمها.. فتكرم مقامهم حيث قاموا او مقيلهم حيث كانوا.. فتكرم شعراء جارتها المدينة الجميلة مصراتة مثل الشاعر القدير والتشكيلي الكبير محمد بالأمين الذي يكتب الان قصيدة تختلف عن جل ما عرفناه في فن كتابة قصيدة النثر؛ أو الشاعر المختلف أيضا والمثير علي حورية؛ او تستقبل ليالي طرابلس القديمة في شهرها الكريم وفي احد أركانها شعراء مثل الشاعر الوداني المثير صاحب “الماء ليس أكيدا” محمد زيدان؛ او صديقه الشاعر المثابر المبدع صاحب الواحة المتميز المهدي الحمروني شاعر ودان. او ان تكرم “مهرجان زلة” او الشعراء المؤسسين او القائمين عليه مثل محمد الربيعي او غيره.
أفما آن لطرابلس العاصمة الجميلة ان تكرم أبناءها الذين أحبوها وافتتنوا بها من الشرق والجنوب الغرب والواحات والصحراء والوسط.. وكذلك من مدن اقصى الشرق او من نواح اخرى.. ان تنصفهم وتكرم حضورهم في هذه الأيام الفضيلة.
> أنا اطرابلسي
في ظهيرة يوم صيفي بعيد عن التاريخ التقيت انا وأخي الشاعر المحكي محمد الدنقلي في الشارع المتفرع من ش الاستقلال باتجاه مبني برنامج الامم المتحدة الانمائي حيث كنت أعمل؛ واذا بنا امام احمد الحريري -رحمه الله-.. كان يقف على عتبة باب بيت متواضع؛ فقطعنا الطريق متجهين الى الجهة الاخرى حيث يقف. وبحرارة شاعر سلم علينا أحمد بابتسامته المعهودة على الرغم من انه كان مريضا؛ كما علمت من الدنقلي.
كان ثمة احترام متبادل كبير بيننا. فقد كان آخر لقاء اذكره انني جئت مع صديقين الى الفندق الكبير لزيارة الشاعر الراحل احمد فؤاد نجم ودعوته لمأدبة غداء فلسطيني في بيتي؛ وإذا بنا نجد في حجرته الكاتب الليبي الكبير الراحل الصادق النيهوم؛ والسيد رشاد الهوني، كما قدمه لنا أحمد نجم؛ ثم أحمد الحريري؛ رحمهم الله جميعا. وصرنا نتحدث في امور ثقافية واجتماعية، وقد اخذنا الأحمدان بالكلام؛ وانشغالنا بفرصة وجود الصادق النيهوم والتعرف عليه أكثر عن قرب؛ لم نمكث طويلا انا وصديقاي؛ ثم تحدثنا مع احمد فؤاد خارج الحجرة وعقدنا معه موعدا للغداء.
هذا اللقاء جعلني أيضا اعرف الحريري أكثر وأقترب منه أكثر. وعلى أي حال، تكررت اللقاءات؛ وأن بدت عبر فترات متباعدة؛ وفي كل مرة كانت المسافة تزداد ضيقا؛ ونقترب أكثر والرجل رحمه الله يقدرني كثيرا وازعم انه كان يكن لي احتراما وحبا كبيرين؛ ربما لأنني كتبت دراسة ضافية عن ديوانه “خمسينية صائد الرياح”، أو لأنني أحد القلائل الذين كتبوا مثل تلك الدراسة المطولة عن مجموعته الشعرية تلك.
وكان الحريري -رحمه الله- يرانا عندما نزور أحمد فراد نجم في الفندق الكبير او عندما نلتقي في أيما مكان مع الفنان الراحل اسماعيل العجيلي. رحب بنا احمد ايما ترحيب رحمه الله. ثم دخل الدنقلي الى داخل البيت وبقي أحمد معي. قلت له اخي احمد أنا طرابلسي حقاني جديات؛ تبسم احمد وانفرجت أساريره؛ قال لي: معقولة.. قلت له صحيح انا فلسطيني؛ بس نعرف طرابلس اكثر مما يعرفها الكثير من أهلها.. قال لي؛ والله مش مستبعدة.. قلت له اخي احمد انا سكنت في كثير حياشها وعرفت كثير من زناقيها خاصة في باب البحر والباب الجديد..الخ.
