-16-
خلال وجودنا رهن الاعتقال في ماليزيا جرت عدة محاولات من جهات دولية إنسانية لإطلاق سراحنا وأخيراً توجت بموافقة المملكة المتحدة التي منحتنا حق اللجوء السياسي إليها.
عندما أبلغتني بشرى زوجة إبراهيم بخبر الموافقة على ترحيلنا أخذت أجري داخل العنبر وأصرخ من شدة الفرح، وسمع زوجي صراخي، أصابه الفزع وأخذ يصرخ في الجهة المقابلة ماذا بك يامرأة؟؟ وصرخت بأعلى صوتي لقد وافقوا على ترحيلنا.. كنت أضحك وأبكي في آن واحد، لم يصدق زوجي أول الأمر، وظن أني مصابة بالجنون أو أن أحدى بناتي أصابها مكروه.
بعد إعلامنا بالترحيل مكثنا بالسجن شهرين آخرين حتى إننا نسينا الآمر واعتبرنا الموضوع مجرد مزحة ومللنا الانتظار، قبل أن تبلغني ريشال وهي ضابط بوليس من أصل هندوسي بالإفراج عنا كانت أبنتي الصغرى – عمرها عام ونصف – ترتدي حذاء إحدى السجينات وتحمل حقيبة وتشير بيدها وكأنها تودع السجينات، حضرت ريشال وقالت بالإشارة أنت ستخرجين اليوم، رددت عليها بالا مبالاة وكأني سئمت هذه الإشارات وكثيراً ما كانت الشرطيات تمزحن مع السجينات وتعطيهن أمل الخروج من هذا السجن، ولكن أمسكتني ريشال بقوة وقالت بلغة خليط بين الإشارة والانجليزية والماليزية الركيكة… أنت يو قو باك.
لقد صدقتها هذه المرة، كانت معاملتها معنا رائعة فهي مؤدبة وودودة وكثيراً ما تقدم لنا خدمات خاصة، لذا قلت في نفسي ربما تكون صادقة لقد رأيت الصدق في عينيها ورأيت زوجي يجري نحوي يحمل حقائبه ويصرخ سنخرج من السجن فنزلت مسرعة واحتضنت زوجي كان يبكي وبكيت من الفرحة.
تجمعت حولنا السجينات مثل أول يوم دخلنا فيه السجن ولكن هذه المرة كانت الابتسامة الظاهرة والفرحة من أجلنا، قد تكون لغاتنا مختلفة وأجناسنا مختلفة ولكن جمعتنا لغة الابتسامة والفرح، كان الجميع يحضنني ويحضن بناتي، حتى من كان بيني وبينه سو فهم نتيجة اللغة أو عدم التوصل إلى ما أقصد.
طلبوا مني عنواني وأرقام هواتفي ولكني كنت لا أعلم إلى أين ستكون محطتي القادمة في بريطانيا لا يوجد عندي عنوان ثابت ولكني أخذت أرقامهم وعناوينهم واحتفظت بها لفترة من الوقت ثم ضاعت مني جميعها،
لقد أخذتني الفرحة بالحياة والحرية مما جعلني أنسى أو أني لم أتناسى الاتصال بأولئك الناس الطيبين والذين تعرفت عليهم وعشت معهم فترة من الوقت. غير إن اللغة في اعتقادي هي التي وقفت حاجزاً عندي.
فربما لقاءاتنا وجه لوجه تعطينا حرية أن نعبر عن طريق الابتسامة أو الإشارة أو الحركات الأخرى والتي تجعلنا نفهم بعضنا البعض.
جمعت بقايا ملابسنا كانت تبدو أشلاء ملابس متهرئة ممزقة تغير لونها من حرارة الشمس فكنت كثيراً ما أقف حتى تجف وهي فوق جسدي إذ لم يتسنى لي استبدالها إلا نادراً وكنت حين أجمع ملابسي أقذف بالأكل وعلب الحليب والشامبو للسجينات، وقادونا إلى مكان آخر داخل السجن هو عبارة عن غرفة كبيرة بقينا فيها حتى حضرت سيارة نقلتنا إلى شقة وسط العاصمة كوالالمبور.
كانت الشقة عبارة عن محطة انتظار للترحيل النهائي تحت حراسة مشددة جمعنا فيها نحن الذين سيتم ترحيلنا وفي اليوم التالي فك أسرنا نقلنا إلى المطار مباشرة، وفي نفس الصالة التي منعنا من عبورها قبل تسعة أشهر، والتي عشنا بين جدرانها شهرين عبرنا إلى بوابة الخروج النهائي من ماليزيا، هذه التي يحكى عنها بأنها جنة الله على الأرض والتي لم أرى منها إلا المطار والسجن والطريق إليه.
وجدنا الكابتن إبراهيم في انتظارنا هذا الرجل الذي سأبقى أكن له كل الاحترام والتقدير والمحبة الرجل الذي يندر وجوده في هذا الزمن تقدم منا إبراهيم وودعنا عند بوابة الخروج ودس في يدي مبلغ خمسمائة دولار والدموع في عينيه وعانق زوجي وقبل أطفالي واحدا واحد وبدأت الرحلة إلى لندن.
صعدنا الطائرة بأشكال غريبة هيئتنا ملابسنا أجسادنا تبدو وكأننا خرجنا للتو من القبور، ينظر إلينا الركاب بعضهم يشفق لحالنا والبعض الآخر لا يأبه لنا، صورتنا تعبر عن مأساتنا التي عشناها في ماليزيا طيلة تسعة أشهر كاملة.
لم نسمع شئ عن العالم الخارجي، ولم تصلنا أي أخبار ونحن في السجن، مشدوهين نرى العالم الذي عدنا إليه بحالتنا الرثة والهزيلة، ولا أخفيكم سراً بأننا كنا خائفين من المجهول الذي ربما يلاحقنا في محطتنا القادمة.
تعليق واحد
[…] اقرأ: رواية ديجالون – الحلقة 14 […]