الكلمة كائن حي يولد ويترعرع ويموت، ولكن كلمات الحق أطول عمرا. الشعر الحقيقي لا يموت. لا ينتهى بموت قائله، ولا بغروب وقت وسبب قوله، بل يعمر ويعود بقوة ما إن تحدث حالة تشبه سبب قوله.
أخذنا نحن، جيل الستينيات، بأشعار المتنبي ولكننا لم نعش حالة قول هذا الشعر، لم نعش تجربة الشاعر ومعاناته ولذلك كان حالنا، كحالة إعجاب بشريط سينمائي يبهجنا أو يشقينا، يسعدنا أو يحزننا، ولكن ما زالت أشعار البياتي حية نسمعها كل يوم.
أُخذنا بأشعار محمد الشلطامي وهو يقول: “.. ليل يجئ مع الغزاة وآخر. يمضى وفجرك ما يزال بعيدا”. أبهرنا الفزاني عندما قال: “النسر مات والبحر مات..”، وغمرنا إعجاب حقيقي عندما قرأنا لمحمد الفيتوري، ونحن طلابٌ في الإعدادية “قم تحرر من توابيت الأسى..” وعندما ردد ذات ليلة الفاخري مطلع قصيدة لا أذكر قائلها: “يا جفني الساهر نم.. لقد نامت حتى الظلم!” ولم يغب عنا الأستاذ راشد الزبير السنوسي قبل سجنه، ولا حسن السوسي وخالد زغبية.. وعلى صدقي عبد القادر.. وكثيرون من بلادي، وقدم لنا صادق النيهوم نزار قباني بـ (صيفه الأخضر وأجمل ألوانه). أما الشاعر عبد الوهاب البياتي، والمتنبي ظلا طويلا رفقاء سهراتنا. لم يكن هناك هذا الكم الهائل من القنوات، التي أصبحت تقدم لنا كل شيء.. سوى الشعر، فلقد اغتالت، ليس في ليبيا فقط ولكن في العالم كله، روح مشاركة المتلقي بخيالة عندما كان الترفيه يكاد يقتصر على (السينما) والمسرح، والحكي.. والشعر.
كلمات الشعر حية قوية، قد تَخلَدُ قليلا إلى راحة، ولكنها تنهض من جديد كلما مررنا بحالة تشبه الحالة التي قيل من أجلها الشعر. نحن، الآن ، أو أنا على أقل تقدير، نعيش الحالة التي وصفها الشاعر زمن نشر قصائده منذ حوالي نصف قرن، وكنت قد سمعت قصيدة يوميات العشاق الفقراء، سنة 1971 ولكن عندما ذكرت، في مقالتيَّ السابقتين، ما كتب عنها الفاخري والأبيات التي انتقاها عدت إليها كاملة.
يا إلهي! أحسست الآن بقوة القصيدة.. لأنني ببساطة أصبحت أعيش الحالة التي تناولها البياتي، لم أعد مجرد مستمع لروعة المشاهد والصور، والفرقعات التي أشعلها الشاعر في خيالي وقت سماعها، وإنما أصبحت أعيش تلك الصور والمشاهد والفرقعات بإحساس حقيقي بها لأنني أعرف حجم مأساة بلادي. كيف لا يقشعر بدني وأنا أقرأ هذه الأبيات وخيالي يسرى نحو ذلك الفجر:
“نغتصب الفجر بليل العالم الطويل
نبحر ميتين
لمدن المستقبل البعيد
…
نبحر ميتين
من مرفأ لمرفأ نهيم
ونحرق السفن
فكل ما كان وما يكون: لم يكن “
——
كيف، بالله، يمضى ليل الخناجر الطويلة.. كيف يأتي النور ونحن نعلم يقينا أن:
“مجوسُ هذا العصر في غربتهم يبكون
لم يظهر النجمُ ولكن ظهر السادة واللصوص
وشعراء الحلم المأجور
وأغمدوا سيوفهم في جثث الأطفال
وفقراء المدن الجياع
وحرفوا شهادة الأموات
والكتب المقدسة..”
ولقد تساءل الشاعر؟ مثلما نتساءل نحن الآن ، طوال الليل والنهار، ونتنصت أخبار العالم متي يجمعنا “الساسة المحترفون ورجال المال والملوك.. سادة هذا العالم المنهوك..؟” متى يجمعوننا لنتفق؟ متى نصل نهاية هذا النفق؟ فيقول:
“متى يأتي النور؟
ونحن في كل العصور حجر الطاحون
نستبدل الأغلال بالأغلال في الطابور
يبيعنا الطغاة للطغاة، والملوك للملوك
لكننا نظل صامدين
نموت واقفين نبحر ميتين
لمدن المستقبل البعيد
نغتصب العالم بالموت، بالثورة والرحيل
نموت في غربتنا ، لكننا نولد من جديد
نحب من جديد
نثور من جديد
نسقط في حبائل الملوك والطغاة من جديد
نذبح في ساحات حرب الآخرين، نطلق النار على الأخوة والأعداء
نحمل جرحنا على جباهنا وندفن الأموات
بلا تواريخ ولا أسماء
نقيم في قبورهم أحياء
نستأنف المسيرة الكبرى من الموت إلى الميلاد
نظل في كل عصور البؤس والضياء
معلقين بخيوط الأمل السوداء
منتظرين النار والطوفان “
…
“يا فقراء العالم المنهوب
اتحدوا!
با فقراء العالم المنهوب.
ألسنا فعلا فقراء ليبيا المنهوبة؟
ألسنا نحن من يتطلع إلى الخلاص؟
ألسنا نحن من يحتاج للاتحاد؟”
ألسنا نحن، الآن، من يحتاج إلى الاتفاق، لنتحد ونثور من جديد ونستعيد حقوقنا حتى لا تضيع دماء الشهداء؟ هل نتوقع أن ينهي مأساة بلادنا من نهبوها؟ أو من يريدون زوالها.. فيا فقراء العالم المنهوب اتحدوا.