إهداء إلى الأديبة والشاعرة حواء القمودي
يتهادى الشعر منتشياً إلى روضتها ….. تحملُ أبياتَ قصيدتِها وتزرعها في سانية “الحافي” …. تلاحقُ عصافير العشق وهي تفرد أجنحتها للهواء …. تتقي قيظ النهارات الحارة بظلال أشجار “الكروم” و”التوت” و”السباحي” …. تحادي سواقي الماء الباردة وهي تروي الزروع والورود …..تشاكسُ العطش وتبلل خيالاتها البكر … تحضنُ دفاتر أيامها ولياليها …وتسبحُ بشغف عميق بين سطور الصفحات لتهمس لنا بمعزوفات قلبها الياسميني، وفكرها المستنير.
أيه أيتها البنتُ التي صارت أنشودةً للبهجة …
تشرقين شموساً في أصبوحات الشعـر
وتسطعين أقماراً تهزم ظلام الوحشة
حواء.
مبتدأ الأنوثة … رجاحة العقل … ورحابة الفكر .. وجمال الروح
إليك جرار العسل وغابات المسرة …. وأضمومة حروف تزدهي بك … لترتقي سلم الفرح.
(2)
بهذه الكلمات البسيطة قدمتُ الشاعرة والأديبة حواء القمودي الحافي في برنامجي المسموع “الموعد الثقافي” حين استضفتها بقاعة إذاعة صوت طرابلس مساء الإثنين الموافق 21 ديسمبر 2015 لتسجيل الحلقة التي بثتت خلال نفس الأسبوع، وكان من بين أسئلتي الحوارية هذا السؤال المشاكس:
رغم كل هذه المسيرة الطويلة الزاخرة بالابداع فإننا لا نجد لكِ ديواناً شعرياً مطبوعاً، ولا كتاباً واحداً يضم مقالاتكِ ولقاءاتكِ العديدة. مَنْ نلومُ يا تُرى؟ المبدعة نفسها أم جهات الطباعة والنشر؟ ..أم أنَّ قصيدتك الرقيقة ربما لازالت تركض هناك خارج حقول البهجة ..؟
لم تكن تلك المرة الأولى التي أستفزُ فيها “حواء” بمثل هذا السؤال وألحُ عليها بضرورة تجميع إنتاجها الأدبي وإصداره سواء الشعري أو النثري، لأنني كنتُ أنثره بوجهها كثيراً خلال جلسات ولقاءات ومحافل عديدة، بل وحتى أثناء زياراتي الأسرية لبيتها العامر، ليقيني التام بأن المشهد الإبداعي في بلادنا يخسر كثيراً من عدم وجود أي إصدار أو مطبوع مجمع للأديبة حواء القمودي التي عُرفت بمثابرتها الإبداعية وغزارة إنتاجها المتنوع بين النثري والشعري والصحفي.
وحين أسرّت لي منذ شهور بأن حلم الإصدار صار يدنو من الحقيقة ويقترب زمنياً من أرض الواقع، ومن ثم أرسلت لي مسودة عقد الطباعة مع دار النشر التي اختارتها، فتحاورنا حول بنوده القانونية وأبديتُ لها بعض الملاحظات التي نقلتها إلى الناشر وسعت إلى مطالبته بتعديلها، كنتُ آنذاك أترقبُ بكل شغف مفاجأة الإصدار، ونوعيته، وشكله، وحتى تصميم الغلافين اللذين أرسلتهما لي لاحقاً قبيل دورة معرض القاهرة الدولي للكتاب، فأعجبتني فطنتها كثيراً ومراميها وغاياتها النبيلة حين اختارت غلاف (بحرٌ لا يغادر زرقته) لوحةً فنيةً تشكيليةً للرسامة المبدعة نجلاء الشفتري، وأخرى للتشكيلية الفنانة نجلاء شوكت الفيتوري لغلاف (وردةٌ تنشبُ شوكها)، لما يتضمنه ذلك الاختيار من رسالة داعمة وإشهار للفن التشكيلي خاصة الذي تبدعه المرأة الليبية في لوحاتها ورسوماتها الجميلة.
