المقالة

من الذي تغــيّر؟!

من أعمال التشكيلي علي الوكواك
من أعمال التشكيلي علي الوكواك

 
“كان من الضروري أن نحلل بعض جوانب العلاقة بين المثقف والسلطة السياسية، وبين المثقف والواقع الاجتماعي لنصل إلى هذا السؤال.

هل تغير المثقف الليبي؟!
إن الطلائع المستنيرة في هذا الوطن تتعرّض ككل شيء آخر في الحياة إلى التغير. ولكن في أيّ اتجاه؟! ذلك هو السؤال!
من الواضح أنّ الشخص قليل الإدراك يتغير في اتجاه رديء أو جيد بتأثير الظروف المحيطة به، وبقدر ضئيل من إرادته. في حين أن الشخص المستنير لا يحمل هذا الاستعداد الكبير من التلقائية الذي يحمله الشخص القليل الإدراك، فهو يقاوم الظروف حين يكون دفعها في اتجاه رديء، ويساعدها ويتلاءم معها حين يكون دفعها في اتجاه جيد, وبالتالي فهو يقود حياته ويرى ظروفه من فوق في نفس اللحظة التي تغمره فيها. أي أنه يستشرف ويرى أبعد مما تحت قدميه.

هذا هو المفروض نظرياً ..
ولكن الواقع لا يُقّرنا على هذه المعادلة الحاسمة. فالمثقف كثيراً ما يساعد – بملء إرادته – الظروف على دفعه في اتجاه رديء، بل هو يساعد هذا الدفع – بحكم وضعه الخاص – على الانتشار وإلحاق الأذى بالآخرين الذين يقلدونه أو الذين يستسلمون لما يُبشر به عفوياً من طُرُز في سلوك العيش ورؤية للأحداث، ولقضية المصير.
والمثقف لا يستسلم للدفع الرديء لأنه شرير أو خبيث، إنه لا يستسلم بسبب صفة اخلاقية بل لأنه فقد الثقة نهائياً، أو على الأقل ضعفت ثقته بجدوى الفكر وقدرته. وهذا الموقف يستتبع إلغاء الثقة بمسألة خلاص الواقع الاجتماعي من المباذل والمفاسد وفظاعة التخلف والجهل، أي بإلغاء الثقة في حركة الواقع الاجتماعي. فقد ملّ المثقف بطء هذه – الحركة – وتعقدّها وتناقضها الطاحن. وفرض عليه موقفه النظري الرديء موقفاً واقعياً أشد رداءة.
والموقف النظري مسألة جوهرية. لأن ما يدور في العقل تتحرك به الأقدام خاصة حينما يكون هذا التحرك متجاوباً مع تلك الآمال القديمة التي كبتها المثقف ولم يفلح في تصفيتها، وهي آمال الاستقرار، والدخل المرتفع الثابت، والرصيد المتزايد في البنوك، والحياة الشخصية المُحصّنة القائمة على مفهوم أنا وليذهب الكل إلى الجحيم.
تلك هي تفاصيل آمال الطبقة الوسطى، وهي آمال إنسانية إذا كانت في ظروف اجتماعية متكافئة، ولكن حين تكون على حساب اسقاط الحياة الاجتماعية ومفاسدها من الوجدان فإنها تكون آمالا أنانية، ويكون تحقيقها – في الغالب- عن طريق تخدير جزء كبير من الضمير!

لقد أهاج انتعاش الطبقة الوسطى، بالإضافة إلى عوامل الجزر السياسي العالمي، وعوامل الجزر الاجتماعي الداخلي في فترة من الفترات، أهاج كل ذلك أماني المثقف نحو الحياة الفردية الهينة القليلة الأهمية، والقليلة الكدر، ودفعه إلى معاملة المصير الوطني على مستوى شخصي، فما دام هذا المصير يتعثر فلا بأس من أن يتركه ويريح نفسه من العناء، ويكفيه أنه بذل ما بذل في إنارة الأذهان، وهو لا يريد أن يموت – بعد جهاد فكري يظنه طويلا – كما مات العملاق العالمي الكونت تولستوي في محطة سكة حديد صغيرة منسية وفي قدميه نعلٌ مُمزق، وعلى جسده ملابس كملابس البؤساء”.

“وتشبه حالة المثقف حالة الجماهير التي تحركت مشاعرها مع الانطلاقة الجبّارة التي أعقبت حرب السويس فمدّت أبصارها إلى آخر الرحلة دفعة واحدة وبنفاذ صبر، وحين تعثّرت الرحلة وبدا أنّها تتعرّج، انخفضت الأماني وتبدّدت المشاعر وانجرف الشعور السابق إلى حضيض يأس فظيع تنمو على جدرانه كل نوازع الأنانية والحقد والغضب، فقد انتهى الحلم الساذج، المنتفخ كبالون الصّبي، وصار الطامحون كالسُكارى ليس لهم هدف واضح.
لقد تغير المثقف حقاً في اتجاهات متعددة، جيدة ورديئة، وبالمثل فإن الرأي العام قد تغير بدوره بتأثير عوامل كثيرة أبرزها البترول الذي هزّ جذور التكوين الطبقي الساكن في المجتمع.
وبمعنى آخر فقد تغيرنا جميعاً، وبعبارة أكثر دقة فقد تغير الواقع الاجتماعي وتغير أيضاً الفكر النظري. كلاهما تبدل، ولكن المهم هو الاتجاه.
ونحن نعتقد أن الاتجاه السليم هو الوطن، هو أرضنا التي نقف عليها. اتجاه يحمل تجارب الماضي وإخلاصه، ويحمل إلى جوار ذلك حماس التطلع إلى المستقبل”.
_________________________________________  
جزء من مقال: من الذي تغيّر؟!

مقالات ذات علاقة

الموسيقى التصويرية.. من “غزو الجنة” إلى عمر المختار

المشرف العام

أخرج من جسدي ارجوك لا تؤذيني

مفيدة محمد جبران

ما أفسد العطار

منصور أبوشناف

اترك تعليق