محمد نجيب عبدالكافي
ازدهر الفن في عصر النهضة الأوربية بكرم ما سُمِّي “مسثيناس” أي رعاة الفن الذين ساندوا الأدباء والفنانين ماديا وأدبيا. هذا الدور قامت به الإذاعة في ليبيا الفتية فيحق لها أن تدعى راعية الفنون والآداب. لكن، إحقاقا للحق، أرى من واجبي التذكير بأن الزائر ليبيا في نصف الخمسينات يلاحظ، لدى الشباب خاصة، حماسا واندفاعا وبحثا عن سد فراغات ومحاولات وتجارب بغية النهوض في جميع الميادين ومنها الإذاعة. شباب، في بني غازي وطرابلس بأجهزة بدائية حاولوا إنشاء محطات بث إذاعي ولو لا تزيد تغطيته حيّا أو اثنين من المدينة. حضرت مساء أحد الأيام كيف قام كاظم نديم، بمعية محمد أبو عامر – إن صدقت الذاكرة – بث برنامج بسيط انطلاقا من مبنى بميدان الشهداء. طمحوا ولم ينتظروا طويلا إذ طابق طموحهم طموح المسؤولين في مقدّمتهم الأديب الفنان الأستاذ فؤاد الكعبازي فبرزت الإذاعة إلى النور فقامت، منذ نشأتها، بدور عظيم في نهضة الأدب والفن، يرعاها المسؤولون ويثريها المثقفون والفنانون، فكانت النهضة والإشعاع. جلبت الإذاعة خيرة الموسيقيين من أقطار شقيقة ليعلموا ويكوّنوا، فوجد الجيل الصاعد بغيته في تحقيق طموحاته فكثر النظم والتلحين، في حلل وأشكال فنية جديدة، حافظت على الرّوح والهوية والأشكال الليبية التي تمتاز، لا بنغم ورنين خاصين فحسب، بل بإيقاعات – أوزان – تعرّف بها. هكذا جاءت صحوة موسيقية اشتهر أثناءها عديد المطربين.
– المعهد
لعلّ أعظم عمل يذكرلتلك الفترة، هو الذي بعثه محمد مرشان – أعرف هذا لأنّي أنا الذي حرّرت قانونه الأساسي الذي أملاه عليّ محمد مرشان – فوجد في الوزير خليفة التليسي خير سند ومؤيد، حتى خرج المشروع إلى النور وما هو إلا معهد الموسيقى الوطني – لعل اسمه قد تغيّر – الذي سرعان ما زوّد الساحة بجيل جديد من العازفين والمغنين. يجدر بي هنا تقديم مثل واحد كي يعلم الشباب الذي جاء بعد سنيّ البناء والتشييد، أن الفرقة الموسيقية التي افتتحت بها الإذاعة القديمة بشارع الزاوية نشاطها، لم يكن بها سوى عود وكمنجة وقانون فكانت آلات الإيقاع أكثر من آلات العزف. هذا ما لاحظه لأول وهلة الفنان التونسي الدكتور صالح المهدي الذي جاء ليبيا في زيارة قصيرة فعرّفتُه بمعظم الفنانين وبقي، بعد عودته، يراسل محمد مرشان بسماعيات وغيرها من القطع الموسيقي ثمّ أتت به الإذاعة للتدريس أشهرا أو هي سنة. فليقارن من يبحث عن المقارنة بين تلك الفرقة وبين ما أصبحت عليه فرقة الإذاعة في مستهل الستينات وهي بمثابة نواة ما يشاهده اليوم.
– نهضة وتنوّع
نهضة فنية بزغت، نجوم وبدور من جنوبها وشرقها وغربها في سمائها لمعت، فتمتعت بإنتاجها الناس وتحدّثت، فبها ليبيا في المحافل الدُّوَلية جلست. أغان وتمثيليات مسرحية وإذاعية، أذيعت وانتشرت يضيق لذكرها وتعدادها المجال ولو أردت. لكنّي سأكتفي بقلة تفتح شاهية المُريد، فيبحث وسيجد ما يشبع نهمه بروائع مثل “يا ليل طوّل ليلتين وليلة * نور العيون حذاي بنشكيلَه” لحّنها محمد الدهماني في مقام الحجاز – وهو صعب – ولوّنها بغيره من الطُّبوع فكانت روعة تطرب وتحزن. لا تقل عنها جودة ولا روعة ولا طربا، أغنية من كلمات الطاهر شقلالة الذي لمع بشعره في تلك الآونة “جرت السواقي للشجر وسقاتَه * وهب الهوى يغنّي على نغماتَه* أداها عن جدارة وبإتقان سلام قدري، وأختم بنموذج شعبي الأصل، ضمّ بالكلمات واللحن جناحي ليبيا الشرقي والغربي، إذ نظمت كلماتها الشاعرة المجيدة خديجة الجهمي ووضع موسيقاه محمد مرشان وهو أغنية “حن القلب والجوبة بعيدة * حن القلب لأوهامه يعيده“. أما التمثيل فيكفي هنا ذكر راغب المدنيني لفهم مستوى التطور والإشعاع الذي عرفه هذا الفن. إن ما يلفت النظر هو أنّ الإذاعة والمعهد أسّسا في عهد وبعناية وزيرين أديبين هما فؤاد الكعبازي – الإذاعة – وخليفة التليسي – معهد الفنون – هل هي مجرّد صدفة؟
بالذاكرة المزيد من الارتسامات فلي عودة إن طال العمر.
_______________________________
* الصورة: الفنان محمد مرشان والفنان كاظم نديم.