يعرج الباحث التونسي د. محمد يوسف إدريس في كتابه “علم الأديان المقارن والآفاق الجديدة للدراسات الدينية” على جملة من القضايا المتعلّقة بآليّات البحث المقارن في الدّراسات المعاصرة، وذلك بالوقوف على مظاهر أزمة علم الأديان المقارن وأسبابها، طارحا لثلاث قضايا رئيسة تلخّصها الأسئلة الآتية: كيف نفكّر في الدّين عقليّاً؟ ولماذا نقارن؟ وأيّ دور تنهض به المقارنة في رسم حدود علاقتنا بالمغاير دينيّاً وثقافيّاً باعتباره طرفاً مؤثّراً في حيواتنا؟ إلى أيّ مدى تكون المقارنة قادرة على إقامة قراءة موضوعيّة؟ لافتا إلى إنّ مختلف الأسئلة تتعلّق في مجملها بمجموعة من القضايا الموصولة بالأفق الإبستمولوجي لعلم الأديان المقارن من جهة، وبمظاهر أزمته، وما انتهى إليه البحث المقارن في المقاربات التّقليديّة من أفق مسدود من جهة أخرى، وهي، إلى جانب ذلك، تتعلّق بمدى قدرة علم الأديان المقارن على تجاوز النّزعة الوضعيّة، وما يتطلّبه ذلك من ضرورة تجديد آليّات البحث وانفتاحه على دوائر معرفيّة عديدة، بما يجعل المقارنة بين الأديان علماً وضعيّاً لا يسعى إلى إخراج الدّين من دائرة حياة المؤمن، وإنّما يهدف إلى تأسيس وعي جديد بمنزلة الدّين في حيواتنا، وذلك بالكشف عن القاع الرّمزي للأديان ونصوصها.
هذه الإشكاليّات يعالج الباحث التونسي مظاهرها وأبعادها ودلالاتها بالنّظر في دلالات الاقتباس في النّصوص الدينيّة، وذلك في ثلاثة أبواب ضمها كتابه الصادر عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود حيث يؤكد “إنّ القراءة التّاريخيّة التّقليديّة لم تتعامل مع الأبعاد الدّلاليّة والتّداوليّة للنّصوص والظّواهر الدّينيّة. وفي ذلك دلالة على عدم قدرة البحث المقارن المتأثّر بالمقاربة التّاريخيّة على التّخلّص من آثار المقارنة الجداليّة، فالتّصوّران الجدالي والتاريخي اعتمدا المقارنة للمفاضلة بين الثّقافات والحضارات. على أنّ الثّابت في جميع الحالات وجود قواعد واضحة أقرّتها مختلف المقاربات المقارنة وفي مقدّمتها ضرورة أنْ يكون المقارن “المجادل، المؤرّخ،…” مطّلعاً على المسارات التّاريخيّة للأديان، عارفاً معرفة دقيقة بمصادرها، قادراً على تبيّن دلالات النّصوص التي يقارن بينها في ضوء سياقاتها الثّقافيّة والتّاريخيّة، واعياً بالتّحوّلات التي عرفتها النّصوص في رحلتها من زمن إلى آخر، ومن فضاء ثقافيّ إلى آخر.
ويرى إدريس أنّ القضايا المتعلّقة بعلم الأديان المقارن تدور على علاقة “الباحث المُقارِن” بالموضوع “الأديان”، وتأثير الواقع المعرفيّ والمرجع الثّقافيّ في البحث المقارن، سواء أتعلّق الأمر بالدّراسات القديمة “الإسلاميّة،..” ذات الطّابع الجداليّ أم بالقراءات المعاصرة التي تأثّرت بالمقاربات الفلسفيّة الحديثة “الجدليّة المادّيّة،..”، فالبحوث المقارنة هي صور تخبر عن مذاهب أصحابها وانتماءاتهم والأسس التي ينطلقون منها في مقاربتهم للنّصوص والظّواهر الدّينيّة. وهو ما جعلنا نعتبر الكشف عن سلطة المرجع الثّقافي والأيديولوجي والحواجز الدّينيّة والثّقافيّة والتّاريخيّة، ودورها في توجيه البحث المقارن، مسألة مهمّة لفهم ما انتهى إليه علم الأديان من أزمة عميقة طالت الأسس والمقوّمات والنّظريّات والمرجعيّات وآليّات البحث المقارن. وما ترتّب على ذلك من اختلاف المقارِنين في تحديد الهدف الرّئيس من علم الأديان المقارن، فلئن كان تبيّن وجوه الائتلاف ومواطن الاختلاف بين الأديان القاعدة التي اتّفق في شأنها جميع مُنظّري علم الأديان المقارن فإنّ الغاية من تحديد تلك الوجوه ظلّت مدار اختلاف بين مؤرّخي علم الأديان المقارن.
