اندلعت ثورة السابع عشر من فبراير، لأجل التخلص من الاستبداد والنظام المتخلف الذي حكم ليبيا اثنين وأربعين عاماً، وتأثراً بما حدث في تونس أولاً ثم في مصر. خرج الليبيون إِلى الشوارع في فبراير من العام 2011م وثاروا على حاكم منَّاعٍ لِّلخيرِ مُعتدٍ أثِيمٍ، كان يصف معارضيه بـ«الكلاب الضالة».. ويدفع الطلبة إِلى شنق زميل لهم فِي فناء الجامعة.. وينصب المشانق لمعارضيه السياسيين فَي الميادين والساحات العامة.. ويرسل فرق الاغتيال من لّجانه الثّورية إِلى عواصم العالم المختلفة لملاحقة المعارضين في الخارج وتصفيتهم جسدياً أينما كانوا، داخل بيوت الله أو في الأماكن العامة.. وأمر سجّانيه يوم 29 يونيو 1996م بقتل نحو 1269 سجيناً من سجناء الرَّأي والمعترضين على سياساته، فحدثت الواقعة الدامية التي عرفت بـ«مجزرة سجن أبو سليم».
خرج الليبيون إِلى الشوارع وثاروا على حاكم كان يعتبر الوطن مزرعة خاصّة له ولأولاده، وكان لا يحب أن يسمع إلاّ صدى صوته، ولا يسمح بتاتاً بالعمل الحزبي معتبره خيانة عظمى عقوبتها الإعدام في ظل سياسة شعارها: «مَنْ تحزب خان». ثاروا على حاكم كان يعتبر الانتخابات بدعة وضلالة وتزييفاً للديمقراطية، ويعتبر التمثيل النيابي كذباً وتدجيلاً !!، وعبر عن ذلك في نصوص كتابه الأخضر التي حكم بها البلاد، وكما جاءت في مقولاته التالية: «لا نيابة عن الشعب والتمثيل تدجيل».. «المجلس النيابي حكم غيابي».. «المجالس النيابية تزييف للديمقراطية».
ثاروا على حاكم ألغى الصحافة الأهلية بموجب قرار أصدره في العام 1972م، وزج بالعديد من المفكرين والأدباء والكُتَّاب والصحفيين في السجن بحجج مختلفة منذ إعلان النقاط الخمس في خطاب زوّارة في 15 أبريل 1973م – الخطاب الذي عُرف بـ«الثورة الثقافية»، وهي الثورة الّتي ألغت القوانين المعمول بها والنظم الإداريّة المتعارف عليها وكانت المتكأ والمنطلق للعبث بكلِّ مظاهر الحياة الثقافية في ليبيا. واعتمد سياسة تجويع الشعب وإفقاره لأجل إحكام السيطرة عليه، وأصدر قرارات تلو القرارات التي تمَّ بموجبها مصادرة أموال الليبيين وممتلكاتهم الخاصة، وإلغاء النشاط الاقتصادي الخاص، وفقاً للنص الوارد في الفصل الثاني من كتابه الأخضر الذي اعتبر الربح نوعاً من أنواع الاستغلال.
ثاروا على حاكم عربيد قاصر الفهم، فكر يوماً أن يلغي العملة ويعود بالليبيين إِلى عصر المقايضة، وهداه تفكيره يوماً والذي يزعم أنه «اشتراكي»، بدعوة الِلّيبيين إِلى زراعة الخضر فوق أسطح المنازل وشرفات العمارات، وتربية الدواجن داخل الشقق لتحقيق الاكتفاء الذّاتي، وفرض على كلِّ أسرة شراء قفص مِن الحديد يسع قرابة أربع أو خمس دجاجات !، ليكتفي كلِّ منزل ذاتياً من حاجته إِلى البيض واللحم، وعلى هذا النحـو كان ينظر إِلى «نظرية الاكتفاء الذّاتي»!
ثار النَّاس في السابع عشر من فبراير على حاكم متعجرف كان يتلذذ بحرمان الليبيين وإذلالهم، لدرجة أنه أصدر أمراً في مرحلة ما بعدم استيراد الأحذية، ودعا كل شخص تقطع حذاؤه إِلى ترقيعه وخياطته، وقال إن الِلّيبيّين محتاجون إِلى «خرازين» وليسوا بحاجة إِلى أحذية جديدة، وكيف لهم أن يكلفوا خزانة الدولة الملايين، على أشياء لا تستحق! وكان يتلذذ بإهانة الليبيين واستحقارهم، لدرجة أن الأمر وصل به أن يقطع بث التلفزيون كلما شاهد شيئاً لا يعجبه أو علم أن النَّاس مجتمعون حول شاشات التلفاز لمتابعة شيء يحبونه، ليضع حذاءه على كبر الشاشة في وجه المشاهدين، أي وجوه كافة الليبيين!