وعندما التقينا مساء الثلاثاء الموافق 29 يناير 2019 في شارع طلعت حرب ونحن في طريقنا إلى إتيليه القاهرة وخصّتني بالإهداء الأول لإصدارها المعنون “بحرٌ لا يغادر زرقته” تقول فيه (باكورةُ ابتسامةٍ ومحاولةُ أمل تحقيق وعد مع كل التحيات العطرة لك) وتخاطبني في إهداء “وردةٌ تنشبُ أشواكَها” قائلة (الأستاذ المبدع يونس الفنادي .. لعلَّ في الشوك ما يبهج) سررتُ كثيراً بهذين الإصدارين الخاصين بالأستاذة حواء القمودي، مع يقيني التام بأن منتوجها المتنوع لازال يتطلب المزيد من التجميع والإصدارات الأخرى لما يمثله من قيمة إبداعية وتوثيقية للعديد من اللقاءات والمقالات والدراسات النقدية المهمة لعل أبرز ما يحضرني منها الآن هو اللقاءين المهمين مع الشاعر الراحل محمد الفقيه صالح، والدراسات القيمة حول أشعار نصر الدين القاضي وقصص نادرة عويتي وشريفة القيادي وغيرها كثير كثير.
(3)
مع أول قراءة خاطفة للديوانين الصادرين للشاعرة حواء القمودي يتبين أن اختيارها لنصوصهما لم يكن بشكل إنتقائي معين موضوعياً أو متسلسلاً زمنياً، بل يبدو أنها لملمت ما توفر لديها من نصوص ودفعت بها للنشر منتشية بلحظات الفرح الغامرة بتلك السانحة الظرفية التي لاحت لها، ولهذا جاءت قصائدها الشعرية الحديثة متداخلة ومختلطة مع نصوص البدايات الأولى والبواكير الشعرية التي تفوح منها أنفاس مرحلة زمنية قابعة تحت وطأة الفكر الأيديولوجي المضطربة، والضجيج السياسي الثوري المتقلب، كما أن غياب التأريخ لكل نصوصها يجعل العودة إلى أجواء وظروف مرحلة ولادتها ونشرها مغامرة غير مضمونة الدقة، وذلك يفقدنا بالطبع إمكانية تتبع نصها الشعري زمنياً لرصد مظاهر تطوره الموضوعي والفني، باستثناء النصوص الواضحة المتسمة بروح التمرد والجرأة الشعرية التي نلمح فيها لغة وأسلوب الشاعرة فوزية شلابي في بعض عنفوان ألفاظها ومفرداتها التعبيرية الصريحة، سواء تلك التي تستحضر الأعضاء الجنسية الحساسة في الجسد الأنثوي أو الذكوري واستنطاقها بكلمات خادشة للحياء، أو البوح بالرغبة الشهوانية ولذاتها الخاصة، أو مظاهر السلوك الاجتماعي المتمرد على التقليدي السائد آنذاك، والتي أظن أنها لم تكن موجودة بالنص الليبي قبل نصوص فوزية شلابي ومقالاتها الصحفية النارية لمحاولة توظيفها في إطار السياق العام للنص، وأحياناً كتطريز خارجي باهت لا يتعدى دوره التقليد وإثارة الدهشة والابهار وزرع بذور الاستغراب في ذهن المتلقي، ويبدو أن شاعرتنا حواء القمودي نسجت على منوالها في نصها “طرابلس 94” :
اِخلَعِي يا بنتُ سِروالك الداخلي
اِخلعْ يا ولد سروالك الجينز
لم يعد وقتٌ للحبِّ
وطرابلس تجهشُ “تاكيلا”
ويتكرر ذات الأسلوب المتمرد على قوالب اللغة اللفظية والتعبيرات السلوكية السائدة في نصها (رقص):
أشتهي القهوة
وفمك
يتمرغُ بين نهدِّي
أشتهي المطـر
