في ثوانٍ …نفض القلب نفضته الأخيرة… شهقت نفسا واحدة.. اتسعت حدقتا عينيها وتجمدتا.. تيبست أطرافها.. وانتهت.
ثوان التقت فيها نظراتها بقاتلها…دامعة، غائمة، مذعورة، مرتعشة، ضائغة ومصدومة لم تستوعب ما يجري..
كان المبنى هادئا كعادته إلا من بعض حبيبات الغبار الهائمة في الهواء، فاجأتها اشعة الشمس الساطعة من النوافذ الزجاجية المضببة والمتربة.. كل منهمك في عمله، وهناء تقترب من حاسوبها حتى يخال انها تهم باحتضانه.
تجاوزها الوقت… مضى فحاولت اللحاق به، لكنها عبرت على عجل ذلك البرزخ الذي قادها إلى الموت…استسلمت له وسكنت إليه تماما. لثوانٍ ترددت وحاولت أن تقاومه.. أن تقطعه وتلبي دعوة زميلاتها الملحة في اللحاق بركب الحياة وتناول الافطار معهن بإحدى المكاتب التي تقع في المبنى الآخر من مقر عملها… للحظات حاولت أن تقاوم ضغط القدر وأن لا تستسلم له، أن تتراجع بكرسيها إلى الخلف، تبتعد عن حاسوبها، تتكئ بيديها على الطاولة، تنكفئ عن براثن موت يقترب منها.. تتملص منه، تدفع بقدميها بإصرار ناحية الباب.. تخرج جسدها إلى الهواء الطلق.. تنصاع قدماها إليها تدلف مبنى آخر وتصعد السلالم، تقبض على يد أحد المكاتب، تدفع الباب ببطء، تطل بإبتسامتها الخجول… تتلقف جلبة زميلاتها وضحكاتهن.. تمسك أصابعها بقطعة الخبز الطازج.. تفتح فمها وتقضم قشرة الخبز الساخن تتناثر بين أسنانها فتحيا….
لكنها لم تفعل!
كل ذلك لم يحدث… استسلمت.. تجاوزها الوقت.. بعض منه…تكات ساعة حائطية.. أرقام ساعة النقال السريعة تلتوي في أشكال مختلفة سريعا تحت ناظريها .. ثم تسمرت عيناها على أرقام شاشة حاسوبها، فحانت ساعتها!
وفي تلك الثواني التي تجاوزتها… سمعت جلبة تقترب.. صراخا تختلط فيه نبرات المباغتة بالنجدة بصهيل الوعيد وطلقات نارية متقطعة، ثم رأت خيال رجل بغطاء رأس وكأنه خرج من زمن قديم ولحق بها…لحق بتلك الثواني التي مرت من أمامها سريعا فلم تقضم لقمة الحياة.. لم تصرخ.. لم تستدر بكرسيها وتهرب نحو الباب.. كانت قد استسلمت وتجاوزتها الثواني حين استقرت الرصاصة في جبهتها وانفجرت فيها.
هكذا مابين الحياة الضاجة بأحلام فتاة ليبية تعيش زمن الحرب وتقاومه بروتين يومها وتصدق أنه ” دعكة فروخ”، وبين الرصاصة المدربة التي استقرت كما خطط لها، ومنعتها عظامها من أن تنفذ، أفرغت الدماء من جسدها وجمدت دورة حياة أثناء دورانها ولم تكتمل في ثوان.. استسلمت فيها “هناء” لأرقام متحركة بدلا من قلق احساسها، حين قررت في تلك الثواني أن لا تمارس روتينها اليومي، فتجمدت حياتها واستمرت ساعة نقالها في الرقص بذات النسق…حتى انفجر المكان ومات كموتها.
الحياة والحرب يتواجهان…أنثى عزلاء إلا من أظافر وقبضة يد وصراخ أمام غولٍ أحمق. تنهزم الحياة أمام الحرب كانكفاءة أمام ابن تنمرعلى رحم منحه قبلة الحياة، أو قهر من عضة ليد ساندته في مشيه، كتقهقر امرأة معنفة تكتم بكاءها، كانكسار فشل رغم لهاث جهد ومحاولة، إنه محاولات هرب عصفور في قفص…نبتة تنهض على سطح جرف هاوٍ.
