لنتجاوز مفارقة العنوان، ونبدأ في قراءة قصيدة للشاعر الأميركي (روبرت بلاي) احالتها الترجمة النابهة لـ(عبد القادر الجنّابي) إلى قصيدة نثر بامتياز، مترسمين الخطوات التي يقترحها السيميائيون، فيما يتعلّق ببداهة الخبرة التأويلية بأن يضمر قارئ الشعر في داخله، قارئ نثر تتلخّص مهمته حسب ما حدّده (رولان بارت) في <درس السيميولوجيا> ” بالتوليد الدائم للدّال داخل النص أو ـــ لنقل الذي مجاله النص ــ. وهو ما لا يمكن إتمامه وفق النمو العضوي الذي يشرعه طريق تأويلي، وإنّما وفق حركة تسلسلية للتداخل والتغيّر. ففي النص يتحكّم منطق ولكنّه ليس منطقا تفهّميا “يحدّد مقصد الأثر وما يريد أن يقوله” بل نوع من الإفصاح عن الطاقة الرمزية تتوّخى التداعي والتجاوز، والإحالة فيما يمكن تسميته بمنطق كنايات ” فغالبا ما توجد تأويلات نثرية، يجب علينا كقراء للنصّ ـــ حسب(روبرت شولتز) في <السيمياء والتأويل> ـــ ” تجاوز إفشالاتها بفيض من الطاقة الشعرية حتى نجعل من النص شعرا” والتأويلات النثرية في القصيدة المقترحة لقراءتنا تستند على عبارات هي أوامر تحذير: “اقول إلى القارئ، احترس” ” تحذير إلى القارئ، “حذار أيّها الكتّاب “،يمكن أن نقارن انضباطها، وجرعة الصرامة المضمّنة فيها بتحذيرات السير، وتحوّط الآمان، والتنبّه إزاء الخطر.
تلك التي توجّه وتتوجه إلى العموم مثل: “احترس.. طريق منعطف”، أو “احذر.. حقل ألغام أمامك”، أو “أنتبه.. مواد قابلة للاشتعال” وغيرها من العبارات المعزّزة، المعوّض عنها غالبا ــــ بالعلامات ـــ، التي صارت في زمننا مجال الاشتغال السميولوجي. والتي تتوجّه للعموم: كسائق السيارة، والماشي في أرض مجهولة، والمشعل ـــ لغرض ما ــ عود ثقاب.
في الشعر عادة ما يتوجه الخطاب عبر “الجمل العلامية” ومثالها هنا “التحذيرات” إلى عموم القراء أو الكتّاب. إلاّ أنّ التحذيرات في النص الذي بين ايدينا موجّهة ليس إلى عموم القراء بل للقراء الذين يحبون “قصائد الضوء” رغم أنّهم” يجلسون على شكل حدبة في الركن ما من شئ في احشائهم طيلة أربعة أيام، النور يتخافت والعيون مفتوحة متجمدّة “، وأيضا ليس لعموم الكتّاب، بل للكتّاب الذين لهم علاقة بهكذا قراء والذين ” يرى المرء في قصائدهم عن “السجن” نورا صغيرا يوعد بمخرج “.
السيميائي (شولتز) يشترط علينا كقراء أن نجهد انفسنا في المشهد النثري، حتى تحضر ـــ القراءة الشعرية ـــ التي تنزاح بـ “التأويل”: المتطلّب لمهارة تتضمّن اهتماما قويّا بالمعنى النثري، مقرونا بالاستعداد للاندفاع وراء المعنى لتوليد معان جديدة ــــ وهذا يعني بلغة سيميائية ـــ إمكان إعادة صياغة شفرة راسخة في التأويل، سواء كان (نحويا) وهذه مسألة مستبعدة في قصيدة غيّرت الترجمة إلى لغة أخرى بناءها النحوي أو القواعدي أو (معجميا) وهو ــ ما يعنينا هنا، وبذا ندخل حثيثا في المقاربة فيما تعلّمنا إياه البلاغة أو (علم النص) بافتراض (الكناية) في المعنى الأبعد لها كونها افتراقا بين عنصريها المكوّنين، بوصف شيء من أجل الإشارة إلى شيء آخر بدون توحيد بين الشيئين، بل افتراض وجود عناصر مشتركة بينهما تسمح باللجوء إلى هذا النوع من التشبيه. فمن متضمّنات التعبير المجازي كالاستعارة، و التشبيه والتشخيص. تقوم الكناية على الاقترانات الاعتيادية التي تجعل سمك السردين والزحام متلازمان تلازم سمك السلمون والهجرة. وهو يجعلها تقف قاصرة عن ملاحقة النقلة في مفهومها الجوهري تلك التي تتيحها الحيل التعبيرية أيّ كل علامات النشاط السيميائي داخل جهاز التبليغ اللغوي المقترحة من طرف البّاث أي (المرسل) وهو الشاعر، والمفعّلة من قبلنا كـ (مرسل إليه) بإدراكها، ووضعها كنص في إطاره الزمكاني وتحقيقه بما تيّسر لنا من ثقافة. فــ (عمر الكدّي) يتعدّى الكناية المعتادة بأن يربط رحلة سمك السلمون الأخيرة بالعودة وليس بالهجرة كما قرنت دائما، وهنا تحدث خلخلة بما يمكن تسميته سميائيا بانتهاك الإقترانات الإعتيادية التي تبذّل المفهوم الفكري للهجرة بغريزة التكدّس و الزحام إذ يكتب:
سأعود إلى الرحم الذي أنجبني
لا كما يعود الطير إلى وكره
ولا النبي إلى كهف وحيه
سأعود كما يعود سمك السلمون إلى نهره.. ليضع بيضه ويموت.