ولكن في جانب آخر يبرز صوت حواء القمودي الشعري الوطني منفعلاً غاضباً متدفقاً بالحزن والآسى والقلق وهو يتمزق ألماً وخوفاً على أحوال البلاد وما تتعرض إليه من محن وفتن، وتعانيه من تشتت فكري وتشظي إجتماعي، هذا من الناحية الموضوعية أما من الناحية البنيوية الفنية فإننا لا نجد شاعرتنا تولي عناية وافرة أو اهتماماً بالغاً بهندسة نصها الجميل (طرابلس 94) وصياغة تكوينه البنائي الشكلي وترتيب مقاطعه وأسطره، فتداخلت المفردات في سطوره وتجزأت بين أشطر متعددة، إلا أن اللازمة اللغوية التكرارية المتتالية بتنوع زمني متباين “توزعتُ، توزعتني، توزعتني، توزعني” نقلت لنا بصوت أعلى دوياً وصورة أكثر وضوحاً هواجس وقلق الشاعرة وخوفها وارتعابها من الحالة الراهنة التي تعانيها البلاد/الوطن، بكل دلالاتها المادية ومشاعر أعماقها واحاسيسها وأفكارها التي أفرزت وأطلقت سؤال ذاتها الإنسانية الشاعرة المستفز وهي تقول “أين أحطُّ الرحالَ التي هامتْ طويلاً” وظلت تبحث من خلاله عن حالة اطمئنان تسعى إليها وتنشدها:
البلادُ تنفرط بين يدي تنفرط في قلبي
وأنت الذي آثوي إليه في ليل الخريف
مستوحدة مستوحشة وأنت قاطن فيّ
أين أحط الرحال التي هامت طويلاً
توزعتُ بينك وبين هذي البلاد
هذي البلاد القاسية القاتلة الرحيمة المقتولة
توزعتني المنافي .. توزعتني أنتَ نهبتني منِّي
توزعني جسدي الذي خاتلني لينهض في قيامته
وأنا تنهبني أنت وهذي البلاد
وتختتم نصها (طرابلس 94) المتضمن الكثير من الجرأة والحدة، بمواجهة مباشرة مع المخاطب الذي تعدد له صفاتٍ ونعوتاً سلبية تلبسها عليه متتالية كالمطرقة القوية، وتختمها بكلمة مصنفة بالشوارعية والبذاءة وفق مدلولها ومعناها في اللهجة العامية الطرابلسية خاصة والليبية بوجه عام:
قُلْ إنَّكَ تافهٌ حقيرٌ نذلٌ كاذبٌ جبانٌ وتَيْس
حتى أرحلُ عن هذي الدُنيا دُونَ دَمْعَة
ولا يقتصر إنشغال الشاعرة حواء القمودي بهموم الوطن في هذا النص وحده، بل نجده قد تكرر في عدة نصوص أخرى بالديوانين، فنراها في (رحيق في قلبي) تقول:
هم يشعلون الحروب
تأكل أمنا الأرض
تسيل شهوة القتل
الصغار ليوم المدرسة يتأففون الصباح
قذيفة الكرة حديقة نار
تأكل اليوم والمدرسة والتلميذ
ظفيرة البنت شريطها أحمر
قلم الرصاص يتعلم يكتب الحبّ
ويشعلون الحروب يا ربي
وحبيبي عبدك
رسول العشق
يشعلون الحروب وأنت الله الجامع
وكذلك في نصها (الحلمُ يبكي) المستهل بتقديم تحية وسلام لثورة السابع عشر من فبراير حيث جاء مكتظاً بأسماء المدن الليبية “طرابلس، بنغازي، مصراته، تاورغاء” والأحداث المختلفة وأسئلة جلد الذات القاسية التي ظلت منثورة في فضاء النص بلا إجابات شافية، فطغت عليها توقعات الخيبات لمستقبل يترنح حد اليأس المرير:
وأقول:
سلاماً لفبراير إذ تقود
جحافل ثوار
ومشاعل الأولاد لا تضيء
وطرابلس تبكي بنغازي
وبنغازي تحصي موتاها
وتبحث عن مفقود
لا اسم له
من أين يا مصراته
نجد وطناً
والدم صار لا لون له
وأنا أكتبُ حلم النازحين
من أين يا تاورغا نجد أرضاً
والبلاد
التي أردناها سماءاً