وتساءل إدريس: هل البحث المقارن يسعى إلى بلوغ الرّوافد وترتيب النّصوص وكشف العلاقات القائمة بينها أم هل هو يسعى إلى فهم أسباب الاختلاف ودلالاته بوصف الاختلاف عملاً مقصوداً له أهداف لا بدّ من الوقوف عليها؟ ويقول “إنّ الأزمة التي تحدّث عنها مُؤصّلو علم الأديان المقارن ومجدّدوه موصولة بآليّات البحث وماهية علم الأديان المقارن وعلاقة المقارِن “المؤرّخ أو المؤوّل” بالموضوع؛ أي الدّين ونوع الحقائق التي ينطوي عليها.
وقد بيّن ميرتشيا إلياده أنّ الخروج من هذه الأزمة يقتضي بالضّرورة الإفادة من علم الاجتماع وعلم النّفس وعلم الأنتربولوجيا وعلم التّاريخ وعلم الأعراق/الأجناس، فهي تساعد على فهم أبعاد الظّواهر والنّصوص الدّينيّة، على أنّ ذلك الانفتاح لا يكتسي أيّة قيمة ما لم نضع تصوّراً جديداً للبحث المقارن يعالج النّصوص الدّينيّة باعتبارها نصوصاً رمزيّة تحفل بشتّى ضروب المتخيّل “العجيب، الغريب،..” وتنطوي على حقائق روحيّة لا سبيل إلى المفاضلة بينها. ولتحقيق تلك الغاية لا بدّ من معالجة النّصوص الدّينيّة باعتماد آليّات التّحليل السّردي، وبالاستناد إلى نظريّات التّلقّي والتّناص والسّيميائيّة والتّأويليّة والفينومينولوجيا واللّسانيّات، فهي تفتح آفاقاً جديدة للبحث المقارن، يتحوّل فيها عالِم الأديان من مُؤرّخٍ إلى مُؤوّلِ”.
ويشير إدريس إلى أنه لا تقوم المقارنة بين الأديان على المقابلة بين الظّواهر والمعتقدات والمفاهيم الدّينيّة لمعرفة وجوه الائتلاف والاختلاف القائمة بينها فحسب، وإنّما تعمل أيضاً على تفكيك النّصوص والظّواهر وتبيّن الطّبقات التي تكوّنت منها وتحديد روافدها.
ويلاحظ أنّ البحث في روافد النّصوص المقدّسة من شأنه أنْ يُؤدّي إلى الإقرار بأنّ النّصّ الواحد هو مجموعة نصوص متعدّدة المرجعيّات الثّقافيّة، وهو ما يعني أنّ المقارنة بين القصص هي محاولة لكشف ما عرفته من تحوّلات في رحلتها من فضاء ثقافيّ إلى آخر أو من زمن إلى آخر. على أنّ تشابه الأديان في المعتقدات والظّواهر لا ينبغي اتّخاذه حجّة دالة على أنّ المتأخّر في الزّمن قد استولى على ما جاءت به الأديان السّابقة له، ولا يجب أنْ يحملنا التّوافق على القول إنّها ترتدّ إلى دين واحد مثلما ترتدّ اللغات المتشابهة إلى لغة واحدة؛ ذلك أنّ اقتراض الأحداث والشّخصيّات لا يُعدّ ضرباً من ضروب التّقليد أو السّرقة. فالاقتباس – وإنْ دلّ على وجود علاقة تأثير لم يُؤدّ إلى محو خصائص كلّ نصّ، ولا سيّما النّصّ الثّاني “المتأثِّرُ/المُقتَبِسُ”.
