من أعمال التشكيلية أسماء بشاشة
قصة

تشريح الديكتاتورية

كانت لدي مشاريع روائية مع الأيام تعلمت بأن التخطيط لكتابة رواية، أصعب بكثير من التخطيط للانقلاب على الديكتاتور، فحتى بلوغي الخامسة والعشرين، كنت مع رفاقي قد وضعنا عشرات الخطط، لإعداد انقلاب حقيقي ناجح حتى إن استمرار العقيد في الحكم كان بلا شك مكرمة منا، لأننا لم نضع أي من خططنا الكبيرة والمحكمة قيد التنفيذ، غالباً كانت المدرسة هي سبب، ثم احدى فتيات الحي، بعد ذلك جاءتْ أفكار صبيانية، تكاثرت في الذهن مع كم هائل من أفلام الإرادة الحرة، لولا تلك الأشياء السخيفة، لم استمر العقيد سنة أخرى.

من أعمال التشكيلية أسماء بشاشة
من أعمال التشكيلية أسماء بشاشة

بلغت الخامسة عشرة في عام 1984 وفي تلك السنة بالذات وضعتُ خططي الانقلابية الأولى معززة برسومات توضيحية لمناطق الحيوية، كما إنني عرفت الكثير من الأصدقاء، الذين لا يمكن الوثوق بهم، وأولئك الذي يجب الخوف منهم، مع قائمة هامشية طويلة، لأشخاص يجب الحذر منهم، لأنهم في جوهرهم يمثلون الديكتاتورية نفسها، ما حدث هو أن تلك القائمة الهامشية غدت مركز كل شيء مع الأيام اللاحقة أدركتُ بأن مسألة الديكتاتورية هي عبارة عن تحول الهوامش إلى أمور مركزية، واختفاء الحياة المركزية إلى الخراء بكثير من البهرجة اللغوية التي لا تقول شيئاً إلا لتخفي ما تود قوله في الحقيقة. قبل أن أتخطى الخامسة عشرة عرفتُ جيداً معنى أن تكون واضعاً لخطة انقلاب ديكتاتوري، وفي نفس الوقت أن تعيش حياتك على نحو سلس بحيث لا تثير الشكوك.
الوضع لم يكن هكذا بالمطلق حين بدأت بالتخطيط فعلياً لكتابة رواية سياسية. كنت مسحوراً بما كتبه ليونيد أندرييف كنتُ امتلكُ نسخاً قديمة من ترجمات ممتازة لا خيانة فيها، على الأقل بلا خيانة ظاهرية، لكتابات الروس مثل تشيخوف، تولستوي، الروايات الروسية القصيرة، السبعة الذين شنقوا، موت ايفان ايلينيتش، سوناتة لكروتزو، الضحك الأحمر، كورلكنو الموسيقي الأعمى مع كثير من الأحلام الأخرى، كنتُ بدأتُ أشعر بأن أدباء الروس مادة أقرب إلى المقدس، حتى بلوغي العشرين، كان عندي أعتقاد راسخ بأن تلك الكتب الأدبية مصدرها غير أرضي. كيف يمكن قراءة الراهب الأسود دون الشعور بأن ضمن النص طاقة فوق بشرية؟ هل يمكن كتابة شئ رائع كهذا، هل يمكن؟ إنه لا شك مذهل!
