كنتَ، مرفوقاً بقلقك، في ويمبلدون قرابة الظهر جالساً على مقعد عام مزروعاً على رصيف محاذٍ لمدخل سوق “السنترال كورت” قبالة موقف الحافلات العامة في الشارع الرئيس، تنفث دخان سجائرك وعيناك، من خلال عدستي نظارتك، تحومان بلا شهية على ما تحمله صفحات جريدة من أخبار وتقارير. وكانت ويمبلدون في حالة استرخاء بهيج لا تكدر صفوه غيومٌ ولا ينغّص زهوه مطرٌ تستحلب دفئاَ ناعماً منبعثاً من شمس ربيعية في منتصف فصل الخريف. ازدحمت الأرصفة بالمتسوقين والمتسكعين وتعطرت الأجواء بفيض عبير الأنوثة حين، من حيث لا تدري، تذكرتَ أن الأيام المقبلة ستصادف الذكرى الثلاثين لحلولك وإقامتك في منفاك الاختياري: هل ارتبكتْ مشاعركَ وأحسستَ في حنايا قلبك بشيء من ألم محزن أو حزن مؤلم أو بالاثنين معاً؟
تنهضُ متثاقلاً من مقعدك رامياً بالصحيفة في سلة لتدوير القمامة قربك وتطلق العنان لقدميك لتقوداك بآلية في زحام شوارع خبرتها ولن تعرفك مستغرقاً في فرز تفاصيل فيض مزيج عجيب من ذكريات انبثق في داخلك فجائياً وفصلك عما حولك مخترقاً ما تبقى كامناً في قلبك من مسارب وخفايا أعوام قصية مفتشاً بصبر ودأب في ثناياها على ما أضعته من فرح لاهثاً خلف أوهام.
تجدُ نفسك واقفاً أمام مقهى في شارع جانبي، فتدخله مفضلاً الجلوس إلى طاولة صغيرة منفردة، تخرج من جيب سترتك دفتر ملاحظاتك الصغير وتضعه أمامك على الطاولة ثم تكتب بيد مرتبكة على أول صفحة بيضاء صادفتك: “ما أطول الغربة.. ما أقصر العمر!”.
ثلاثون من السنين مرّوا كعربات شَحن محمّلةً على طرقاتِ عمركَ، وأنتَ تدور في مدار “غربة” استغرقتكَ واستهلكتك واستضعفتك ثم مضغتك بلا مبالاة وبصقتك على أول رصيف بارد.
ثلاثون مروا سِراعاً، لتجدَ نفسك وحيداً، بلا وطنٍ، أوظلالٍ أو ضفاف، تقفُ على قدمين متعبتين، في جهة ما، في مدينة “لو سارَ فيها سليمانُ لسارَ بترجمانِ”، على حافة رصيف ضيّق، مثقلاً بهموم وأوجاع الكهولة. دقات قلبك أوهنها الوقتُ وأنهكها النيكوتين، وتعبٌ يلتف على عمرك كأفعى.
تعرف أنك لا تستطيع وقف دقات الساعة ولا إعادة الزمن للوراء. وتدرك جيداً أنه لم يبق لك سوى عودة خاطفة أخيرة للتسلل كلص نحو ظلال تزداد نأيا لصبي نحيل، ظل رغماً عن السنين، حيّاً يمرحُ بعفوية في حنايا ذاكرتك، مخترقاً شوارع طرابلس وأزقتها على قدمين طريتين، مقلداً بمرح خيول العربات في ركضها على أسفلت الطريق، وحين يحين وقت نومه يغلق رموش عينيه حالماً بالطيران كعصفور بجناحين خضبهما فضولٌ لفض مغالق الأسرار وتوقٌ للانفلات في مدن الدنيا.
ثلاثون مروا بثقل أوجاعهم وعواصفهم وأشجانهم فوق عظامك، وتحت جلدك، وعبرمسامات وشرايين وأوردة دمك، ومسامات وحنايا قلبك وخلايا عقلك، وأنتَ تلهث، هارباً من نفسك وباحثاً عنها، في لندن، راكضاً بلا لجام في ازدحام أيامها ولياليها وشوارعها، وقطاراتها وحافلاتها، ومقاهيها، وأسواقها ومسارحها.
ثلاثون مروا، وأنتَ بعينين مفتوحتين مستوعبتين، وبنبض قلب يحاول التوازن مع إيقاع مدينة مشرعة من كل الجهات على كل اللغات، ثم فجأة تجدُ نفسكَ، كما وصلتها أول يوم، واقفاً، في مربع صغير، وحيداً، مرهقاً من الركض للإمساك بوطن ظل سرابا، وبأحلامٍ استحالت ركاماً، وبشبابٍ تآكلت طراوته وتلاشت بهجته، ولم يعد لك منه إلا عواء حسرات توقظك من عز النوم.
ثلاثون مروا، لكنكَ مازلتَ تدبُّ على قدميك، وإن بتعب. ومازال في قلبك فضاءٌ كامن لعشق مؤمل، وإن كان بعيدَ الاحتمال. ومازال في عينيك وميضٌ، وإن انطفأ التألق. ومازال في دمك ما يكفي من مؤنة ودفء لتكمل ما تبقى لك من طريق إلى حيث تنتظرك، لتكتبَها مُودِّعاً، قصائدُ حب إلى كل من فقدتَ من أحبة وكل من أضعتَ من أصدقاء.ِ
______________________