ونحسب أنّ الوعي بالفروق القائمة بين النّصوص الدّينيّة يظلّ دون جدوى ما لم نتبيّن ما وقع قبل وجود النّصّ من تمثّل للإرث القصصيّ والدّينيّ الوافد، وما رافق التّلقّي من إدماج للنّصّ السّابق في النّصّ اللّاحق، وذلك بزراعة أحداث الأوّل في سياقات النّصّ الثّاني باعتماد آليّات عديدة “الحذف، الإضافة”، ومن شأن الوقوف على أسباب اعتماد آليّات دون غيرها أنْ يُساعد على تحديد دلالات الاقتباس الذي يُعدّ صياغة جديدة للقصص القديمة وفق رؤى المُقتبس وتطلّعاته ومتطلّبات واقعه وآفاق انتظار المتلقّين للنّصّ الجديد.
وفي ما يتعلّق بهذه المسألة حرص الباحث التونسي على إبراز أهمّ مظاهر الاقتباس في النّصوص الدّينيّة، والدّور الذي نهضت به نظريّة التّناص ونظريّة التّلقّي في التّأسيس لآفاق جديدة لأفعال القراءة والتّأويل، فالأولى قدّمت رؤية جديدة للعلاقات القائمة بين النّصوص المتشابهة، مدارها الرّئيس الوعي بالأدوار التي تنهض بها النّصوص السّابقة في بناء النّصوص اللّاحقة.
ويقول “إنّ الاستناد إلى نظريّة التّناص في البحث المقارن بين النّصوص الدّينيّة أدّى إلى الانتقال من الدّراسات التي تتقصّى الأصول التّاريخيّة الغابرة للنّصوص إلى دراسات داخليّة آنيّة وصفيّة للنّصوص الجديدة لا تقصي النّصوص الرّوافد من دائرة البحث، ولكنْ لا تجعلها قطب الرّحى. وبناء على ذلك، إنّ البحث في مظاهر الاقتباس في النّصوص الدّينيّة ودلالاته لا يتّصل بمدى قدرة النّصّ اللّاحق على امتصاص رموز وشخوص وأحداث ومُتخيّل النّصوص السّابقة له، وإعادة صياغتها في قوالب جديدة وفق تصوّر جديد، بقدر ما يتعلّق بقدرة النّصّ الجديد على إحداث تواشج بين نصّ قديم ومتطلّبات المنظومة الدّينيّة والثّقافيّة الجديدة التي استقرّ فيها.
ويرى إدريس إنّ التّناص لم يعد مبحثاً موصولاً بالدّراسات الأدبيّة فحسب، وإنّما صار أيضاً مبحثاً اجتماعيّاً وأنتربولوجيّا، أعطى المُتخيّل والأساطير والخرافات دوراً مهمّاً في تبين دلالات الائتلاف والاختلاف بين الأديان والثّقافات. وفي المقابل قلبت نظريّة التّلقّي علاقة القراءة بالنص رأساً على عقب، فالقارئ وتطلّعاته وآفاق توقّعاته عناصر فاعلة في إنتاج معاني النّصوص؛ ذلك أنّ النّصوص لا وجود لها قبل القراءة؛ لأنّ القراءة تنتقل بالنّصّ ضرورة من حيّز العدم إلى حيّز الوجود.
