ومضات في الكتابة الليبية 22
النقدية المُطبقة، التي نعتمدها في ومضاتنا على الكتابة الليبية، تستدعينا إلى استخراج قوانينها، من تراكم المعرفة بنصوص معيارية من الموروث الأدبي العالمي تكون محكاً للحكم النقدي، الذي نتوخى به استظهار وإعادة صياغة الواقعة المجتمعية بما يندرج كمضمون مقترح لشكلانية تستهدف غرضاً شعرياً أو جمالياً.
هده التوطئة هي بمثابة إجراء يُدرج “سقف أزرق” للكاتبة هدى القرقني في سياقات القصة القصيرة، التي يفرقها إبراز “الحدث” عن سياقات القصة المطولة “النوفيلا” أو الرواية التي يتوارى فيها الحدث أو مجموعة الأحداث في تطور مساحة السرد الوصفي.
يمكن القول “سقف أزرق” تعتمد حدثين:
1 ـ تُبرز حدثاً واقعياً يتماس ذاتياً مع الساردة بضمير الأنا : “ذلك اليوم عندما خرجنا للذهاب للمدرسة كان أبي يقوم (بتسخين) سيارته كنا ننتظر ربع ساعة حتى ننطلق؛ أثناء ذلك جاء جارنا مسرعاً وطلب من أبي حديثاً جانبياً بعد رحيله رأيت على وجه أبي بعض القلق وأدركت أن هناك خطب ما… بعد يومين قال لنا أبي أنه تحصل على شقة وإننا سننتقل إليها في أسرع وقت. عندها عرفت أن جارنا قد طلب من أبي إخلاء البيت”.
2 ـ عبر مستهدف الشعرية والجمالية. تتوخى إظهار المشاعر الرومانطقية ـ النوستالجية الجاذبة لقارئ القصة الراهن الدي ليس له دراية بالمجتمعية. فتخفي الواقعة الحديثة التي تسببت في دراما المصائر التي تقصدت القصة الإشارة المواربة إليها: “إخلاء البيت” والانتقال إلى شقة في بناية ،وعندها قد أدركت الساردة بضمير الأنا أنها لن تستطيع أن ترى تلك السماء والنجوم وهي مستلقيه على ظهرها. فلم يعد هناك ذلك المربع الأزرق العاري الذي لا سقف له سوى السماء”
3 ـ تواري حدثاً مجتمعياً مسبباً للحدث الظاهر. باعتماد سرديتين سردية أولى ذات حضورٍ شخصي: “غادرنا شارعنا وذكريات البيت والطريق. بعد أن ودعنا جارتنا الحزينة… عائشة زوجة جارنا”صاحب البيت” التي كانت تأتي إلينا كثيراً في بيتنا القديم إد لم يكن لديهم أولاد كانت جميلة ذات شعر أسود، وبشرة بيضاء؛ أحياناً كثيرة تأتي ليلة الجمعة لتسهر معنا حتى منتصف الليل تخبرنا قصص (وخراريف) كان أقربها إلى قلبي قصة أبو زيد الهلالي. تلك الليلة لم تأت وطلبت مني أمي أن أذهب لأعرف سبب غيابها عندما دخلت عليها وجدتها تجلس في غرفتها وتحت ركبتيها سجادة الصلاة وقد بدت عيناها حمراوان من شدة البكاء وقالت لي والدمع يغالبها إنها تشعر ببعض المرض ولا تستطيع الخروج …”
الكاتبة تعتمد سردية الزوجة الأولى كمحاكاة معيارية. حتى نقصها بعدم إنجابها الواقعي للأولاد يتم تعويضه وإكماله بالقص أو الحكي أو التخريف بالمخيال الأسطوري الدي يجسده الفارس أبو زيد الهلالي كونه في الخرافة الهلالية الولد الذكر الوحيد لأبيه، رغم أنّه تزوّج من عشر سيدات”. بينما سردية الزوجة الثانية “الضرّة” فإنها ذات حضور موارب بوصفها خلفية فعالة تعتمد فيها الكاتبة طرائق المحاكاة الساخرة parody :”ولم أعرف السبب إلا ذلك اليوم عندما رأيت جارنا ومعه امرأة صغيرة تلبس فستان من الساتان لونه أبيض قصير وقد رفعت شعرها إلى أعلى كأنه سنام وشفتاها مطلية بلون أحمر فاقع ولأول مرة أراه يبتسم ومزهواً بعروسه … ولم أعرف أن هناك زوجات بالطلب عن طريق المكاتب إلا عندما سمعت أمي تخبر أبي بذلك وأن عروس جارنا قد أحضروها له بعد أن أختار صورتها ….”.
وضعنا “العروسة المصرية” عنواناً يشئ بمضمون ما كتبته القاصة هدى القرقني في “سقف أزرق”. لا يعني أن مهمتنا كانت إدراج قصتها في النوع القصصي المُصنف ضمن اتجاه الواقعية النقدية، فالمسحة الرومانطقية الحنينية لا تخفى طابعاً لسردها محنة اقتلاع الساردة من اليوتوبيا، أو فردوس الطفولة المفقود الدي حازه البيت القديم: “في الليالي الصيفية كنت أترك غرفتي وأضع فراشاً صغيراً على الأرض وأستلقي هناك ووجهي لتلك السماء البعيدة؛ أحياناً كثيرة تكون هناك نجوم بعدد أحلامي الصغيرة أظل أعدها حتى يغافلني النوم”. مقارنة بالدستوبيا المنافية للفردوسية: “عندما توقفت سيارتنا أمام تلك البناية أدركت أني لن أستطيع أن أرى تلك السماء والنجوم وأنا مستلقيه على ظهري … حتى سريري قد كسرت إحدى ساقيه فلم يعد صالحاً لأن يكون هناك في الأعلى …. لم أعد أرى كل شيء إلا من خلال تلك النوافذ المشدودة بقضبان وكأنها زنزانة”. هل يخفي الرومنطيقي الوقائعي بمنزعه النقدي. أم يكشف النقدي بفضاضة وهزلية وقائعياته، هشاشة الرومنطيقي. هدا هو السؤال الدي حفزنا لقراءة التشويق في قصة “سقف أزرق”.