هذا ما دعا الليبيين إِلى الثورة، وما يدعونا ونحن نحيي الذكرى الرابعة عشرة للثورة، التأكيد على أنها كانت ثأراً لكرامة كل ليبي وسعياً لنيل الحرية واسترداد الحقوق. وكانت حاجة ماسة وضرورية، ومطلباً شعبياً لكلِّ الليبيين، وساعةً انتظرها الجميع بفارغ الصبر، وقد سبقتها تضحيّات جسام ومحاولات فردية وجماعية بغية التخلص من حاكم متخلف مستبد اختصر الوطن فِي شخصه وفي قرار يصدر عنه. وكانت لحظّة مفصلية في تاريخ ليبيا، والخطوة الأهم في طريق الوصول إِلى الدولة المدنية الدستورية القائمة على صندوق الاقتراع.
هدفت فبراير إِلى إسقاط الدّكتاتور وإنهاء نظام حكمه، وأتمت مهمتها بنجاح تام، وتركت تحقيق الطموحات والآمال والتطلعات على عاتق كافـة النَّاس. ونجحت ثورة فبراير نجاحاً باهراً في تحقيق هدفها المتمثل في إسقاط الطاغية الذي كان متمسكاً بعودة المجتمع الليبي إِلى العصر الحجري، وسلمت الراية أو الأمر إِلى كافة النَّاس ليواجهوا الثورة المضادة ومخلفات ثقافة همجية كان عنوانها الإقصاء والرقص على جثث أصحاب الرَّأي والعلم والمعرفة، وشعارها: «سير وﻻ تهتم يا قائد وصفيهم بالدم»، و«ما نبوش كلام لسان نبو شنقه في الميدان».
ومَنْ يحاول اليوم تحميل ثورة فبراير، وزر الفشل والتدهور والانقسام والانفلات الأمني الذي يُهدد وحدة البلاد واستقراره، ووزر ما هو جارٍ من تدخلات خارجية والمرتزقة الذين يسرحون ويمرحون في طول البلاد وعرضها، يخلط الأمور، ويتجاهل الثورة المضادة، ويتغاضى عن التآمر الخارِجِي، ويتغافل عَن إرث ثقيل تركه نظام متخلف حكم البلاد بفوضوية لم ير العالم مثيلاً لها عبر العصور.
ثورة فبراير لا تنتظر منا اليأس والاستسلام، وتؤكد لنا أن طريق الثورات طويل وشائك، وأنه يحتاج للصبر ليحقق أهدافه الكاملة. وأن ليبيا تنتظر منا جميعاً إدراك المخاطر والتحديات، والتغلب على كافة المشاكل والعراقيل والمؤامرات، واستكمال المسير نحو النصر الكامل، كما فعلت شعوب أخرى، عبر التاريـخ.
أخيراً، أجد نفسي مضطراً لأختم كلامي بنفس ما ختمت به مقالتي في ذكرى فبراير السادسة، فأقـول: «ليبيا اليوم تنتظر منا جميعاً تصحيح المسار ومعالجة الأخطاء واستكمال المسير نَحْو النًّصر الكامل، والتغلب على الفتن والفرقة، وتجاوز كل العراقيل وكافـة العقبات والمشاكل الّتي تعترضنا، وأن نكون مدركين أن التّاريخ سيحاسبنا إنَّ لم نحسن النهايات كمَا أحسنا البدايات».
وختاماً، لابد أن نطمح ونعمل من أجل العودة إلى «كنف الشرعية الدستورية» بعد اثنين وأربعين عاماً من العيش في عبث وجحيم «الشرعية الثورية» في ظل نظام القذافي الانقلابي، وبعد أربعة عشر عامـاً من مصارعة الثورة المضادة والمخلفات التاريخية وإرث نظام القذافي الاستبدادي والتدخلات الخارجية السلبية.
وأقول مؤكداً.. لن يحكمنا سيف القذافي بعد أبيه، ولن تعـود «الجماهيرية» مهما حدث وصار.. وستنتصر فبراير حتماً
طال الزّمن أو قصُر.
والعبــرة لمَـنْ يعتبر
كـل عـام وحبنـا للوطـن أكبـر، وكـل عـام والوطـن بخيــر وســلام
يوم الأحد الموافق 16 فبراير 2025م
* هذه المقالة سبق وأن نشرتها يوم السبت الموافق 17 فبراير 2024م بمناسبة الذكرى الثالثة عشرة لثورة السابع عشر من فبراير، وقد أضفت إليها بعض التعديلات البسيطة.