من أعمال التشكيلية فتحية الجروشي
سرد

مـجــدداً

من أعمال التشكيلية فتحية الجروشي
من أعمال التشكيلية فتحية الجروشي

“دير بالك عليها يا ابني .. هاي متل اختك”
هكذا كانت جارتنا السورية (كاترينا) توصيني على ابنتها (أيفا) التي كانت تدرس معي في الابتدائية.. فآخذ بيدها في كل مرةٍ صوب مدرستنا البعيدة.. أمرّ بها في الشوارع الخالية من الأولاد المشاغبين.. كانت طائشة تفلِتُ يدي كثيراً فأنهرُها فتبكي فأُراضيها.. ذاتَ مرةٍ تعرّض لنا ولدٌ يريدُ ضربها.. قلتُ لها اركضي أيفا.. اركضي ولا تتوقفي.. ثم اشتبكتُ معه في شجار صبياني انتهى بدماء تسيلُ من رأسي.. وعندما وصلت كانت أيفا تنتظرني عند باب المدرسة وتبكي.. ثم أخرجت برتقالةً من حقيبتها وقسمتها بيننا احتفالاً بنجاتنا.. بعد انتهاء المدرسة أنتظرها وكُلّي حنقٌ لأنها تؤخرني عن اللعب.. ثم ما تلبث أن تأتِ بابتسامتها البريئة.. تقول ( خلصنا الدرس.. بدك تحمل عني شنتايتي هلأ .. يلا عالبيت ) .. ثم تمسك يدي.

يا الله كيف كنا نقاومُ الحياةَ من أجل أحبتنا منذ الصغر.. أحبتنا الذين لا تربطهم بنا سوى محبة غائرةٍ في الصدق.. ما الذي حصل ؟! من تدخل لـ يخلق هذا البون بين القلوب بشكل مخيف ؟!
لا أدري لماذا حدّثتكم عن أيفا .. لكنني وجدتّ صورتها فذكرتني بكل هذا الشجن.. بأمها كاترينا وأختها كاتيا .. و كيف كانت أمها تنفث دخان سيجارتها في الهواء كمن يخرج من رئته وجع الغربةِ على مهل.. تقول لي :بس تكبر يا مفتاح رح زوّجك أيفا.. فتضحك أمي كثيراً .
انتقلنا من ذلك الحي وكبُرنا واختفت أيفا وأهلها.. ولم أعلم عنها شيئاً بعد ذلك.. لكن الشيء الذي لم يتوقف هو أنني لازلت أقاوم الحياة بضراوة للآن.. في كل صباح آخذ قلبي من يده و نذهب.. أتحاشى وإياهُ أزقّة العمر المليئة بالأوغاد.. وفي كل مرةٍ يعترضنا فيها حزنٌ ما.. أقول له : اركض أيها القلب.. اركض.. ثم يصرعني الحزن أو أصرعه !!
وصرتُ أكبرُ على مهلٍ وأبتسم.. حتى مات أبي فتوقّفت.. فصرتُ أبكي على مهلٍ وأذوي.. لا أدري كيف عشتُ للآن من بعده لأكتب لكم رثائي المبكر لروحي.. ولا أدري أين هو القاعُ أيضاً.. من المفترضِ أنني الآن متناثرٌ فيه .. فـ مُذ رحيلهِ وأنا أهوي !! قال لي مرةً : لو نجحت بتفوق هذه السنة فأسشتري لك كرة.. لكنّه رحل سريعاً.. و استحالت روحي كرةً تتدحرجُ فوق ملعب الوقت و لا تنتهي .. هذه المبارة القذرة لا تنتهي أيها الأصدقاء .
أمّي أَخبرتني أنّني صرختُ كثيراً يومَ ولدتْ.. لم يكن صُراخاً عادياً .. 
حتّى أنّها فكرتْ أن ترُدني من حيثُ جِئت !! لَكنّها احتضنتنِي.. مُذ ذاكَ و أنا أَصرخُ كلّما تَخطّفني النّاس مِن حُضنِها.. لا مخبأ يكمنهُ مواراتي عن السفاحين سوى قلبها .
حسناً.. لا أعلم ما الذي تفعله الآن أيفا.. وهل تتذكر شيئاً مما كان يجمعنا.. هل يأتِ ببالها كيف كنتُ أواري عنها طقطقة أسناني من البرد في طريق المدرسة.. و كيف أنني كلّما تذكرتُ ركضها بعيداً كنت أصرخ أن عودي .. عودي كي لا تأكلك وحوش الشوارع .. هل تزوجت؟ من يحمل حقيبتها؟ من ذا الذي يحرس روحها الآن ؟! 
هل تعلم تلك الشآمية أنني صرتُ أحمل عشرات الحقائب.. واحدة مليئة بالألم.. وواحدة بالهجر.. وأخرى بالخذلان.. وتلك بفرحٍ عابر لا يكادُ يُرى.. يا لظهري المسكين حين يحنّ لـ حقيبة كتبٍ فقط .!! 
منذ فترة قليلة وبحكم عملي في مجال التحقيقات.. وصلتنا عدة جرائم اغتصاب .. و كان من بين المغتصِبين شخص شعرتُ لوهلةٍ أنني أعرفه.. ثم اتضح لي بعد ذلك أنه ذات الشخص الذي تشاجرتُ معه في صغري من أجل أيفا !! يا إلهنا العزيز.. أيُعقل أن يستمر الشر في النفس البشرية وينمو دون أن يقطع رأسه أحد ما ؟! كيف لهذا الفتى أن يكبُر على حب الأذية بكل هذا القبح ؟!

يحدثُ أن تنام و تحلُم بالهروب من كل هذه القذارة.. من الناس.. وحتى من ظلك.. ثم تفتحُ عينيك وأنت تلهث.. بينما ظلّك يبتسمُ قائلاً : خُذ نفساً عميقاً و لا تبتعد كثيراً مرةً أخرى !! لـ تجد نفسك في عمقِ لزجٍ يكاد يخنق روحك.
أبدو الآن كـ بِركة تعترضُ الطرِيق .. يعبرني الجميع بـ قفزة 
واحدة.. وأنا لا أفعلُ شيئاً سوى أنني أعكسُ صورهم على صفحة قلبي وهم يقفزون !! 
وحدهُ الحبّ يهوّن علي كل هذا البؤس.. يمدّ يده الرطبة في كل مرة لـ ينتشلني.. يحوطني من كل جانبٍ ويدفع عني نصالَ الحزنِ بما يستطيع.. الحب مرفأ تستقرّ فيه أفئدتنا بعد كل سفر مضنٍ .. قُل أنا أحب وأنتَ تائه .. وانظُر للسبيل كيف يلوّح لكَ أن امضِ من هنا يا صديقي .
الحب وحدهُ من يشعر بأيامنا .. ويمشي العمر معه ببطء.. العمرُ الذي لطالما ركضَ بقوة.. ونحنُ لا نفعلُ شيئاً سوى الرجاءُ بأن يتمهّل.. قليلاً فقط .. قليلاً بما يكفِي 
لـ نسنِد أرواحنَا على كتفِه !!
لأيفا البعيدة محبة بعمق تلك الأيام 
ولـ تلك الأيام أيضاً قبلة ابتسامة من وجه أيفا

مقالات ذات علاقة

رواية ديجالون – الحلقة 14

المختار الجدال

لقمة فرح (راية النصر)

محمد الأصفر

غياهب الحي المقابل

اترك تعليق