الكاتبة عبير إسبر ورواية سقوط حر
المقالة

رواية «سقوط حر» والبقاء على قيد الخوف

بوابة الوسط

الكاتبة عبير إسبر ورواية سقوط حر
الكاتبة عبير إسبر ورواية سقوط حر

رغم عيشها في قلب عالم من الورق، أو كما تقول في أحد الحوارت “ارتمائها في عالم الكتب لدرجة التأذي” منذ نعومة أحلامها، ولأن الطفلة حين تقرأ تتحول كل كلمة مطبوعة في ذهنها إلى صورة، عاشت عبير إسبر شغفا بالحكاية والصورة، فكل صورة تكمن خلفها حكاية وكل حكاية ما هي إلا دفق من الصور، وهو الشغف المبكر الذي أينع في داخلها مع الوقت عشق السينما كفضاء شعري يحقق هذه المعادلة، وأفضى بها لكي تمتهن صناعة الأفلام بعد أن استغرقت وقتا في الفرجة بعين ذكية تسعى لأن تتعلم فن صناعة الحبكة والمشهد وبعقل يلاحق هذا الفن في كل مختبر له في العالم، وخارج سلطة هوليود كانت تبحث عن تلك الزوايا البعيدة عن الضوء التي تنتج أفلاما مميزة بعيدا عن ضجيج الشباك أو اللهاث خلف الجوائز، واكتظت ذاكرتها البصرية بلوحات فناني الظل السينمائية في أوربا الشرقية وفي آسيا وغيرها من زوايا السينما الحالمة التي تغوص في حقل التجريب والمغامرة في كل ما يتعلق بتشكيل علاقات مجازفة بين الحكاية والصورة.

ولم تخف ولعها الاستثنائي بالسينما الإيطالية التي لم تتخل عن حرارة السرد والحميمية وعن الحكاية البسيطة كمتن لها. وحلمت عبير بأن تكون جزءا من هذا الشغف وتلقت دورة في الإخراج السينمائي بباريس، وتناغما مع طبيعتها المستقلة سعت لأن تمتلك كاميرا سينمائية خاصة بها لتبدأ إنتاجها الخاص للأفلام القصيرة قبل أن تقتحم عالم الأفلام الروائية، لكن الأمر لم يكن سهلا ماديا، خصوصا مع فنانة أشهرت شخصيتها المستقلة في وجه المؤسسة، ولم تتمرن على الاندماج ضمن فكرة القطيع في الحياة أو الفريق في العمل. وحدث أن قرأتْ إعلانا عن جائزة “حنا مينا” للرواية وذهبت عيناها مباشرة إلى آخر الإعلان الذي يحدد قيمة الجائزة، وكانت القيمة كافية لتحقيق حلمها بامتلاك الكاميرا، وهذا الحلم هو ما أدخلها إلى عالم كتابة الرواية.
كتبت روايتها الأولى “لولو” وشاركت بها في المسابقة لتنال الجائزة وتحصل على الكاميرا، لكن العمل السينمائي الذي أسهمت عبره بأعمال مميزة نوعيا ليس عملا فرديا ويحتاج إلى إمكانات وأطقم كان من الصعب دائما أن تتوفر مع الحرص على الاستقلالية وكان من الصعب أن تتوفر لروح المغامرة والتجريب التي تتسم بهما رؤيتها للسينما المجازفة في مكان وزمن يجيد السيطرة والامتثال لشروط السوق، ومزاج المنتج.

كتبت بعد لولو روايتي “منازل الغياب” و “قصقص ورق” وفي كل هذه الروايات كانت تعتبر السيرة هي منجم الحكايات المتداخلة التي تمرنت عبرها على محاولة تعريف الروح المغتربة في أكثر الأمكنة حميمية، ولاحقت فيها الأجوبة المستحيلة عن أسئلة طفولتها التي كبرت مثلما كبرت ألعابها. وكانت دمشق هي عاصمة هذه الغربة التي ترتبك مشاعرها حيالها، بين حب وكره دون أن تفهمها. تقول في رواية (قصقص ورق) عن دمشق قبل الحرب “هكذا كانت دمشق.. تضيع بين خلاياي، إلى أن يهاجمني الحزن فتنتفض دفاعا عن روح تائهة.. هكذا كانت قاسية إلى أن أصهر بنيران الغياب فيلين فولاذها.. هكذا هي مكروهة.. ملعونة… إلى أن أنفجر بالبكاء على أرصفتها بحثا عن وجه أحببته ومضى، هكذا أصبح أنا وتلك المدينة.. مطعونتين بالهجران، بيد غريب أتى.. قصّ حكاياه ومضى..”. ثم جاءت الحرب ووجدت عبير روحها المنهكة تائهة في الجانب الآخر من الأرض، في مونتريال العصية على الفهم أيضا، التي كتبت فيه روايتها الأخيرة “سقوط حر” الصادرة أخيرا عن دار هاشييت انطوان، حيث تشبثت في غربة من نوع آخر بحكايا الغريب الذي قصها ومضى.
حين كنت مع صديقي القاص أحمد يوسف عقيلة في كوخه الجبلي، خارج المكان والزمان، قرأت الصفحات الثلاث الأولى من رواية “سقوط حر”، خفتُ فتوقفت، شيء ما يشبه خوف البدوي الذي يجد نفسه فجأة في مدينة صاخبة ومزدحمة، أو كمن يقف على أبواب غابة موحشة يريد عبورها وحيدا، وكانت فكرة عبور المدينة المزدحمة أو الغابة الكثيفة دفعة واحدة ودون توقف اقتراحي الذي وافقَتْ عليه الرواية دون تردد، فأجلت قراءتها إلى وقت أفضل أكون فيه أكثر استعدادا لأظهر شجاعتي، ومكان أفضل من هذا الأفق المعتم الذائب في زرقة تتناثر فيها الغيوم الداكنة كأشباح، وكان المكان المقترح قبوي تحت البيت الذي احتميت فيه من قذائف ورصاص الحرب الغبية التي لا مبرر لها سوى التحكم في وتيرة النمو السكاني في مجتمعات تتكاثر كالبعوض دون أن تفكر في مصير السلالة.
إنها رواية عن الخوف؛ أو بالأحرى عن غنائية الخوف حين يغدو مونولوجا داخليا مطبقا على تفاصيل الحياة اليومية، الخوف الذي لا يتوقف عن الظهور كمهرج في سيرك يمزج بين الفكاهة والرعب في مركب مستحيل، وكل مرة كان يظهر في سحنة وهيأة جديدة، شبيه بذلك الخوف المبجل الذي عثرت عليه في رواية لعراقية نازحة من وطنها العراق إلى باريس؛ رواية الأجنبية لعالية ممدوح.

