“ستين مارة”*
كلّما شعرت بضيقٍ ما لا أعرف مصدره، أرتدي ملابس الخروج وأُسرع الخُطى إليها. لا أفتح الثلاجة لأعد حبّات الطماطم ولا أتفقد خزين البيت ولا أُريد أن أعرف ماذا ينقصه، أريد فقط أن أستجيب لنفسي وهواها.
هواها تلك اللحظة، الحكي!
الهدرزة*، الحديث عن أي شي وأي موضوع، حديثٌ خفيف وبسيط ولا علاقة لي به !.
ليست أحجية فعند( مارا ) ما أريد، وعندها عندي ما تريد.
أنا غريبة في بلادها، وعندي حالات غريبة أيضاً، أسميها اختراع حالة، والبناء عليها كهذه الحكاية التي بين أيديكم.
عندما تبدأ الأعراض في الظهور أخرج وحدي، وأقطع الحي الصغير الذي أقطنه مسرعةً، واسمع التحايا المحبَّبة إلى قلبي وأردُّ بأحسن منها، كلهم يعرفون هذه الخطوة، وهذا الاتجاه المستقيم، فلا حاجة لي اليوم ب(ڤيتّي) ولا (البانو) ولا (ميكيلي) ولا ما يعرضونه في محلاتهم.
والحقيقة أن ما عند (مارا) في صناديق البلاستيك الصفراء والحمراء وبضاعتها الملونة بألوانٍ ساحرة هي أيضاً لا حاجة لي بها أيضاً.
حاجتي بمارا شخصياً وهي تعرف ذلك.
مارا مازالت متألقة وأنيقة، ولا تهتم بالسنين التي ودَّعَتْهَا ولا سنينها المقبلات، ترتدي ملابس تعجبني، ولا تنزع المريلة أثناء العمل، مارا على مُحَيَّاها مسحة جمالٍ عريق وممتد، منذ استوطنت جدّتها الأولى هذه البقعة من الأرض وحتى ذلك الصباح حيث تجلس مارا في دكانها تنتظر رزقها وتسعى إليه.
عندما أزورها بلا “الكاريلّو”*
ستعرف أنني لن أشتري شيئاً وستدرك ما بي وسترد التحية بقبلاتها وطيبتها وتقدم أحد الكرسيين لي، وتجلس على الثاني وتمازحني:
-ما بال جميلتنا هذا الصباح؟
وأسعد بالتهنئة والمُجاملة
وأنفي أن يكون بي شيئاً، لكنها تُجَرجِرَني بالحديث وما أن أبدأ حتى تلتقط الكلام، وتبدأ في الشكوى، من حياتها، وعمرها، وتعبها، وإخلاصها لمن حولها، وعدم دعمهم لها، وغضبها من روما، وتكاليف المعيشة فيها ومن ڤيتي، والبانو، وميكيلي، وعدم صبرهم على ديونها المتراكمة.
وأسمعها وأبتسم وأمازحها :
ما بال روما معك يا مارا؟ أي قسوة في هذه المدينة التي اتعبتك وهدّت كيانك ؟ لكنها روما يا ابنتها، ولا يصح في حضرتها إلا شكر حضنها الواسع الذي يحضن الدنيا ويحضنني أنا معها، وادندن (Grazie Roma che ci fai piangere abbracciati (ancora*. وتبتسم مارا وتساير
لحظات التجلّي التي انتابتني فجأة، وتدندن معي ثم تصمت وتعيد سبابها لروما وكل من فيها وما تلبث أن تنشغل بزبائنها وتنساني، الحقيقة لم تنسني تماماً، مارا أطفئت بعض غضب كان بي دون أن تعلم أو ربما داوتني متعمدةً فأصابت هدفين في مرماها هدفٌ يخصّها، وربما هدف يخصني. وأعود رائقةً شاكرةً لمارا علاجها الناجع السريع.
عفيفة على الضفة الأخرى من البحر المتوسط، قليلة الكلام، جميلة التقاطيع، بعينين خضراوين ووجه مستدير متوسطة الطول والعمر.
لا يبدو عليها أنها متزوجة، فالزواج يترك علامات على وجوه النساء ؛ بعض تعب ربما، أو بهجة أو الإثنين معاً، لا أستطيع التكهن بوضعها ومعذرة من المتزوجات ومن العازبات أيضاً.
أنا عادةً لا أميل للتعرف على تفاصيل حياة من حولي وبالطبع لا أسمح لأحد أن يفعل معي. فلم أتعرف على عفيفة بالكامل. عفيفة مثل مارا، سيدة نشيطة، تعمل في الصباحات مبكرةً دائماً، منظَّمة جداً، ملتزمة بمواعيدها لم يتحدث أحد من الحي عن غير ذلك. لم أر معها مساعداً أو مساعدةً فحيَّرتي هذا الموضوع، ولم استكشف الأمر.
لم أجرب عفيفة في حالات توتري أو قلقي ولم أُسمعها شيئاً عن مشاعري، لم تراني إلّا مبتسمةً، محييةً، داعمةً لجِدِّها والتزامها وانهماكها ونظافة محلها، ترتدي معطف أبيض لزوم العمل فتبدو كطبيبة وسط علب الطماطم والزيت واحتياجات المطابخ.
لم تُعطني كرسياً لأنهار عليه وأنثر مواجعي في كل اتجاه، ولم أطلب منها ذلك، فسني الشباب مَرَّت بسلام، والعمر يحتكمُ الآن إلى التجربة، والخبرة، والصمت الجميل، حتى أن عفيفة عرضت علي ذات صباح أحد الكرسيين الذين بجوارها، فجلستُ متأهبةً لا أعرف ماذا يجري، وما كدتُ أفعل حتى جلبت عفيفة الكرسي الآخر وجلست بجواري، ولمحتُ آثار دموع وعلامات أسى على وجهها. و.. بدأت تحكي!.
أهلاً بك يا عفيفة!، قلبي ومشاعري وكُلّي لك هذا الصباح. احكِ يا شهرزاد.
*”ستين مارة” من لهجتنا وتعني : ستون علامة مشتركة بينهما.
*الكاريلّو: عربة التسوق بالإيطالية.
*grazie Roma: أغنية لـ Antonello Venditti. الأغنية غناها أهل روما لمّا حصل فريق العاصمة على كأس إيطاليا والمعنى شكراً روما حضنك من جديد يبكينا.