كان أحمد الحريري رحمة الله عليه صاحب قلب صافي كأنه قد من الكريستال وروح شفافة تشبه روح طفل.. كان شاعرا مبدعا وانسانا نبيلا بكل معنى الكلمة. وكانت مقالته التي كان يواظب على نشرها في صحيفة الشط بشكل أسبوعي ويسميها (يا رب) تشرح الصدر وتنشر الامل في وجوه قارئيه.
وانا ابن المدينة القديمة طرابلس.. سكنتها في مختلف مراحل حياتي لمدة تقترب من ثلاثين عاما؛ اعرف جل شوارعها وأزقتها وساحاتها ووسعايتها وزناقيها وأقواسها ومساجدها ومداخلها ومخارجها وشواطئها ودكاكينها والكثير من عائلاتها ورجالاتها وصعاليكها ولصوصها وبحارتها وقباطنتها ومجرميها وعشاقها؛ فقرائها واثريائها. عرفنا عائلات كريمة كثيرة جذورها راسخة في المدينة القديمة؛ بيت الطوبجي وقرفال والعجيلي وكافو وعريبي؛ و(البركلي) وازمير والجنزوري؛ والزمبوزي؛ ومظفر، والسويد الله يرحمه. والحاج رجب والضبع وحوش مصباح والجبالي والغرياني والشيباني ومحمد الميلادي وعلي وخليل الميلادي الله يرحمهم جميعا.. زنقة الاربع عرصات وزنقة الصفار وكوشة الصفار وعمي الحاج بتاع السفنز. فعندما جئت شابا يافعا؛ سكنت مع البحارة في البيت الذي يحمل اسم )دار الفقيه حسن( وكان البحارة من عدة جنسيات؛ فلسطينيين ومصريين وتونسيين وجزائريين وليبيين.. “الجزائريون والمغاربة كانوا قلة ولا يقيلون طويلا؛ فيغادرون ويأتي غيرهم بالصدفة”.
كان ذلك قبالة قوس ماركوس اوريليوس؛ في زنقة صولا كما نسميها؛ وسكنت أيضا شهورا عدة في حوش محمود بي مع مجموعة من البحارة.. وفي عدة بيوت اخرى في زنقة الفرنسيس حيث حوش نويجي.حيث تعارفنا على كائنات لطيفة من الناس (اللي من ورانا واحنا مش عارفين) كانوا جن لطفاء؛ لكن كانوا جبناء قليلا.. ثم سكنا مع مجموعة كبيرة من البحارة الليبيين والعرب في حوش (البركلي) خلف النادي؛ قريبا من حوش الدكتور الفنان الجميل حسن قرفال؛ وانا متزوج سكنت في زنقة جامع محمود أمام مركز التدريب المهني؛ حيث سقط علي البيت في ديسمبر 85؛ ثم في زنقة البيليك؛ ثم في حوش آخر في نفس الزنقة؛ ثم في حوش القبة (الخزان) قيل انه اعلى مكان في طرابلس؛ في وسعاية البولاقي. انا صدقتهم، لأنني اختبرت ذلك بنفسي.
عندما كان يجيء أصدقائي الشعراء محي الدين محجوب؛ والكيلاني عون؛ ومفتاح العماري، وعبدالمنعم، أو محمد الامين، ومجاهد البوسيفي، او مبروك درباش الى بيتي في القبة في منتصف الليل كنا نشارك الكلاب العواء.. او غالبا في العادة كنت انا اعوي على الكلاب وحدي؛ وأحيانا اركض وراءها حتى تهرب؛ لأن ابوالقاسم المزداوي -رحمه الله- كان يكره الكلاب ولا يحتمل هجومها الجماعي علينا.. فكنت أطردها بسلاحها.
مازال الشهود على الواقعة (أو الوقائع) أحياء.. اطال الله أعمارهم؛ مفتاح العماري؛ محي الدين، الكيلاني؛ منعم؛ مبروك درباش.
> الذكريات الحميمة والأصدقاء والقصيدة
وكان يزورني في ذلك البيت المرتفع أمام الخزان ايضا الحبيب احمد سيفاو والجيلان طريبشان الراحلان وأخي الحبيب الروائي الأرتري أبوبكر حامد كهال.. عادة وغالبا مع الجيلاني او مع الراحل رضوان ابوشويشة؛ وكذلك السفير الحبيب حسين المزداوي وصديقنا الشاعر السوري عبدالرحمن مطر الموجود الان في كندا؛ وفرج العربي وزوجته السابقة خديجة بسيكري؛ او فتحي نصيب وعايشة المغربي؛ وكريمة حسين رحمها الله؛ والشاعر الراحل شاعر الوردة علي صدقي عبد القادر والراحل ابوالقاسم المزداوي مع صديقنا المذيع القدير عطية باني. واحيانا الشاعر مفتاح العماري ومجاهد البوسيفي او مجاهد وعمر الكدي.