ليس الخوف المألوف لدينا، والمعرف فلسفيا وسيكولوجيا وبيولوجيا، لكنه خوف مرح تبتكره الرواية، مرغوب وحميمي أحيانا، ومترف في أحيان أخرى. خوف غامض مجهول المصدر تحافظ عليه ياسمينا مثلما تحافظ على جواز سفرها أو بطاقة هويتها، والسرد تقنيتها للنبش في ذاكرة هذا الخوف وتتبع سلالته الجينية أو معرفة وقت ميلاده “ليس لأني أرفض البقاء على قيد الحياة كما اعتقد الجميع، بل لأني أعشق حتى الموت، البقاء على قيد الخوف.
في هذا السياق تحل مفردة (الخوف) مجل مفردة الحياة بتبجح طريف ومرعب. خوف المؤمن من الله يجعله يحل فيه عبر طقوس صوفية قاسية تسعى لنفي الذات، والخوف من الخوف يفضي إلى تكتيك مماثل، أو كالمصاب بفوبيا الماء الذي، كمحاولة للتغلب عليه، يضع يديه على عينيه ويقفز في بحيرة باردة وعميقة.
تنصب الرواية محكمة شاملة في الذاكرة، وتمضي في استجواب قاس لكل الوقائع التي أفضت إلى صناعة هذه الشخصية التي يزداد جمالها الروائي بقدر ما تزداد وقاحتها في الحياة اليومية. الجميع والأشياء والأحداث ماثلة في قاعة هذه المحكمة، تستدعي الأدلة والقرائن والشهود أمام مرافعة فارهة في محاكمة لا ينقصها سوى القاضي والجريمة. لا أحكام تصل إليها كما تعبر الرواية عن أخلاقيتها الفنية، بينما الفكاهة التي تخرج لسانها أحيانا من قلب الرعب تقترح أن الجريمة في هكذا محاكمة هي الحياة نفسها التي اختارتنا ولم نخترها. الضمير المتحول بين المتكلم الفرد والمخاطب والمتكلم الجمعي، والتغلغل في سيميوطيقيا الذاكرة وتحليل مرسلاتها، المعمار والملابس وتعابير الوجود الصامتة، تدخل جميعا بكشاف ضوئي تلك الزوايا المعتمة في ماض كان يخطط ببراعة لأقدار أرضية لا يمكن مراوغتها أو التحكم فيها.

“عندما كنت أحب أبي وأسمح له أن يحبني” تتكرر هذه الجملة اللازمة مرارا، وكأنها لحظة التنفس العميق في سرد لاهث لا يجد متسعا للتوقف وكأن الرواية جملة واحدة لا تتوقف. العلاقة المعقدة والمركبة مع الأب تختزلها هذه الجملة التي يقض منطقها الطبيعي دخول (أسمح له) وهذه الـ “أسمح له” ستكون مساحة الحرية التي تتحرك فيها ياسمينا في كل حياتها، إنها المسافة الضرورية التي تجعلها في قلب كل علاقة تعيشها لتظل مسيطرة على قدرها وعلى أهبة الانسحاب في أي وقت تشاء، وهي جملة مربكة لكل من تربى كنبتة ظل منزلية في جو عائلي يشبه عائلة أسامة الذي سيصفي اللاوعي حسابه معه أكثر من مرة، وتبلغ العلاقة ذروة تعقيدها حين تحقن هذه الجملة باقتراح لنهاية اللعبة عبر جملة أخرى أكثر تعقيدا “أردتَ أن تموت وأردتني أن أكون قاتلتك.”.
يقول ميلان كونديرا ما فحواه أنه سعى دوما لأن يحمي روايته من آفتين؛ آفة أن تُحكي وآفة أن تتحول إلى عمل سينمائي، لكن رواية “سقوط حر” يبدو أنها تسعى للتخلص من ثالثة، وهي آفة الكتابة النقدية عنها، واكتفت الرواية، وهي تغمزني بعين خبيثة، بأن صدّرت لي كل الخوف الكامن فيها ممزوجا بمتعة في خليط اختبرته ذات يوم عندما تأخرت بقطيعي في الغابة وحين غربت الشمس بكيت، ولا أعرف حتى الآن ما إذا كان سبب البكاء الخوف من الليل أم جمال الغروب.

مقالات ذات علاقة

أقتلـــــــني يا…..

جابر العبيدي

العقيلة

المشرف العام

من الذي تغــيّر؟!

يوسف القويري

اترك تعليق