لكنني أتنقل بكم دون أن أخبركم كيف تعرفت على الكتابة، التخطيط لمقدمات سياسية. حسناً إلى جانب أن بلادنا لا شيء ثابت فيها، إلا إنني سأعمل على توضيح الأمر قليلاً، فمثلاً حتى بلغتُ الخامسة والعشرين، لم أكن قد تخليت عن مهمتي الأساسية. شيء من التحكم الذاتي كما سميته في عرف سياسي جديد، خاص بي وبمجموعة رفاق خياليين، إزدادت تقلصاً، ليس بسبب فشل الفكرة. الفكرة من حيث فكرة، بدتْ فوق العادة. قمة لا يمكن الوصول إليها إلا في علم السرية. هذا لا يعني بأنني أعتمد على الأوهام. كنت بالفعل أمتلك خيوط جميع التجمعات التي غدت أشبه بالخلايا السرية مع إنني كرهت هذه التسمية العدائية –الخلايا السرية– إلا إنها جاءت متوافقة مع التسمية التي ترمز لمهمتي الأساسية المتعلقة بقوة الكلمات، فهي تستمد قوتها من بذور الديكتاتورية، فبحسب الهيلغلية، فإنها بمثابة النقيض غير المعلن. أجل بهذا الشكل الحقيقي من المعرفة، استطعتُ أن أدرك بان الحقيقة السياسية المتحكمة بكامل الخيوط في البلاد، متعلقة على نحو عقابي بعالم الكلمات التي تبدو وكأنها تغلي خفية. كنتُ أمتلك ضمن حججي ما يؤكد هذا الإدراك الفلسفي. حقيقة كهذه لا يُمكن الإفصاح عنها لأحد، لذا ظلت فكرة التحرك السياسي بالنسبة لرفاقي الخياليين أمراً يفوق فهمهم القاصر والمتشبث بالصور الذهنية. هذه إحدى أولى العثرات التي جابهتني. الصور التي توجد في رؤوس المجموعة تعمل على إعاقة المفهوم العادي لمعنى الحقيقة السياسية في عمق كلماتي المغلية. كنت أجد الهدف صعباً، إنما أنا الساعي إلى تحقيق نصر سياسي على أخلاقيات الديكتاتورية، ما كنت لأنتكس لأجل مشكلة وهمية في رأس غيري، لذا بدأت أعمل على نحو لا يمكن التباطئ فيه، لأجل البحث عن الزاوية المناسبة لأكسب معركتي أمام الصور الذهنية منذ البداية كان السلاح الحقيقي ماثلاً أمامي: رواية سياسية ضخمة وناجحة.
مطلقاً، أبداً حتى لو يقتلني أحدهم بالفأس، لأجل ثلاثة جنيهات، لا يمكنني تصديق أن هناك شخص يكتب رواية لأجل هدف غير سياسي! هل يُمكن لتشيخوف المحبوب أن يهادن نظام القنانة دون أن يكون في عمق المسألة السياسية؟ ألم يعتبر بأن الرواية شأن للنبلاء، ألا يعني هذا الرأي رغبة سياسية من نوع ما من أجل تدمير المجتمع القائم، لأي سبب التزم بكتابة القصة دون سواها ألا يعني هذا بأنه يوجه أدبه للفقراء الذين يريدون قراءة النصوص السريعة ولا تلهيهم عن أعمالهم اليومية تمنحهم المعرفة بأوضاعهم، ألهذا السبب ترك رواية وحيدة غير مكتملة كناية عن مجتمع النبلاء القاصر؟ هل يمكن لدوستويفسكي أن يضع نهاية لأي فصل دون حشد هائل من الأفكار السياسية؟ هل يُمكن لأحد أن يقرأ لميلان كونديرا بعيداً عن السياسة؟ الأهم والأكثر قيمة في مجتمعي، فإن أقل نص شعري عن العشق، هو حدث سياسي بامتياز، لدي مجموعة كبيرة من الأصدقاء الشعراء السياسيين والثوريين، معلقين بملامحهم الملتزمة على جدار غرفتي، تماماً فوق الطاولة التي تحوي مخطوطاتي القديمة وقصصي وأشعاري القصيرة أيضاً، لسبب ما كنت أعاني مشكلة قصر نصوصي، والتي لم تصل مطلقاً لدرجة تكون معها مبشرة برواية ما.

