بداية:
(بلا شك إنه لأمر رائع.. أن تكون صحافياً !!)… كيف اختصرت هذه العبارة الصغيرة من الكاتبة كتاباً كاملاً ؟!، يُلخصُ حياة الصحافيين المضطربة !! لا أدري كيف استفزني هذه العبارة الحادة، الملقاة هكذا بين حوادث متشابكة، روعة بمذاق مختلف جداً عن ما نعرفه، انغماس متكامل في بؤرة الحدث، تلبس واستطلاع وانهماك في تفاصيل التفاصيل !! لا أستطيع أن أتخيل شخصاً يتفاعلُ مع الصورة مع مجموعة من الكلمات، وكيف يستطع أن يبهر ويثير مثلما تثير الصورة بكامل سحرها وأناقتها !! إنه – وبدون استطراد – زمن الصورة بكامل تجليها وسطوعها، وغوايتها الكاملة !!
عتبة أولى:
هذه المقدمة طرقت ذهني عندما قرأت كتاب (قبعة القذافي) للمراسلة (سكاي نيوز) (أليكس كرافورد)… الكتابُ يُلخصُ تجربة المراسلة في أثناء وجودها في ليبيا فترة حرب التحرير، نوع من السرد المكثف المقطر الذي يختزلُ الكثير من الحوادث والتفاصيل، وأعترف هنا أنني أصبت بالذهول الكامل عندما قرأت هذا الكتاب، وأعترف كذلك بمقدار الحزن الهائل الذي أصابني عندما أكملت قراءته… ذهول… من قدرة مراسلة تلفزيونية على تطويع الحديث والكتابة عن أحداث بلغةٍ مقطرة غاية في العذوبة على الرغم من خلوها من أي صور بلاغية فخمة، وحزين… من عدم وجود مثل هذه الكفاءات بين إعلامينا المبجلين، المتفرغين للنميمة والسباب وهدم الآخرين!! لا أنكر إنني شعرت بلذة متواصلة وعبر صفحات الكتاب البالغة (252 صفحة)، حاولت أن أدرك كيف لانعرف كيف نكتب تاريخينا بلذة كما يكتبه الآخرين !!
عتبة ثانية:
على الرغم من أن الكاتبة تبدأ سرد تفاصيل رحلتها قبل وصولها إلى ليبيا بداية شهر مارس عام 2011، إلا أنها تختار أكثر الأماكن سخونة ، وتنطلق إلى (الزاوية) هناك وتثير بنقل تفاصيل الهجوم الأولى على الزاوية الكثير من ردود الفعل العالمية، ومثيرةً الكثير من ردود الفعل الليبية في الخارج حول هذا التقرير التلفزيوني الذي لا تزيد عن مدته عن خمسة عشر دقيقة!! تعود المراسلة إلى (دبي) حيث تقيم، وتعيش حالة متفردة من ما بعد أحداث الزاوية، وتسوق لنا هنا رؤية مختلفة عن حالة بعض المراسلين الذين يتواجدوا في خطوط الجبهة الامامية، حالة من التذكر والتضخيم والكوابيس !! لتعود بعد ذلك إلى ليبيا، وهذه المرة إلى (مصراته) في فترة ذروة الأحداث،عن طريق البوابة الشرقية لليبيا في رحلة لا تقل خطورة وصعوبات عن الرحلة السابقة، لتعيش كافة تفاصيل جبهة مصراته، وتكون صورة عن الوضع هناك!! إنها تنقلك بهدوء كاميرا إلى قلب الحدث، وتعيش لحظات القتال في الخطوط الأمامية وفي شارع طرابلس، إنها تعيش تفاصيل التفاصيل!! الأمكنة لها وقعها الخاص، والكتاب أثار في داخلي حنين الأمكنة المختلفة، فكانت بداية الكتاب تتناول مدينة (الزاوية) ثم (مصراته) ثم تنقلك ثانيةً إلى عنوان ضخم هو عنوان الفصل التاسع (الزاوية تنتفض) إنها تعود إلى (الزاوية) مرة أخرى إنه يوم (16 أغسطس 2011) لتعيش مرة أخرى أحداثاً مغايرة ومتسارعة ومفصلية في تاريخ ليبيا… كان عليها أيضاً أن تعيش لحظات أخرى مغايرة تتعلق بتحرير طرابلس، ولتكتب تعليقاً غاية في الموضوعية: (بعد منتصف الليل بثّ تسجيل صوتي جديد للقذافي على التلفزيون الرسمي، يا إلهي، إنه رجلٌ عنيد فعلاً ، لكن التاريخ علمنا أن الطغاة الذين يبقون في الحكم لفترات طويلة، غالباً ما يعجزون عن قراءة ما كتب أمامهم، وبالتالي لا يرون ما هو واضح أمام عيونهم، هذه نتيجة النفوذ المطلق)… دائماً هناك ما يثيرني في كتب التي تتناول الأحداث، هو كيفيتها في التناول، ومدى تفاعلها الفوري مع الحدث، أعتقد أن الكتابة هنا كانت تعلق على الأحدث بشكل شبه يومي، الأمر الذي جعل الكتاب محتفظاً بوهجه وتوافقه مع سير الأحداث توافقاً كاملاً دون الوصول لنتيجة نهائية من البداية الكتاب !!
