تراث

ذات البو

الشاعر عبد السلام بو جلاوي (داير لروحي جو)
الشاعر عبد السلام بو جلاوي (داير لروحي جو)

يقول الشاعر عبد السلام بو جلاوي1:

“داير لروحي جو .. جو الخلوج الدَّارة ع البَو .. ونسيت ما حصل”

معاني المفردات:

“الخلوج: ناقة جذب عنها ولدها بذبح أو موت فحنت إليه فقل لبنها لذلك”2.

“البَو: جلد الحوار يُحشى ثُماماً أو تبناً، فيُقرَّب إلى أم الفصيل فتعطف عليه فتدر”3.

المعنى:

الشاعر يخبرنا عن طريقته المجربة في نسيان الماضي والخروج من أجواء المآسي والأحزان إلى أجواء جديدة خلقها لنفسه، وهذه الأجواء الجديدة تشبه أجواء الناقة التي فقدت ولدها، لكنها بدل أن تعيش في الحقيقة المؤلمة آثرت أن تستسلم للوهم المريح والمتمثل في جلد صغيرها محشواً تبناً.

وهنا يخبرنا الشاعر بمجموعة حقائق:

• أولاً: أن الوهم ليس سيئاً بالمطلق، فأحياناً يكون مثل الواحة التي نهرب إليها من ألم الحقيقة.

• ثانياً: أن الوهم ليس وهماً بالمطلق، فهو وأن كان وهماً، إلا أن أفعاله حقيقية وتؤدي إلى نتائج حقيقية، مثل أن يُخرجك من أجواء لا ترغبها إلى أجواء ترغبها، ومثل أن يُنسيك أوجاعك وعذاباتك، وكما أن (البو) وهمٌ لا حقيقة له، إلا أن ما تدره الناقة عليه من لبن هو حقيقة لا مراء فيها، وهذا ما أكد عليه الشاعر بقوله: “ونسيت ما حصل”.

• ثالثاً: أن الحقيقة ليست نافعة بالمطلق، وليست مفيدة دائماً، بل إن النفع والفائدة قد يكونان في الوهم.

• رابعاً: أن الإنسان يمكنه أن يعتاد الوهم الذي صنعه بنفسه، ويتعايش معه ويصدقه وينتفع به، رغم معرفته بأنه وهم، وهذه ميزة ليست لغير الإنسان، وهذا هو الفارق الوحيد بينه وبين ذات البو التي لا تدرك حقيقة البو!.

لكن الشاعر ليس أول من شبه حاله بحال ذات البو، بل سبقه إلى ذلك شعراء كثر، منهم دريد بن الصمة يرثي أخاه:

وَكُنتُ كَذاتِ البَوِّ ريعَت فَأَقبَلَت … إِلى جَلَدٍ مِن مَسكِ سَقبِ مُقَدَّدِ

وقال آخر4:

وما وجْدُ ذاتِ البو ضاقت لأجله … ثلاثاً فلما لم تجدْه أرنّتِ
إذا ذكرته آخر الليل رجعت … وإن ذكرته أول الليل حنّتِ
بأوجد من وجدي بكم غير أنني … أجمجمُ أحشائي على ما أجنّتِ

وقال أبو العيال الهذلي:

ذكرت أخي فعاودني … صداع الرأس والوصب
كما يعتاد ذات البو … بعد سلوّها الطرب

وختاماً.. لا أظن بأن الشاعر الذي نشأ في بيئة بدوية كان على دراية بمن سبقه إلى هذا التشبيه من شعراء الفصحى، وإنما هي صورة شعرية ابتكرها فتناصت وتوافقت مع من سبقه كتوافق الحافر مع الحافر، وكوقوع السهم على السهم!.


1- عبد السلام إبراهيم بو جلاوي الفاخري، من عمالقة الشعر الشعبي في ليبيا، ولد في عام 1947م بالقرب من قرية سلوق، وعاش في بنغازي.
2- معجم متن اللغة.
3- القاموس المحيط.
4- الأبيات ذكرها أسامة بن منقذ في كتابه (البديع في نقد الشعر) ولم ينسبها.

مقالات ذات علاقة

على شويْ قعدتِ هجّالة

ميلاد عمر المزوغي

مابي مرض

المشرف العام

مفردات اللهجة الطرابلسية بين الماضي والحاضر

المشرف العام

اترك تعليق