من أعمال التشكيلي محمد حجي.
المقالة

المثقف لا يجيب أحدا

أين المثقفون؟ أو الأزمة أزمة ثقافة، ما هو دور المثقف، أو غيرها من الأسئلة والإجابات، تثار بشدة عند استفحال الأزمات، خصوصا حين تحار النخب السياسية أو الآليات الإجرائية في الخروج من الأزمة.

في ليبيا راجت مثل هذه الأسئلة حيال الثقافة والمثقفين من قبل من راجعوا المسارات التاريخية التي أوصلت إلى هذه الانسداد، وذهب البعض إلى إلقاء المسؤولية برمتها على عاتق المثقفين، المتعاطف اتهمهم بالتقصير والمغالي اتهمهم بالخيانة أو الاستخدام.

لليبيا، أو بالأحرى لتأسيس الدولة الليبية، تاريخ أسهم فيه المثقفون بدور هام، حين كان المفهوم المتاح للمثقف من أتيحت له فرص الحصول على التعليم من مختلف التخصصات وله القدرة على قراءة ومتابعة ما حدث ويحدث، كما أن للمثقفين دورا في مرحلة سيطرة الاستبداد إبان النظام السابق، بل إن هذا الدور جعلهم في الصف الأول في مواجهة هذا النظام عندما كان في ذروة وتصاعد وتيرته الشعبية، حيث تحول مفهوم المثقف إلى بعده الأيديولوجي، أو مشاركته الشأن العام عبر الفكر والنقد والكتابة الأدبية بمختلف مشاربها، والبحث، وعبر فنون عديدة تواصلت مع الواقع بشكل مباشر أو غير مباشر.

يواجه المثقف الحقيقي أو الأصيل عراقيل عدة، أهمها انحسار التعامل مع الكتاب والمطبوعات عامة أمام اجتياح التلفزيون والثورة الرقمية للفضاء الثقافي التداولي، وإن كان بمقدور المثقف أن يدلي برأيه المقتضب عبر مواقع التواصل، إلا أن التلفزيون كأداة هامة لا تعير الثقافة العميقة انتباها أو اهتماما في حمى بحثها عن الإثارة التي توفر المزيد من الإقبال في هذا المزاد الاستعراضي الكبير. مثقفون أصيلون كثر، قرأنا لهم، لم يحدث أن رأيناهم مرة على شاشة فضائية من آلاف الفضائيات العربية التي تتزاحم على ترويج السلع التجارية والدراما الساذجة والفتاوى والسحر والخرافات.

سيتبادر إلى الذهن سؤال قديم يتجدد، ولكن من هو المثقف الذي نقصده؟

في كتابه “صور المثقف” يعرض المفكر والناقد الأدبي، إدوارد سعيد سردا مهما يحاول أن يجيب من خلاله عن كثير من الأسئلة التي تحيط بمفهوم المثقف. الكتاب يحوي مجموعة المحاضرات التي ألقاها إدوارد سعيد في برنامج “ريث” بقناة البي بي سي العام 1993 تحت العنوان نفسه “صور المثقف” أو عنوانه الأصلي “Representations of the intellectual ” الذي ترجمه ، حسام الدين خضور ، تحت عنوان “الآلهة التي تفشل دائما”.

واجه سعيد انتقادات حادة من قبل مثقفين غربيين متعصبين منذ الإعلان عن محاضراته، باعتباره في نظرهم نشطا في المعركة من أجل الحقوق الفلسطينية، ومعاديا للغرب، وكتاباته ركزت على لوم الغرب عن كل شرور العالم لا سيما العالم الثالث، وبالتالي فهو لا يسعى إلى حيادية وموضوعية المثقف اللائق بخطاب قناة البي بي سي. وللمفارقة كانت ردوده ضمن هذه المحاضرات المعدة سلفا، حيث يعتبر سعيد، في مقدمة الكتاب، أن مثل هذا الخطاب الثقافي هو المحفز المعرفي وراء هذه المحاضرات “سلسلة سجالات منافية للعقل والمنطق على نحو صريح، كلها، للسخرية تدعم فرضية محاضراتي حول الدور العام للمثقف كلامنتمٍ وهاوٍ ومزعج للوضع القائم”.

محاولة الإحاطة بدور المثقف هو ما يعنيني في هذا السياق، لأن مفهوم المثقف مفهوم إنساني وجوهري مهما اختلفت الثقافة التي ينتمي لها أو الأسئلة التي يثيرها أو يحاول الإجابة عنها، ما يدفع المؤلف لعرض الكثير من التوصيفات للمثقف من قبل فلاسفة ومفكرين ينتمون إلى أزمنة وثقافات مختلفة.