الأمر مؤسف! فهمتُ آنذاك: “أن ما نظنه حلاً، يمكن أن يغدو مشكلة حقيقية”. هذه هي طبيعة الأشياء. أن تكتسب، معناه في الحقيقة أن تخسر دوماً بعض الأشياء، لذا الحل الذي اعتمدناه. صار بشكل لا يدع مجالاً للشك جامحاً لدرجة أنه يجب علينا أن نضع خططاً محكمة للسيطرة عليه. السيطرة على الحلول أمر يلغي المشاكل، وعدم السيطرة عليها، تزيد منها. كان الأسف واضحاً في الأعين. الفكرة التي وصلت إليهم، هي الحاجة لمزيد من الانتظار، المزيد من الساعات التي لن يحدث خلالها شيء، المزيد من المزيد. في تلك السنوات كان الانتظار يمثل بكل بساطة اللانهاية، مزيداً من الانتظار في اليوم، في الحقيقة لا يُبشر بالخير، كما إنه لا يُبشر مطلقاً بأي شيء آخر. كانت الحياة تغدو غالباً هامشية ذات صفات ديكتاتورية – في تلك الفترة – لأجل أشياء لا قيمة لها في الغالب كما إنها تأخذ أسلوباً غير واقعي، في الكشف عن نفسها، لم أعرف الحقيقة يوماً. ضمن إحدى النظريات التي كتبتها، ظننتُ بشكل قطعي بأن طبيعة البلدة هي السبب.
أحد الرفاق قال بصوت واثق: “ما هو الحل؟”. عندها كان يجب علي أن أفعل أحد الأمرين، أن أخبره بالحل، والذي أعرف بأنه لن يفهمه، بسبب تلك الصور اللعينة التي تشكلتْ في رؤوس سكان البلدة، سأكون عندها مضطراً لأن أشرح على نحو يسبب قتلاً للواقع السياسي الذي أعمل على خلقه بهدوء. إسقاط نظام ديكتاتوري يتطلب في الواقع بعداً عن كافة الأساليب التي يتبعها، أن تدبج بطريقة ما واقعاً مغايراً عن واقعه، محاولة شرح الفكرة ستعيدني إلى دائرته الديكتاتورية الكبرى، أية خسارة ستنتج في تلك اللحظة، إما أن أفعل هذا أو أن ألتزم بأفضل قرار سياسي على الإطلاق أمام الديكتاتورية، ألا وهو الصمت المقدس، العصيان المدني دون الإعلان عنه، الابتعاد الكلي عن أساليب الحكم السياسي، دعائم الديكتاتورية، البيروقراطية، الثيوقراطية، القبلوقراطية كما اختصرتُ فكرة حكم شيوخ القبائل -يمكن وضع نحت كلمة أخرى تمثل حكم التافهين- الذي شهدته البلدة خلال الفترة القاتمة من تاريخها. لذا التزمتُ الصمت ذاك اليوم. يمكن أن تتخيل كيف تسبب هذا الصمت بانسلاخ مجموعة أخرى من المشاركين الأغبياء. لنضع الحدث على نحو أكثر توضيحاً، بما يتضمن كلمات سياسية حقيقية، البلدة مسرح سياسي، الشباب وقود، الشيوخ عدو، النساء ينذرن أنفسهن للعمل الجاد على غرار ما أنتجته الإمبراطوريات الغالية. هذا ما أحسست بأنه ناقص بعض الشيء، العدو في الداخل. إنما كل شيء أخذ اتجاهاً مختلفاُ.
في تلك الفترة الصعبة بدأت أكتشف مدى صعوبة السيطرة على القوالب الروائية، كما يُمكن أن يتوقع أي شخص، بدأت بالكتابات الألمانية، توماس مان، هاينريش مان، هاينريش هاينه، هاينريش بارث للدواعي شخصية وتاريخية مع العشرات من القصص القصيرة من بينها كتابات لكُتاب أوروبا الشرقية والمنشقين الروس أمثال سولجستين. كنتُ أعتمد كتاب مثل نزيف الحجر كإنجيل سياسي من الدرجة الأولى، فيما بدأت أقتنع بأن العنف الروائي، هو الحل. أن أكتب أكثر الروايات تطرفاً وفي حالة إسقاط الديكتاتور، كتابة خطة محكمة، سياسية، عسكرية، قبلية عبر كل قرية في ليبيا، لكي أؤكد للناس بأن الديكتاتورية تتضمن فن التحكم بعملية إنتاج الصور الذهنية، فعلى مدى السنوات قرأ الشعب من على جداران المدارس، تلك الإيحاءات الذهنية، أعني تلك الإيحاءات الذهنية ذاتها التي استخدمتها لهدف معاكس.

مقالات ذات علاقة

ثلاثُ مقصوصات

المشرف العام

غيهب

هدى الغول

هـدف أكـيد

أبوالقاسم المزداوي

اترك تعليق