عتبة ثالثة:
(الحياة أن تعيش بقلق متزايد)، لا أدري كيف أفسرُ الحياة هكذا دائماً، لكنني عندما قرأت كتاب (قبعة القذافي)، أدركت حجم القلق الذي يعيشه المرء عندما يكون (مراسلاً تلفزيونياً)، مقابل حياة أخرى يتخلى عليها بكامل إرادته!! في الكتاب تفاصيل لحياة أخرى لمراسلة تليفزيونية، حياة عائلية بكافة متطلباتها وهمومها، وأيضاً سحرها الخاص… حاولت الكاتبة تلمسه بل الوقوف عليه ورسمه بحميمة غاية في الروعة، في ترسم الإطار العام لعائلتها المكونة من زوج واربعة أطفال… لكن تبدأ من نقطة مهمة في التعريف وهي انعكاس قرار دخولها إلى ليبيا في هذه المرحلة الحرجة عليهم، فهي تعلق على ذلك بقولها: (إن أصعب جزء من عملي هو إبلاغ أطفالي الأربعة أنني سأسافر مجدداً وسأبتعد عنهم)… وتستطردُ في رسم هذه الصورة بهدوء جميل: (تتغير ديناميكية العائلة عندما يغيب واحد منا، ألاحظ ذلك حين ينامُ واحد من أولادي عند أصدقائهم، ينخفضُ مستوى الضجيج وتختلفُ التحالفات العائلية والعلاقات في ما بيننا، ولابد أن المشهد يشهد الكثير من التغييرات حين أغيب أنا، الأم)… إحساس مضطرب بالولاء للواجبات العائلية، والولاء لمسؤوليات العمل كمراسلة، تحاول الكاتبة التفاعل معها عبر صفحات من التمعن في تفاصيلها المختلفة ، لكنها تختمُ هذا التمعن بصورة غاية في الروعة عندما تقول: (كثيراً ما أشعر أنني أفشل، أفشلُ كأم وكزوجة وكمراسلة، لأنني عاجزة عن تكريس الوقت الكافي لكل أدواري، فعمل المراسلة الأجنبية يتطلبُ التزاماً بنسبة 150% ، ولقد انتظرتُ طويلاً فرصة أن أصبح مراسلةً أجنبية تتمركز في الخارج، وقد أتت في وقت متأخر من حياتي، لذا أشعر أن عليّ التعويض عن الكثير، إنه عمل على مدار الساعة وفي كافة أيام الأسبوع، ولتقوم به بشكلٍ عليك أن تخصص له الكثير من الوقت والجهد، أما المؤهلات الضرورية لتكوني أمة صالحة لأربعة أطفال فيبدو أنها تشمل التمتع بالمهارات التطبيقية والدبلوماسية التي يتمتع بها مدير تنفيذي ومصرفي وطباخ وقائد عسكري، وغالباً ما أشعر أنني ممزقة بين أدواري المختلفة ولا أنجح في أي ّ منها).