فالإشارة الوصلية المنتفية ـــ لا كما ـــ و ـــ لا ــ المعطوفة عليها تستبدل بــ ـــ كما ــ المقرّرة لشيء جديد. وهي مقابلة للإشارة الوصلية: ـــــ هكذا ـــ التي تنقلنا في نصّ (بلاي) من مجال وصفي “مخازن حبوب المزرعة تصبح أحيانا جميلة بالأخصّ عندما يكون الشوفان أو القمح قد نفذ والريح كنست الأرضية الخشنة. واقفين بالداخل، نرى حولنا، آتيّة عبر فتحات الواح الحائط المنكمشة، خيوط الشمس أو اشرطة ضوئها”. إلى أفق معياري يعبر عنه (الكدّي) في قصيدته هكذا: “تاركا اتساع المحيطات لغيري.. متوّغلا في نهري الضيّق الطويل.. سأدوس على خطواتي بالمقلوب.. مقتفيا كل شيء في رحلتي نحو الجذور.. سأحمل أسئلتي القلقة وشكوكي وفؤوسي ومبضعي “.وفي قصيدة (روبرت بلاي) تبدأه فقرة ” وهكذا في قصيدة عن السجن يرى المرء نورا صغيرا ” أو إقحام كلمة لها دلالات قيمية في رصيدنا الثقافي كـ (العلم، والعقل والجذور) في الشاهد السابق(للكدّي )، وككلمة (الحرّية) في الشاهد التالي لــ(بلاي): “لكن كم من طير وقع في الفخّ في مخازن الحبوب هذه. فالطائر، رائيا الحرية في النور، يضطرب مصطدما بالحائط ويتراجع مرارا وتكرارا” وكل ذلك يتم في سياق وصفي يسرد تجربة واقعية.
إلا أن (عمر الكدّي) لا ينفكّ يصدر (الإشارات و التنبيهات) واحدة، تلو الأخرى فيما يتعلّق بمخاطر طريق “أن تكون شاعرا” أي “أن تصطاد عصافير الكلام وهي طليقة.. دون ان تنتبه لسجنها الشفيف.. أن تنصت إلى الآخرين وأنت تحدّث نفسك.. أن تعزل ذاتك المستوحدة.. وأن تغوص مع الجميع.. أن تغمض عينيك كلما استيقظ القلب حتى لا يرى العقل مخاطر الطريق “
نحن مازلنا في دائرة المخاطر التي تنبّه إليها (العلامات). فتأويل (لحظة الاسترجاع) باعتبارها اللحظة الحاسمة في صنع المعنى وبلورته في ذهن القارئ، حسب العقد المبرم ضمنيا بين الكاتب الذي يؤثّر بإنشائه أو تعبيره عن وعي، والقارئ الذي يؤثّر فيه بامتثاله للكاتب في توجيه فهمه عن غير وعي فيما يمكن تسميته بـ (أفق الانتظار) الذي يتعرّض هنا في سننه الدلالية لكل ضروب التغيير والتحوير. حيث يدعونا النص بنظامه العلامي والجمالي إلى ما اطلق عليه في تجربة القراءة بــ (تخييب أفق الانتظار). من خلال التأويل والفهم باستقصاء الدلالات العميقة على مستوى الشكل المصرّح به، وعلى مستوى البناء المجازي، وهنا يطلّ مجدّدا (التحذير) الذي جاوزت قراءتنا دلالته النثرية مكتسبا طاقة تعبيرية جديدة، متوجّها هذه المرّة إلى الكتّاب:” حذار.. أيها الكتّاب إذن، عندما تظهرون النور على الجدران، أن توعدوا الطيور السوداء القلقة والمذعورة بمخرج”. لأن ما اختبرناه مرارا في مخازن الحبوب التي نفذ منها القمح، وكنست الريح أرضيتها الخشنة. “أن الطيور السوداء التي وقعت في فخّها انتهت كومة ريش وجمجمة على أرضية الخشب المنفرجة”. لماذا ؟ لأنها “اوهمتها خيوط الشمس او اشرطة ضوؤها الآتية عبر فتحات الواح الحائط المنكمشة فأخطأت المخرج ” حيث ” تدخل الفئران وتغادر” لكن ” ثقب الفأر منخفض، حتى الأرضية “.
إذا تكلّمنا بلغة الفلسفة نصف دخول الفئران ومغادرتها من الثقب المنخفض في الأرضية بالموقف الواقعي أو بالأحرى(البرجماتي) السائد عصرنا في التداول “الأخلاقي والسياسي” وهو ما يعبّر عنه (عمر الكدّي) بهذه الصورة الشعرية: “خشب يئن، والمسامير تصيح.. تقفز الفئران أولا.. دائما تقفز الفئران أولا لتغرق ثم يتبعها اليائسون ” بينما يوصف المصير الذي حاق بالطيور السوداء التي انتهت إلى كومة ريش وجمجمة على أرضية الخشب … بالموقف المثالي. وهو مآل حزين ينتهي إليه غالبا كما أكّد ذلك (روبرت بلاي) “قراء قصائد النور”.
في كتابه<تحليل النصّ الشعري> يضع ( يوري لوتمان) الخطاب الشعري في مقابل ثلاثة انواع من (الضبط الذاتي)، وهذه الأنواع هي:
(أ) الضبط الذاتي للغة ومجاله الكلام
(ب) الضبط الذاتي للحس العام وسياقه الفكر
(ج) الضبط الذاتي لصورتنا المكانية ــ البصرية عن العالم وأفقها الإدراك.
وباختراقه ــ أي خطاب الشعر ــ لعطالة هذه الأنظمة الثلاثة يصحب الشاعر قصيدته إلى العمل.