لا قيمة للحياة أمام الحرب إلا من نزر يسير بالمضي معها…أن يعتادها الإنسان ويتعايش معها دون أن تتساوى الخطوات أو تلتقي… فيعيش على هامشها الضيق، يقتات من مخلفاتها، ويرتوي بمياهها المالحة، ويقبض على دنانيرها الرطبة بعرق أيادٍ تنغلق عليها أطول مدة ممكنة…يقاوم بروتين يومه، ويقنع نفسه إنها لاتعدو أن تكون ” دعكة فروخ”، وإنها كلما اشتعلت لابد وأن تخبو.
لم تعش “هناء” حربا، إلا من خلال صور جامدة أو متحركة، ولم تكن تعنيها…دائما بعيدة عنها. وحتى حين اشتعلت في بلادها واقتربت من حيها، سرعان ما عاشت بالتوازي معها… اعتادتها، شعرت انها تلازمها، جزء من يومها، لكنها ليست حياتها.. قد يكون ذلك بسبب تقطعها وعدم استمراريتها كالموت يقبض الروح ويرحل. حربٌ تختلف عن الصور التي رأتها، أقرب إلى “العركة”، لكنها “عركة” بالأسلحة واحيانا بالقذائف.. تشتعل وتخبو سريعا. لم يكن احتلالاً اجنبياً، ولا حرباً طائفية.. كانت ” دعكة فروخ” كما يردد والدها… “مفرخ وحصلوا سلاح.. خزي والعنت”.. تبتسم وهي تجلس إلى جواره.
طوال عمرها تجلس إلى جواره في سيارته ينقلها من المدرسة إلى الجامعة ثم إلى عملها..”يا بوي بندير سيارة ماعاش بنتعبك”.. يرمقها بطرف عينه ويبتسم من وراء شعيرات ذقته المهملة.. “شنو بتقعمزوني في الحوش..ماعندي ماندير على الاقل نوصل ونجيب”.
تتعاقب أجيال من فتيات البلاد… لكل جيل ملامحه.. جيل “الفراشية” الذي كان يرى العالم من خلال ثقب، ثم جيل “البيشة” الذي رآه من خلال شباك شفاف أسود والذي نهل العلم وانخرط أغلبه في سلك التعليم، وجيل حمل حقائبه لبلاد بعيدة ليرى العالم ويلمسه، منهن من عدن وآخريات بقين، ثم جيل العسكرية و المسيرات القسرية وفرص العمل في القطاع العام، ثم جيل “كاستات” المواعظ والترهيب والترغيب، فجيل الطبقية والعولمة والحواسيب…لكنها كلها اجيال تفتل حبيبات الكسكسي وتلوك عجينة البازين وتتمايل مع أغاني “الزكرة” و”الزمزامات” وتتفاخر بحلي الذهب التي تنوء بحملها…
تمثل “هناء” ذلك الجيل الذي لم يتحسس ملامحه بعد.. لأنها لم تكتمل. درست اللغة الانجليزية واتقنتها رغم انها لم تسافر، لم ترى العالم حتى من خلال ثقب أو باللون الاسود والابيض، لم تسافر إليه، لكنه أتى إليها في غرفتها التي تشاركها مع شقيقتها، في بيتهم الذي ساهمت في بنائه.. حضر اليها كجني علاء الدين من خلال شاشة صغيرة… أتى إليها أينما كانت وكيفما أرادت، المهم أن تتقن رقن الكلمات، وتدوس الزر فتستدرجه في ثوان، أطلت من جهاز حاسوبها وبنقرة على حروف بلغة أحبتها.. اكتشفت أنها تنطق بلهجات مختلفة.. أعجبها اللسان الذي يأكل حروفها ويلوكها ثم ينطقها بسرعة كعربات قطار مسرع نحو محطاته المنهكة من الانتظار…اللغة التي جرّت العالم كله إليها..