وفي الحوش الذي كان يربض في (زنقة البيليك) فقد قضينا سنوات عديدة جميلة وثرية بكل شيء في الايثار والحوارات الثقافية وكتابة القصائد والحديث في كل شيء وفي كل الاتجاهات؛ ربما نتناول الحديث عن آخر الافلام العالمية؛ او في آخر ما كتب الشعراء الكبار؛ وكان جلهم أحياء حينها؛ من قصائدهم؛ او حول آخر قصيدة كتبها أحدنا؛ وأنا أقر وأعترف انني كتبت أجمل قصائدي في المدينة القديمة؛ سواء قصيدة نشيد العطش او قصائد من رذاذ المدينة او نشيد عرشاقيا او أسئلة الهذيان.. او مرايا الروح..الخ.
كنا نناقش في كافة القضايا الثقافية الجادة والجوهرية؛ من صراع الأجيال او الثقافة والايديولوجيا والفلسفة والنقد والحداثة وفن السرد واهم الروايات العالمية وفي مسالة الزمان والمكان او الأصالة والمعاصرة.. او أخر رواية صدرت في المعمورة؛ كنا نقول كلاما كبيرا..كبيرا بحق؛ يعني اكبر من ابي الهول؛ ياللهول. نعم..!
وفي أحد تلك البيوت.. حيث سكنت ثلاثة بيوت في تلك الزنقة أعني زنقة (البيليك) حيث حوش الرايس طلحة؛ بيت سقط علي وعلى أسرتي في منتصف الليل؛ ديسمبر 85؛ كانت الصديقة الاستاذة فوزية شلابي حينها مديرة جهاز تنظيم وإدارة المدينة القديمة، فما كان منها إلا ان قامت مشكورة بنقلنا في النهار التالي الى بيت آخر في زنقة البيليك أيضا.
كان بيتا كبيرا من طابقين؛ ولكنه للأسف كان مسكونا بالكثير من الكائنات ذات أشكال أخرى من أصدقائنا. فنقلتنا الى بيت آخر في نفس الزنقة؛ وكان هو الاخر يفكر ايضا بالسقوط.
في ذلك البيت استضفنا الفنان الفلسطيني الاردني “هبوب الريح” عادل عفانة؛ في مأدبة جمعت ما يقرب من 15 صديقا من البحارة والمثقفين والاصدقاء. كان من بينهم الراحلان وجيه مطر وسامي عودة.. وبعض الأصدقاء الأخياء.
وفي بيت آخر في نفس الزنقة استضفنا في احدى المرات الفنان الفلسطيني الأردني زهير النوباني.. والكاتب الروائي الكبير رشاد أبوشاور أطال الله عمره؛ والفنان الراحل محمود ابوغريب -رحمه الله- والفنان فؤاد الشوملي -اطال الله عمره-.. يومها ونحن نغادر البيت نحو وسط البلاد من شارع جامع محمود.. رأى الفنان الراحل ابوغريب منظر شوارع المدينة القديمة حينها فاستغرب وامتعض من القمامة التي كانت في الشارع ومن شكل الحجارة؛ وفجأة صاح قائلا “ما هذا.. والله حرام؛ انا جئت هنا على طرابلس في سنة 45 بنهاية الحرب العالمية الثانية.. كانت الشوارع هذه؛ شوارع مدينة طرابلس كالمراية تنظر اليها فترى وجهك على صفحتها. كانت فعلا عروس البحر المتوسط.. لماذا هي الآن بهذه القذارة والاهمال.. كان ذلك عام 89 ان لم تخني الذاكرة“.
* ملاحظة: هذا المنشور يا قوم؛ نحن بدأنا به قبل تكريم اي شخص في المدينة القديمة؛ تحديدا بعد أمسية استضافة قيصر الصحافة اخونا الحبيب النبيل محمود البوسيفي. لا اريد ان أحرق بقية الذكريات الخاصة بقصائدنا وكتاباتنا ورحلاتنا الى البحر.. لنتركها الى حلقة أخرى..!