من أعمال الكيلاني عون
قصة

ضيف أجواد

محمد مفتاح الزروق

من أعمال الكيلاني عون
من أعمال الكيلاني عون

– ضيف الأجواد يضيف..
قلت لضيفي الذي احتل ركنا من مربوعتي* كل الضحى, وانكب فيه على قراءة المجلة والصحيفة تلو الأخرى.
أعلمته بهدوء أنني معزوم على مأدبة غداء لدى أحد أصدقائي, وأنني سأغادر المنزل بعد الظهر. كان رده الفوري أنه سيجلس في حديقة عامة مع بعض الصحف والمجلات منتظرا عودتي, وتراجع عن اقتراحه وصحبني بعد إصراري الشهير متحججا بالمثل الليبي الذائع على ألسنة أبناء الريف والجبل.

ولجنا سوياً تلك الصالة التي استلقى فيها من استلقى وامتد فيها من امتد وتمطى وجلس وقرفص فيها من تمطى وجلس وقرفص, وتحلق فيها بشتى الأوضاع عدد من معازيم مضيفنا في دوائر صغيرة يتجاذبون أطراف وجذوع ورؤوس وأمخاخ الكلام.
باستثناء ضيف ضيف الأجواد, الذي باغتته تلك المكتبة المكونة من عدد مهول من الرفوف الممتدة على اتساع حائطين محملة بعدد من الكتب المتنوعة مثل شجرة مثمرة فور دخوله.
أنشأ الضيف يدور بين الكتب. يرفع ويخفض رأسه. يتوقف. يمعن النظر في عنوان كتاب. يمسك بآخر. يفتحه. يتأمل الغلاف. يقلب الصفحات. يعيده. يصعد رفاً. يصعد آخر.

الناس عنه في انشغال تام إلا بعضهم. يرميه من حين لآخر شخص بنظرة عابرة أو متفحصة.
يصعد رفين. يشم رائحة كتاب. يمد أذنيه بين الأرفف ليسترق السمع لكتاب عن (بيتهوفن). يغمض عينيه وهو يتصفح آخر. يتحسس صفحاته بعناية. يمرر أصابعه على سطور كتاب يحمل اسم (برايل).
يهبط إلى أسفل. يصعد إلى أعلى. يصعد إلى أسفل. يهبط إلى أعلى. تجرفه أمواج الكتب. يسبح فيها. يحلق في فضاءاتها. يهبط على بسيطتها. يستلقي على عفائها. يتدثر بأوراقها.
تتشبث كلتا يديه بكتاب أخيراً. تهزانه إلى الأمام والخلف كمن حصل أخيراً على ضالته.
يدخل طفل صغير .. صاح: أربعة أربعة يا جماعة.

دنا كل الحاضرين من أنفسهم مشكلين معينات هندسية.. وبدأت قصاع الأرز تتوافد لتتوسط كل مجموعة. وطاف ولدان وشبان غير مخلدين بأكواب المشروب والمصير وزجاجات الماء البارد وثمار الموز المغلفة بالسلوفان.
ناديت ضيفي ليكمل الضلع الرابع في المعين, بعدما توقف حامل القصعة استنكارا للإخلال بشروط الرباعية. لم يسمعني إلا بعد أن أعدت الطلب مثنى وثلاث ورباع وخماس. جلس على مضض وهو يمعن النظر في صفحات الكتاب الشائق كما بدا لي. بدأنا في الأكل وأمسك بالكتاب وألقى به على الأرض. حمل الملعقة بيمناه. غرف غرفة من الكلام المطبوع ورفعه إلى فيه. نظرت إلى رفيقي الآخرين فوجدتهما في انشغال تام بالأرز واللحم عنه وعن وجبته السخية الكلامية الأخرى.

أوشك الأرز على النفاد تحت ضربات الملاعق وصديقي يمعن النظر في صفحات الكتاب, وقد ارتسمت علامات حزن واضحة على محياه. وابتسم عندما سألته: ألا ترغب بقطعة من اللحم؟! لكن ابتسامته لم تكن لي بل لجليسه الآخر الذي قبض عليه بشدة. أعلمته بأنني سآكل (لحمته الوطنية). لم يرد. كان الرفيقان الآخران قد أجهزا تماماً على لحمتيهما وأرزهما وموزتيهما وعلبتي مشروبهما. فرحت بقطعة اللحم الشهية بشيء من التردد. تخيلته سيمد يده دون أن يرفع عينيه عن الكتاب ويخطف لحمته, لكنه مد يده فعلا باتجاهي.. ومد يده الأخرى باتجاه آخر, وأخذ يحرك يديه إلى الأمام والخلف مقلدا سباحة الكلبة دون أن يحول عينيه عن الكتاب. بعد مدة عاد يمد يمناه ثم يسراه بالتناوب كسابح سباحة حرة.