لبالونات الفرح
صارت ترشنا بالدم
وبنغازي تحصي قتلاها
وتعد مآثر ثورة أشعلتها
والقناديل في يد البنات تضيء
لأن الأعوام صارت تكبر
والحرية لا باب لها
الباب في قلبي
قلبي الذي صار ملوثاً
والدم لا لون له
كما ترصد الشاعرة في نصها (أصابع اللهفة) بمزيد من الوجع والآنين والدمع الصامت الخفي بعض صور ومشاهد اجتماعية غريبة مستحدثة ظهرت في المجتمع الليبي وأصبحت سائدة تمثل تياراً لافتاً فيه، فسجلتها بحسرة وأنين وتنهيدات حزينة متبوعة بصراخ صوتها الشعري وفكرها الإنساني المصدوم في هذا الواقع:
أتعثرُ في الطريق
حجارةٌ .. حفـر
ورجالٌ
لحيٌّ طويلةٌ
وقفاطينٌ مُقَصَّـرَة
….
آآآآآه
كم أحتاجُ الصُراخَ
كتابة قصيدة عارية
تشهر حنيني لقبلتك
الشوق النازف لرائحتك
لكن
بلادي
تموت
وأنا واقفة
عند عتبة
السادسة والخمسين ..
(4)
إن نصوص الديوانين تزخر بعبق المكان الطرابلسي الذي يمثل هوية بالغة التمظهر موشاة بالعديد من العناصر الموغلة في الأصالة والعشق للوطن والمدينة والأحبة، كما يظل لموسيقى النص الداخلية الرقيقة حضورها المدوي في صوتها الصادح سواء وهي تغازل مسارب السانية أو تناجي أمواج البحر أو تستنطق عقود الفل والياسمين الطرابلسي المشكلة جميعها لوجه الوطن البهي والإنسان المعشوق لدى شاعرتنا حواء القمودي. وهي في هذا الجانب لا تقدم لنا موسيقى تنبع من إيقاع القافية التقليدية للنص الشعري بل تنبعث من توهج المفردة اللغوية العميقة المتراقصة والعبارة الشعرية المتماسكة بلهفة عناصر تأثيتها البيئية والفكرية المتلاحمة، في تناسق تعززه أسماء الأماكن والشخصيات ورقة ودقة سردية الأحداث والمواقف التي تصيغ الصورة الشعرية المتكاملة وأركانها المستنطقة فتعمل جميعها على توطينه في ذهن القاريء وجذبه إلى عوالمه المبهرة.
فالمكان الشعري عند حواء القمودي ليس افتراضياً أو متصنعاً أو وهمياً بل يتجلى حضوره البهي صريحاً حقيقياً في “سوق الجمعة” و”المنقيت” و”طرابلس” و”عيلة دردنو” و”يوسف الشريف” و”علي صدقي عبدالقادر” و”القرمبيول” و”الغزالة” و”الزرّاقة” و”الفحل” و”العلاقة” و”الجرد” وفضاء “السانية” بكل صنوف زروعها الموسمية وأشجارها العتيقة حيث النخلة السامقة والزيتونة المباركة والتوتة والكرمة والسباحي العريقة وغيرها، مما جعل الأستاذ منصور بوشناف في كتابته “أحزان زهر الرمان” المنشورة بالديوان الأول يقول (بأن اللغة “سانية” الشاعرة حواء التي تقاوم خراب الأمكنة). ويضيف (طرابلس في قصائد حواء القمودي تكبر وتتمدد لتصبح ليبيا، وكأن على سانية حواء أن تطعم هذا الفضاء الشاسع “ليبيا” لغتها كل صباح). أما الأستاذ سالم العوكلي فقد رجع بنا في كلمته “الحلم بين الانتظار والفعل” بالديوان الثاني لبدايات الكتابة عند حواء القمودي حين توارت وتسترت شخصيتها الحقيقية وراء قناع اسمه “دلال المغربي” فيقول (إن الشاعرة دلال المغربي تختصر الطريق وتشهر الواقع بكل ما فيه لغة شعرية).