ويضيف أنه لا غرابة في ذلك، فالقارئ في عرف فولفغانغ إيزر وأتباعه هو مَن يُعطي معنى محدّداً للنّصّ، وإنْ كان هذا المعنى غير جليّ؛ ذلك أنّ النّصّ يقوم على بنى متعدّدة تؤدّي إلى معانٍ مختلفة، وهو ما يجعل القراءة إقراراً لممكنات المعنى، ولكي لا تتحوّل أفعال القراءة إلى أفعال انطباعيّة طالب أمبرتو إيكو بوجود سند منطقيّ لكلّ قراءة؛ إذ لا يجب الإفراط في التّأويل، فنحن إنْ لم نضع حدوداً للقراءة فإنّنا نترك الحبل على الغارب، ونُحمّل النّصّ دلالات لا قدرة له على حملها. على أنّ أهمّ مظاهر تأثير نظريّة التّلقّي في البحث المقارن يتمثّل في نجاحها في إقرار صيغة جديدة لثنائيّة التّأثير والتّأثّر، فالتّأثير، في نظريّة التّلقّي، لا يعني ذوبان ذات المُتلقّي في النّصّ، وإنّما يفيد التّأثير انطلاق المُتلقّي من نصّ سابق بقصد بناء نصّ جديد يوافق الأوّل في الأحداث والشّخصيّات دون أنْ يتطابق معه في الدّلالات والغايات؛ أيْ إنّنا إزاء نصّين هما: النّصّ الرّافد “مكتوب أو شفويّ” والنّصّ المقروء “مُؤوّل”، وبين هذا وذاك نصٌّ ينتظر القارئ القادر على إخراجه من حيّز الصّمت إلى حيّز الوجود، فإذا النّصّ نصوص مفتوحة على أنساق نصّيّة وغير نصّيّة، بعضها معلوم وأغلبها مجهول ضارب في القدم محتجب بآلاف الحجب مُتجلٍّ في الاستعارة والرّمز.
وبهذه الطّريقة بانت للباحث المقارن آفاق جديدة لم يَطَأْهَا من قبل، فإذا الحدث القصصيّ الواحد عندما يحيلنا على أكثر من تأويل يحرّر النّصّ والقراء أيضا من الانغلاق على الدّلالة الواحدة. فأثناء النّظر في الدّلالات، التي اتّصلت بيوسف بن يعقوب وبعلاقة يوحنّا المعمدان “يحيى بن زكريا” بيسوع “عيسى ابن مريم” في النّصوص المقدّسة والنّصوص الحوافّ، لاحظنا أنّ كلّ نصّ عمد إلى التّصرّف في النّصوص السّابقة له بما يوافق مقاصده. فالنّصّ الدّينيّ – وإنِ انطلق من نصوص قديمة – لم يسقط في المحاكاة؛ ذلك أنّ الأحداث المقتبسة لم تُرو بالطّريقة نفسها ولم تتّخذ الدّلالات ذاتها.
ويقول إدريس إنه ليس ثمّة شكّ في أنّ علم الأديان المقارن هو سليل محاولات ضاربة في القدم، ولا معنى لإنكار أنّه استعار من غيره بعض الأسس، وأنّه مازال يقترض منها المفاهيم والرّؤى، ولكنّه الوحيد من بينها الذي استطاع بناء رؤية جديدة تجلّت في إضافته ثنائيّة الأنا/ المغاير للمباحث الدّينيّة، فعلاقتنا بالمغاير دينيّاً هي علاقة الوجه بالقفا. فهو كيان فاعل في الوجود ومؤثّر فينا؛ ذلك أنّ معتقداتنا وعاداتنا وتقاليدنا الاجتماعيّة موصولة بما يقع في الفضاءات الثّقافيّة والدّينيّة المجاورة والبعيدة.
على أنّ التّوظيف الإيديولوجي زجّ بتلك الثّنائيّة في متاهات المسكوت عنه ما حال دون تعميق الوعي بأهمّيّة الاختلاف والتّنوّع الدّيني والثّقافي. وفي هذا المقام يبدو من الضّروريّ الوعي بأنّ علم الأديان المقارن بإمكانه أنْ يحدث تغييراً جوهريّاً في بنية التّفكير الدّيني، فهو يسعى إلى فهم الإنسان بدلاً من البحث في الدّور الذي ينهض به الدّين في بناء فهم الإنسان للعالم.