تسارع الضيوف يخرجون من الصالة وحدانا وزرافات وهم يتأملون صاحبي فابتعدت حتى لا يفاجئوني بالسؤال المحرج:
– هذا مع من جاي هذا؟
تأزم الوضع أكثر باستلقائه على ظهره مسترخيا منهمكا في قراءة الكتاب. ثم استدار وجلس على بطنه وأصدر ريحا نتنة مصحوبة بصوتين قويين, واستمر في القراءة. دفعني الإحراج إلى أن أنظر إلى وجوه الناس لأعتذر نيابة عنه لكنني لم أجدهم. كان الجميع قد غادروا إلا أصحاب المنزل الذين انشغلوا عنا بجمع القصاع والأكواب وقشور الموز والعلب الفارغة.

كانت موزته وعلبة مشروبه لا تزالان أمامي. أمسكت بهما ودفعت بهما إلى وجهه وأنا أصيح بنفاد صبر: كل!
ضرب يدي واندفعت العلبة لتصطدم بالجدار. قشرت الموزة وبدأت في التهامها مع اقتراب مضيفنا في حلته العربية الجميلة وشنته الحمراء اللامعة. كان يبتسم ابتسامة غامضة من وراء شاربيه الغليظين وهو يعلن بتبرم:
يا مرحبا.. يا مرحبا.. آنستو يا سي..
قلت له دافعاً الإحراج عني:
ضيف الأجواد يضيف.. وأنا أشير إلى البلوى المنكفئة على الكتاب مثل حلزون.
قال المضيف:
خوذو راحتكم. المكان مكانكم..
وفوجئت به يصرخ في وجوه أولاده:
هيا خلاص.. كل واحد يسيب اللي في يده ويطلع.

لم يكونوا قد أنهوا العمل بعد. نظرت ناحية المصيبة التي أحضرتها معي فوجدته يسير بالكتاب وقد مد يده اليمنى إلى الأمام في حركة راقصة. وقد ارتسمت على وجهه علامات مشاعر نعرفها جميعاً. إنها علامة الفحل الهائج الذي صادف للتو نصفه الحلو. وانبطح بالكتاب وهو يرفع وسطه ويدق به الأرض بعنف. وارتحت عندما رأيته يهدأ وقد بقي من الكتاب صفحات بعدد أصابع اليد.

انشغلت عنه بأداء صلاة العصر خاصة وأن الشمس قد أوشكت أن تلجأ إلى مخبئها اليومي المعتاد. وحالما أتممت الصلاة كان قد أنهى الكتاب تماماً.
وقام.. وانبسطت نفسي وفرحت.. ناديته: لنخرج..
واتجهت ناحية الباب. لكنه لم يتبعني. بل اتجه ناحية الرفوف. وتأمل عناوين الكتب. تصفح بعضها, واختار كتاباً أخيراً, وجلس يقرؤه. ثم استلقى على بطنه. صرخت في وجهه: هيا.

كانت إجابته في غاية البساطة والبرود وهو يرفع يمناه إلى وجهه ويبسطها ثم يطبقها مخرجا سبابته ويضعها على أرنبة أنفه ويرد:
– أششششش..
نظرت مجدداً إلى مضيفي الجالس ممسكاً بسبحته وهو يردد توابع أذان المغرب.. قلت:
– ضيف…
وابتلعت بقية الكلام..
نظر إلي ثم قال وقد احمر وجهه: ضيف الأجواد يملّح*..
تظاهر بالهدوء دافعاً بعنف لون وجهه إلى الصفرة ثم أردف: نصلي المغرب جماعة.. وبعدها لكل حادث حديث..
صلينا المغرب, وقال عقب التسليم كمن يلقي أمراً عسكرياً نافذاً:
أنت تمسك يديه, وأنا أفك منه الكتاب.

كان يمسك الكتاب بيد واحدة, ويمد يده الأخرى إلى الأمام في حركة راقصة. أمسكت بيده وأسرع مضيفنا يفك الكتاب ويرمي به من النافذة. ركض الضيف خلف الكتاب, وألقى بنفسه من النافذة محاولاً الإمساك به.
صرخت في هلع وأنا أنتظر أن أسمع صيحته وصوت ارتطامه بالأرض:
– في أي طابق نحن؟
رد المضيف وقد بلغ صبره الحلقوم:
– ضيف الأجواد يـ….. هو وضيفه..
وقذف بحذائي من النافذة.. لكنني (على العكس من ضيفي) فضلت أن أنزل عبر السلالم نافذاً بجوربي..
_______________________________
*يملح: يعمل في صناعة الملح وهو مصطلح شائع في بنغازي بمعنى يذهب إلى الجحيم

مقالات ذات علاقة

كوشي يا كوشة

محمد ناجي

قووووووووووووول

رشاد علوه

أقــــــــــاصيص

جمعة الفاخري

اترك تعليق