ومن خلال تلك المعالم المكانية فإن معظم نصوص الشاعرة حواء القمودي تحمل بكل جدارة بصمات الهوية لكل من الذات المبدعة، والمكان الخلاّب المتمثل في السانية والحي والمدينة والوطن المعشوق بجميع مدنه “طرابلس، مصراته، بنغازي، تاورغاء” وأطيافه الاجتماعية، ولذلك فإن نصوصها تظل تكتسي بشكل دائم فيوض البهجة ومفاتيح التأمل والغوص في معانيها، لكي تتهادى بين جاذبية مفردات النص الشعري بكل هيام وانتشاء، وبين مضامين دلالاته القريبة والعميقة والتي تجلت أبرزها في (هي وعاداتها) و(طرابلس 94) و(الحلم يبكي)، و(تشتهي) التي أبانت فيها عن انقلاب واضح في مفهوم العلاقة بين العاشق/الشاعرة الإنسان وبين المعشوقة/طرابلس المدينة، حين صرّحت بأن المكان المعشوق “طرابلس” لا يرضى بأن يكون مجرد معلم مادي صامت، ولا يكتفي بدور المفعول به في الحياة، بل حولته شاعرتنا إلى كيان حسّي فاعل ومتفاعل مع محبيه، ممتليء بالشوق والحنين إليهم، له روح يشتهى ويشتاق بها لأحبته وأهله، فجعلته في تلك الصورة الشعرية الجميلة التي طرزتها لوحة مكتملة العناصر والأركان مكتظة بالألفة والإمتاع:
الليلةُ
تشتهيني طرابلس
كيف أقبعُ خلف النافذة
النافذةُ خلف السورِ
السورُ يقبع
خلف المدخنةِ
المدخنةُ تنفثُ كثبانَها
والبحرُ ينادي
(5)
رغم أن هذه القراءة سريعة وخاطفة إلاّ أنها لا يمكن أن تغفل الإشارة إلى الحكاية القصصية المفعمة بالمفردة الأنيقة، العفوية الظاهر والعميقة الدلالة، التي نسجتها شاعرتنا حواء القمودي في ثنايا نصها الشعري (ترتيب) وتهادت بكل عذوبة وسلاسة إلى فضاء الشعر مفعمة بأنفاس طفولية بريئة وزاخرة بعناصر متعددة بداية من “العلاقة” التي تصنع من سعف نخلات السانية، وهي ما يشبه الحقيبة الأن، تستعمل للتبضع وحمل ما يبتاعه الإنسان من خبز ولحم وفواكه وخضار، و”المسرب” وهو الممر الصغير الضيق وسط “السانية”، وطائر “ديك الحبش” الشرس، و”الحوار المزدان باللهجة العامية الطرابلسية” وكلماتها الخاصة مثل “فردات” وهي عبارة عن قطع خبز متوسطة الحجم، والسؤال والجواب العفوي والتصريح بالإسم الحقيقي “بنت القمودي الحافي”. إن جميع هذه العناصر المادية الحقيقية التي سكنت النص الشعري بكل صدقيتها وبراءتها وعفويتها وطفولتها الممتعة، وروح العلاقات الحميمية الدافئة بين شخصياتها وحركية صورتها المستنطقة من واقع ماضوي بهيج لازال طاغياً ومعشوقاً في قلب وفكر الذات الشاعرة لدى حواء القمودي، تجعله بتلك الإمكانيات والتقنيات البلاغية الثرية مؤهلاً وجديراً بأن يستوطن وجدان المتلقي ويتفاعل في أعماقه بكل ثقة ومحبة صانعاً الكثير من الامتدادات والخيالات والرؤى الأخرى، ومسترجعاً بعض الذكريات المشتركة في نفس السياق السردي:
كانت “العلاقة” تخر فخذي والمسرب يمتد
أركض .. لا يلحقني ديك الحبش
تفوح الخبزة
شباكٌ واطي
ثمانية “فردات” يتلجلج صوتي
“وين الفلوس ما عنديش جاية هكي تهزي”
بياض ناصع يسألني: بنت منو
بنت القمودي الحافي
أعطيها ..
