أين ليبيا التي عرفت؟
المقالة

أين ليبيا التي عرفت؟ (31)

محمّد نجيب عبد الكافي

… وكلاء الوزارات (2)

أواصل بعون الله، سرد ما علق بالذاكرة من ارتسامات، وما كان لي من علاقات عرّفتني بأناس كثيرين، خبرتهم وخبروني، عرفتهم على حقيقتهم وعرفوني، فكان التعايش والتعامل الإنساني، الذي أوصى به ديننا الحنيف، واعتنقته المبادئ السليمة فأصبح سنة لدى الواعين المستنيرين، كالكثيرين الكثيرين ممّن سعدت بمعاشرتهم من أبناء ليبيا الأبرار، كوكلاء الوزارات، الذين أبى قلمي المسن الهرم، إلا أن يرسم منهم صورة، ولو رمزية، أو خطوطا تشير ولا تجسّم، فتكون مجرّد إشارات تُلفت انتباه الباحثين عن المعرفة والاطّلاع، ضمانا للتواصل عبر الأجيال والأيام. قدّمت بإيجاز – هو في الواقع تقصير – لمحة عن الأستاذ فؤاد الكعبازي كوكيل وزارة الأشغال العمومية، وهو الذي احترت يومئذ في فهم مقدرته على الجمع بين السياسة والإدارة وبين الأدب والفن. لم تطل حيرتي، فالجواب أعطانيه فؤاد نفسه بعفوية ضمن ثرثرة أحد اللقاءات الجماعية في إحدى المناسبات فقال: “أرى السياسة والإدارة، فنّا يخضعهما المُريد لرؤاه وحسّه وخياله.” لا جواب بعد هذا الجواب. فإلى الوكيل التالي.

– عبد الرّازق شقلوف

عرفته قبل أن ألتقيه. بعبارة أوضح وأصحّ، أطلعوني وسردوا عليّ مسيرته الحياتية، بكلّ تفاصيلها وجزئياتها، قبل لقائي به شخصيّا. كان ذلك من نتائج زيارتي “التاريخية” التي أخذتني إلى درنة، مدينة النور والزهور، لتأدية مهمة، كما سبق وشرحت، لدى مناضلين من جمعية عمر المختار، فأتمّوا لي مهمّتي واستضافوني أياما، كما شرحت، وفي تعريفهم إيّاي دور جمعيتهم، لم يبخلوا بذكر أبرز أعضاء الجمعية، منهم عبد الرازق شقلوف، الذي عُرف بنشاطه وإخلاصه خاصة، عندما ترأس فرع نشاط من نشاطات جمعيتهم المتعدّدة الوجوه والإنجازات. عرفت إذن يُتمه، وحرص أمّه ونجاحها في تربيته وتعليمه، فتدرّج بنجاح إلى أعلى مستوى كان متاحا آنذاك تعلم اللغات ثم بدأ حياته العملية يالتدريس الذي أعطاه فرصة التنقل في عدد من المناطق، فلمس عن قرب وضع بلاده ومواطنيه، فقوى ذلك مشاعره الوطنية، وزاد من حماسه الذي أصبح نارا تكويه، بعد أن سافر إلى روما ضمن وفد دُعي لحضور معرض هناك، فألهبت المقارنة بين وضع مجتمعه وبين المجتمع الذي زاره، فازداد تصميما وحزما وإرادة. هنا يأتي المهمّ، بالنسبة لي أيامها، أعني نضاله ومغامراته الكفاحية، في سبيل ليبيا واستقلالها، كالتحاقه بجماعة شيخ المجاهدين عمر المختار، أو قيامهم بعمليات فدائية وراء خطوط الطليان بالتنسيق مع جيش التحرير، الذي تكوّن في مصر، إلى سفره ضمن الوفد الليبي الذي تابع مراحل القضية الليبية في الأمم المتحدة. استقلت ليبيا وتقلب في الوظائف التي انتهت به وكيل وزارة المالية. عندها شاءت الظروف فالتقينا، وتعارفنا وتصادقنا. ولما عرفته، حقا تذكرت الحديث الشريف “إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم.” فقلب هذا الرجل أصفى من الحليب، وصدقه لوطنه وشعبه أصدق من كثيرين تبجّحوا، وعمله بسرّ وصمت، لكن بمثابرة وإخلاص، كانت له أكثر فائدة من عمل آخرين وسط الضوضاء والتظاهر، وكلّ هذا يأتيه ضاحكا لاعبا حتى يُظنّ أنه غير مُجِدّ. لذلك وصفه الرفيق المجاهد الجزائري المرحوم أحمد سليم – الذي خبره هو الاخر صحبة رفيقنا كمال الساكر- بأنّه المناضل الضاحك. فقليلا ما كان يبدو عليه الجدّ في القول أو في العمل، ومع هذا فهو جدّيّ ثاقب الذهن سريع الفهم، لا تنطلي عليه حيلة ولا يركبه غرور. قليلون في رأيي الذين عرفوه حقا، سوى الذين تعاملوا وعملوا معه. صدق في حقه قول الشاعر: (فلا تجعل الحسن الدليل على الفتى * * * فما كل مصقول الحديد يماني).
آخر لقائنا كان في الجزائر، حيث دعانا وآخرين ممن تعاونوا مع الثورة الجزائرية الرئيس أحمد بن بلّة رحمه الله، لحضور احتفالات عيد الثورة الأول بعد استقلال الجزائر.
بالذاكرة المزيد من الارتسامات فلي عودة إن طال العمر.

مقالات ذات علاقة

راحلٌ في الحَيَاةِ.. طَاعِنٌ في الموتِ *

جمعة الفاخري

توّهمات الفوضى

نورالدين خليفة النمر

ضرورة الاحتياط من التاريخ

محمد الترهوني

اترك تعليق