قدم حصان طرواده لهدف غير الذي أعلنه ظهوره، اقتنع الجمهور بالهدف المعلن عنه واختبأ الهدف الحقيقي تحت الظاهري، لينجح، فنجح. كثيرون في الحياة والسياسة يتبعون إسلوب حصان طروادة في الأقوال والأفعال، يحمل حديثهم نية ظاهرة للاستهلاك ونية أخرى خفية، هي غالباً الحقيقية والأصدق.
كذلك موقف أوروبا من الهجرة غير الشرعية للأفارقة وللسوريين، موقفها من الهجرة السوداء ليس كموقفها من الهجرة غير الشرعية للاجئين السوريين، فصرخاتها تتعالى وتنديداتها ومخاوفها ترتفع كلما تكلمت عن ليبيا مصدر هجرة الإنسان الأسود، وينخفض الصوت كلما اتجهنا شرق المتوسط بل ويتغير ويرق كلية، حتى أن الأوربيون في سابقة لهم حملوا لافتات الترحيب باللاجئين السوريين، في تدوير لمشهد المهاجرين والأنصار.
اقتسام الدار والسرير والزوجة والدمعة والحصان!… يخيفني هذا الحنان ويجعلني أتوجس من التدبير الذي يسبق العاطفة، وكم أتمنى أن أكون مجرد متوجسة.
فبالأمس القريب امتنعت ألمانيا التي تفتح ذراعيها للاجئين عن رحمة اليونان في جزء من ديونها، ورفض 80% من الألمان مساعدة اليونان من جيوبهم الخاصة، هذا واليونان دولة أوروبية، شريك في الاتحاد الأوروبي. في المقابل اعتبر اليونانيون ما تفعله ألمانيا بهم عبودية لهم واستعمار وقرروا الاحتراق بفقرهم على تسليم أعناقهم لألمانيا، المدير الفعلي للأتحاد.
ألمانيا التي تخلصت من اليهود في عهد قريب، تشرع أبوابها في سابقة للسوريين، وفى لقطة سينمائية يمكننا تمرير هذه الصورة في مخيلتنا لبرهة (اليهود خرجوا لمنطقتنا التي يخرج منها السوريون اليوم أفواجاً)… فما الذي حدث وأجرى عاطفة الشعب الحديدي؟
لدي عدة افتراضات:
– فتح باب اللجوء يجعل أخرين لم يفكروا فيه يتخذون قرار المغادرة، في تسريع لتحلل كيان اسمه سوريا، بتوطين شعبها في عدة بلدان، والهدف ليس اللاجيء بل وطن اللاجيء، كما حصل من قبل للفلسطينيين، خلق مزيد من الهموم للانسان السوري داخل الوطن الذي تفتته الانقسامات الطائفية والمذهبية والانشغال بهموم مختلفة في مواطن الهجرة والاغتراب، وهو مايؤدي إلى تفتيت للهوية الوطنية في خلاصة الأمر، حتى لا يعود السوري يفكر في سوريا ككل، بل في نفسه بالدرجة الأولى والأخيرة، وهكذا تتباعد تدريجياً سوريا الكل.
– سوريا كانت ملاذاً للعراقيين حينما فتت أمريكا العراق وللفلسطينيين كذلك، هؤلاء بعدم استقرار سوريا يتحولون من جديد إلى لاجئين، وينتهي نهائياً حلم العودة، أي الحلم بعراق مرة أخرى أو فلسطين!
– أوروبا تتداعى تحت وطأة اقتصاد متأزم، بطالة كبيرة في صفوف المتعلمين، فقر يضرب الطبقة العاملة نتيجة الكساد الاقتصادي، تختفي تدريجياً هذه الطبقة التي تقيم التوازن مابين الأثرياء والفقراء وباختفائها تتجه الكثير من دول أوروبا إلى أن تكون مجتمعات من طبقتين، أثرياء جداً وفقراء للغاية.
– هجرة كثير من الشباب الأوروبي إلى خارج القارة، حيث المناطق الأوسع في فرص العمل، تدريجياً تفرغ الأعمال التي تعتمد على الميكنة ممن يشغلها، ويعلن الفراغ عن نفسه أولاً في الأعمال الدنيا… أغلب فئات اللجوء هي من العمال والفلاحين والفقراء، لن تمكنهم قدراتهم المحدودة من مواكبة تطور تقني وصناعي بلغ كل شي. أتوماتيكياً سيأخذون أماكن أولئك التي تناسبهم وربما دون توجية أو تدخل رسمي مباشر. ويسرى ذلك على حملة الشهادات عندما لا يجدون عملاً يناسب شهاداتهم، سيعمل الطبيب منهم في فرن للبيتزا والمهندس في تنظيف المجاري وبائع البسطة سابقاً نادلاً في البار.. الخ.