تنتظر “هناء” ان تنتهي ” دعكة الفروخ” للالتحاق بشركة أجنبية تحافظ فيها على لغتها وتطورها، تصدق والدها انهم “مفرخ” “توا يجي يوم ويلقطوهم”… لكن “المفرخ” يكبرون.. ويتحالفون.. ويقضمون قوت الشعب ولا يشبعون، وينهبون المصارف نهارا ولا يرحمون حتى الحسابات الشحيحة، ويستغلون المعسر، ويختطفون الميسر، ويتهافتون على أية بعثات خارجية لحج بيت الله أو دبلوماسية لعواصم العالم، يغسلون اموالهم بدموع اليتامى والمساكين. لم تكن تعرف كما أبيها إنهم يكبرون وينتفخون فيتحكمون وقد يحكمون.
بعد أن كانت “هناء” وزملاؤها يجلسون في قاطع واحد بمقر عملها… يعملون في هدوء على إيقاع اصابعهم وأنفاسهم الدافئة، تلك الحركة المعتادة التي تبعث حرارة في المكان… جر عجلات الكرسي..رنين لقاء الفنجان بصحنه، همهمة الأوراق، حرث الأقلام عليها، تطاير دوائر ثقوبها، كرمشتها.. تمزقها…حتى اهمالها وتجمع الغبار على سطورها، ايداع سماعة الهاتف في مخدعها، صحو الحاسوب من سباته، جرعة مياه أو رشفة قهوة.. حركة لم يعقبها سكون ما بعد صرير إغلاق الباب الحديدي… بل قطعتها الصدمة.. حتى ارتطمت أجسادهم ثم تفرقت كما جنائزهم، وعجزت بلادهم التي عملوا من أجل غدها أن تتوحد في حادث رحيلهم..
بعد أن تفرقت أجسادهم وتلطخت حواسيبهم بحشو أحزمة ناسفة وقطع لحم مسمومة، بعد يوم مشؤوم وضربة موجعة، تم التعامل معها “دعكة فروخ”، دنست قاطعهم الاسود نعال جلدية فاخرة وكعوب احذية أنيقة .. اقتربت من دمائهم الملطخة على الارض والجدران والحواسيب وقطع من اجسادهم والتقطت الصور ونشرتها… لم يغلق مسرح الجريمة … وقبل أن تلتقط قطع الأدلة والأطراف وأن تحرز وتعاين داس عليها كثيرون…وتخاصموا حول من يختص بها وسرت شائعات بأن بعض القتلى مات بنيران صديقة! تصرفوا معها “دعكة فروخ”.
تلبد وجه والدها بالحزن.. كما تتجمع غيوم البلاد على وجه شتاء طال.. اغرورقت عيناه بالدموع كوديان قريته ثم فاضت على صدره ولم يمسحها أحد..هرع إلى مكان الحادث ثم إلى المستشفى بخطوات ثقيلة، ما أن وصل حيث البوابة حتى ضب المختص الورقة وهم بالرحيل… امسك والدها بقميصه ويده ترتعش…
” بالله عليك.. صارت دعكة فروخ … بنتي ؟ ”
“كان اسمها هناء ياحاج تاخذ عمرها” طوى الورقة، وأردف بإصرار ” ارهاب ياحاج راهو مش دعكة فروخ”….
انهزم ” الحاج” .. هو من أوصلها في ذلك اليوم إلى حيث توقف الزمن.. هو من كان يردد دوما ” دعكة فروخ…”… ” يبوا من يربيهم”…
لكنه منذ سمع اسم ابنته في محطات العالم وشاهد صورتها في كل فضائية نقلت الخبر… وتلقفته احضان وعانقته أذرع بشدة حتى تألم وفقد وعيه…وهو يردد بصوت خافت يخنقه حزن ثقيل وبين أنفاسه المتقطعة ” راهو مش دعكة فروخ… مش دعكة فروخ يا ناس… ”
___________________
هيثرو/ لندن – 6 مايو 2018