عتبة رابعة:
لغةُ الكتاب، لغة صحيفة مجردة ، تقترب من الحوادث بدقة صورة تلفزيونية، الأمر جرد الكلمات من بهرجة الصور البلاغية، ربما لقربها من التوثيق جعل أغلب الكلمات تنحاز للتجرد مقابل بلاغة شعرية تؤثر كثيراً على دقة التسجيل!! ونُلاحظ هنا دقة الوصف التي تصور مثلاً هذا الحدث: (كنا قد خرجنا منذ وقت قصير فقط ، عنما لاحظنا أول جثتين. لقد لاحظتهما قبل أن أرى أي شيء آخر، كانتا بالضبط خارج البوابة الجنوبية لساحة مجمع باب العزيزية التي دخلناها للتو، كانت الجثتان معزولتين بعض الشيء وسط مستديرتين خارج المجمع/ ومكبلتي الأيدي بربطة بلاستيكية إلى الخلف، ووجهاهما إلى الأرض، بدا واضحاً على الفور أنهما قد أعدما، كان رأسا الجثتين وما استطيع رؤيته من وجهيهما في حالة مروعة نتيجة الضرر الذي ألحقته بهما الطلقات النارية، ومازالت الحرارة التي تزيد عن الأربعين درجة مئوية والجثمانان منتفخان وأسراب الحشرات تحوم على جراحهما، لا شيء من جراحهما كان يثير الصدمة كمشهد أيديهما المثنية إلى خلف ظهريهما، مما يجعل المرء يوهل لأن الرجلين كانا بلاحيلة وغير قادرين على القيام بأي شيء غير انتظار الموت !!)… نلاحظ هنا إخلاص الكاتبة للغة الوصف العادية غير المثيرة بلاغياً، لأن الكلمات بكامل تجليها تنقل صورة دقيقة لحالة واضحة ومحددة !! لكنها أيضاً ليست لغة مستغرقة في الجمود بالكامل، بل هي تنبض بحياة الحوادث والتفاصيل، الأمر الذي جعلها تتناغم مع القراء، في إخلاص واضح وجميل !!
عتبة خامسة:
تقول (كراوفورد): (بدأت مغامرتنا ، كما تبدأ دائماً، باتصال هاتفي في منتصف الليل، تصل والجو حارٌ إلى مطار يسوده الرعب، ويبقونك في الظل ويبعدونك عن الأحداث وعن الحقيقة، لكن شيئاً فشيئاً تندفع وتحقق وتنسجُ اتصالاتك ببصيرة نافذة حتى تتكشف أمامك القصة على الأرض، حينئذ ما عليك إلا ملاحقتها، بعد ذلك يقودك حدسك وخوفك وجهدك، ثم تبقى حياً لتشهد على ما حصل)… هنا حياة يتفق فيها كل المراسلين، حياة البحث عن الحقيقة ومطاردة الأحداث، صورة مختزلة لواقع يتكرر وسيتكرر دائماً !!… حاولت الكتابة سبر أغوار هذه الحياة، بل ورسم شكل متفرد من حياة يعيشها أغلب من يفردُ حياته لملاحقة الأحداث، بل قد يدفعُ حياته ثمناً لها !!
عتبة أخيرة:
الكتاب.. كان مساحة هائلة من التفكير بالنسبة لي ، بل يمكن أن نقول أنها مساحات لا تخلو من لذة ومشاغبة، كنتُ خلال هذه القراءة أطرحُ الكثير من الأسئلة، وكان زخم الأسئلة يتصاعد بوتيرة أعلى كل مرة، ربما كل حدث تستعرضه الكاتبة بعين الصحفي والمراسل التلفزيوني المدربة على التقاط التفاصيل والغوص خلفها، بخبث ومكر زائدين، لذلك كنت أتعثر بكثير من الأحداث التي تحمل داخلها كومة من الأسئلة المتشظية، عن (ليبيا) عن ومن القذافي وزمن الثورة وزمن ما بعد الثورة… لكنني كنت ألخص في ثلاثة أسئلة مهمة، هي: (كيف ينظرُ إلينا الآخرون؟! كيف ننظر إلى أنفسنا؟! كيف نرى المستقبل؟)
ختاماً:
الكتاب يعتبرُ وثيقة تاريخية، يتقرب من لحظات وأمكنة كثيرة عاشها وعاش فيها الشعب الليبي بمخاوف وقلق يومي متزايد… اشتغلت الكاتبة فيه على خط موازٍ للكاميرا، حاولت الدمج بين الاثنين بين ما هو ظاهر ومعروف، وبين ما هو غائب، حاولت نقل صورة التفاصيل الخاصة قبل وصول الكاميرا أو قبل البث التلفزيوني. إنه إخلاص للصورة، أنه إخلاص للأحداث، أنه حياة أخرى مختلفة تماماً عن ما نراه وما نعيشه!!
______________________________________________
* كتاب (قبعة القذافي، سقوط طاغية وقيام أمة) – إليكس كرافورد – 2013 – دار الفرجاني.