– المبادرات الانسانية بتوطين اللاجئين في قرى مهجورة جاءت عقب لافتات أهلاً بكم وادخلوها بسلام أمنين، هنا علي المهاجر أن يستعد للحرث عليه كثور الحقل، في جنوب ايطاليا قرى خالية من السكان، في فرنسا يعرضون الأراضي المهجورة بيورو، في ألمانيا بالأخص الشرقية، قرى فارغة، غادرها سكانها بسبب عدم وجود فرص للحياة… إنهم عمالة مجانية تأتي في صورة لاجيء يتكرمون عليه بالأمن والأمان، فمن تاريخهم استعمار واستغلال لن يتخلوا بتعاقب الزمن عن نظرتهم النفعية وروح الاستغلال، كما أن هذا العرض يحمل رغبة في عدم ادماجهم والابقاء على مسافة معهم.
– القوانين الأوروبية في التجنيس والاقامة تغيرت ولن يجني منها طالب اللجوء أي نفع مادي عدا لقمة تبقيه حياً، لم تعد كما في السابق وسيلة لتحقيق حفنة من الأحلام.
– أراء الساسة في أوروبا حول حل مشكلة سوريا، تتلخص في تصريحاتهم، الحل هو خروج الأسد، ترد عليهم روسيا وحلفائها لا حل في سوريا إلا بوجود الأسد، المعركة بين الكبار هي سوريا، على الأرض ورقة اللاجئين تكملة لذلك الصراع حتى وإن اتخذت شكلاً إنسانياً زاهياً.
– المبالغة الأوروبية الإعلامية في أعداد اللاجئين لها غاية ولا تحدث عشوائياً كما حدثت في ليبيا التي تصعد فيها أرقام أي شيء وتهبط حسب رغبة الراوي، إذ بمقدوري وقد شهدت منذ بداية الأحداث في سوريا تدفق الكثير من السوريين إلى بنغازي مدينتي، بمقدوري القول، إن أعدادهم في الشرق الليبي الأن بلغ عدد السكان في العاصمة دمشق، ما المانع!
– الانقسامات الأوروبية بخصوص اللاجئين لا تركز على نوعية السلوكيات التي يمكننا تصنيفها بالركلة، نسبة إلى الصحفية المجرية، في حال رفضت بعض المجتمعات وجودهم وعبرت عنه بالأقوال والأفعال، فسياسة البلد لن تطمس توجهات الأفراد، حيث ثمة رفض واسع لاستقبال اللاجئين لم تركز عليه الصحافة والإعلام كتركيزها على حملات أهلاً وسهلاً بكم، والورد والماء في انتظاركم في محطات القطارات وما تبعها… أقلها حملات تنادي بإدخال السوري المسيحي فقط، واستبعاد الأخر، وهنا سيكون السوري المسيحي أقرب للسيطرة عليه ومحاباته، من السوري غير المسيحي في بعض بلاد اللجوء الأوروبية.
– اللاجئون لن يكونوا خيراً كلهم، سيما حملة الفكر العنصري والمتشدد وأنا لا أعني بها هنا التشدد الديني فقط، بل التشدد في كل شيء، فكيف يمكن اتقاء شر من أحسنت إليه عندما يشبع ويستريح ويتفرغ لمخالفتك؟ لقد سبق إحسانك إساءته حتى وإن كان مابدر منه مجرد سلوك غير مندمج أو غير مناسب ولا يرقى لدرجة فعل إرهابي… أوضح مثال لفشل الاندماج هي فرنسا، منذ قرابة قرن من الزمان لم تنجح في تذويب المسافة الثقافية بين المجتمع الفرنسي والمهاجرين (من مستعمراتها سابقاً) بل على العكس أصبحت حاضنة للتشدد والتعصب من حيث لا تريد.
– الشر المتبادل سيكون مكافأة حينها لمن استغل ورقة اللاجئين، حيث الاندماج يعني أن تبقى الحدود قائمة بين الثقافات لكنها غير مرئية، عليهم بالتالي تحمل تبعات دخول ثقافة مختلفة لطالما حاربوها في بلادها الأم، عليهم تحمل ما سيأتي، فهم أيضاً لا يكفون عن التدخل وإزعاجنا ومناكفتنا في أوطاننا.
كل ما سبق هو حديثي مع نفسي عن حصان طرواده، وربما يكون هو أيضاً الحديث الظاهري فقط، حيث هناك حديث أخر يخص فائدة إسرائيل مما يحدث في المنطقة، لم أتكلم عنه!
_____________________
نشر بموقع ليبيا المستقبل