أقفز أطير للسانية للحوش لأمي
يا بوي قال لي الراجل
يضحك أبي
تفوح القهوة الشاي
يفور الحليب
(6)
ولم يغب عن شاعرتنا في نصها (فلامينغو البنت الغريبة) أن تقدم لنا نفسها بصوت المتكلم وتعريفاً لشخصيتها المبدعة “البنت/الشاعرة/الإنسانة” وترسم صورتها البريئة، فتطرز جملتها الشعرية الجميلة مسكونة بهاجس السؤال والبحث التأملي الدائم المفعم بالحيرة والقلق ودروب المغامرة في سبيل المعرفة الأبعد:
أنا البنتُ القابعةُ عندَ بوابةِ اللَّيل
تنتظرُ ربَّ الكَائِنات
كيف الصعودُ إليه
الأرض تقيّد خطوها
روحها مثقلة
أما نصها المعنون (في انتظار) فهو يضيف لنا وجهاً جميلاً آخر، وفكراً عميقاً لشخصية تلك البنت/الشاعرة/ الإنسانة يوغل في البعيد ويناجي طيف خيال حبيبها ببوح يراوح بين التأمل الفكري العميق في صيرورة العالم، والتعبير العاطفي الرقيق عن لهفة التعلق والشوق والانتظار انطلاقاً من بديهية البحر لا يغادر زرقته واكتمالاً برسالة طيور “الخطيفة” المهاجرة حين تقول:
أنا فاغرةُ القلبِ
أرقبُ هذا العالمَ الخَرِبَ ينهار
الدمُ يغطي البيَاض
والصلواتُ لم تعد تعرِفُ .. أينَ تذهب
وأنا أنتظرك
أتسمّع وقع خطواتك الواجفة
نعم هذا العالم صار مقبرة
لكن الشمس تشرق
والنسائم تداعبُ خدود الصبايا
والبحر لا يغادر زرقته
والخطيفات تخبرني
أن طفولتي مخبوءة
تحت جناحها.
(7)
لا شك أن نصوص الشاعرة حواء القمودي بحاجة لقراءة نقدية أعمق وأطول تنطلق من إرهاصاتها الإبداعية ومنشورات بداياتها الأدبية، وحتى تتبع ورصد ملامح تطورها الفني والموضوعي وما وصلت إليه في الوقت الراهن، ولكن للاقتراب من كل تلك العوالم وللتعرف على فكر الشاعرة يستوجب مطالعة ما أسهمت به في الكثير من الأجناس الإبداعية الأدبية الأخرى كالدراسات النقدية والمقالات واللقاءات الصحفية، وهذا لا يتأتى ولن يكون متاحاً ما لم يتم طباعته وإصداره مثل هذين الديوانين (بحرٌ لا يغادر زرقته) و(وردةٌ تنشبُ شوكها) اللذين منحاني إبحاراً شعرياً وفكرياً ممتعاً في ربوع “السانية” الشعرية واستعادة الكثير من المشترك البيئي والزمني الذي يجمعني بتلك الفضاءات النقية الملهمة … فهل يكتمل العقد وتزدهي المكتبة بإصدارات جديدة أخرى للأديبة حواء القمودي؟