“كل الناس مثقفون، وبناء عليه يمكن للمرء أن يقول: لكن لا يمارس كل الناس وظيفة المثقفين في المجتمع” كما عبر الماركسي الإيطالي أنطونيو جرامشي عن مفهومه للمثقف العضوي الذي يتجاوز مهنة الكتابة إلى كل من له دور يمارسه في الحراك الاجتماعي.

في الطرف المقابل لهذا التعريف يأتي تعريف جوليان بيندا النخبوي للمثقفين”إنهم جماعة صغيرة من ملوك حكماء يتحلون بالموهبة الاستثنائية والحس الأخلاقي العالي وقفوا أنفسهم لبناء ضمير الإنسانية”.

وفي هذه المسافة الشاسعة بين المفهومين تدرجت توصيفات المثقف دون أن تخرج من دائرة ضمير الإنسانية كمشترك أساسي لمهمة المثقف.

عالم الاجتماع الأمريكي، ألفن غولدنر، يذهب إلى مكان مختلف في مفهومه للمثقفين الذين يعتبرهم طبقة جديدة حلت محل الطبقات المالكة والثرية القديمة، وكجزء من هيمنتهم “لم يعد المثقفون أناسا يخاطبون جماعة كبيرة من الناس، بدلا من ذلك أصبحوا أعضاء في ما سماه ثقافة الخطاب النقدي. خبراء متخصصون يخاطبون متخصصين آخرين بلغة مشتركة لا يفهمها الناس غير المتخصصين جيدا. وعلى نحو مماثل قال الفيلسوف الفرنسي، ميشيل فوكو،إن المثقف الشمولي المعروف فقد مكانه للمثقف المتخصص”.

يقول إدوارد شلز: “في كل مجتمع… يوجد بعض الأشخاص ذوو حساسية استثنائية للمقدس، تأمل غير عادي حول طبيعة كونهم، والقواعد التي تحكم مجتمعهم. وثمة في كل مجتمع أقلية من الأشخاص الذين يبحثون ويرغبون في أن يكونوا على صلة حميمية متواترة مع رموز أعم من الأوضاع الملموسة المباشرة للحياة اليومية، وأبعد في دلالتها زمانيا ومكانيا. في هذه الأقلية توجد حاجة لتجسيد هذا البحث في خطاب شفهي وكتابي، في تعبير شعري أو تشكيلي، في التفكير أو الكتابة التاريخية، في أداء شعائري أو أعمال عبادة. هذه الحاجة الباطنية إلى النفاذ وراء شاشة التجربة الملموسة المباشرة هي التي تسم وجود المثقفين في المجتمع.”.

بينما راسل جاكوبي يثابر على العودة إلى فكرته المعهودة التي يصف بها المثقف الذي غدا “روح مستقلة على نحو غير قابل للإصلاح لا تجيب أحدا… كل ما لدينا الآن جيل مفقود استبدل باختصاصيي قاعات درس متحفظين يستحيل فهمهم، قلقين لإرضاء أنصار ومؤسسات اجتماعية مختلفة، منتفشين بشهادات أكاديمية وسلطة اجتماعية لا تشجع النقاش بل تؤسس شهرة وترعب غير الخبراء.”. أما جان بول سارتر، الذي يستخدم كلمة كاتب أكثر مما يستخدم كلمة مثقف، يقول: ” أنا مؤلف قبل كل شيء، بتصميمي الحر لأكتب.” ويعرض، سعيد، رؤية سارتر الذي يعتبر أن المثقف “لن يكون مثقفا إلا عندما يحاصره المجتمع ويغريه ويطوقه ويستبد به ليكون شيئا أو آخر، لأنه فقط عندئذ وعلى تلك القاعدة يمكن أن يبني العمل الفكري. وعندما رفض سارتر جائزة نوبل عام 1964 كان يعمل وفقا لمبادئه على نحو دقيق.”.

في إطار عرضه وتحليله لعديد الآراء والتحليلات، يعرض إدوارد سعيد توصيفاته الخاصة للمثقفين الذين هم في نظره “هؤلاء الأشخاص الذين لا يمكن التنبؤ بسلوكهم العام ولا إخضاعه لشعار ما أو خط حزبي مبدئي قويم أو عقيدة ثابتة… فلا شيء يشوه السلوك العام للمثقف بقدر ما تفعل الزركشة والصمت والحذر والتبجح الوطني والارتداد الاستعادي والمعبر عن الذات بطريقة مسرحية”.

“على المثقف أن يكون هاويا هذه الأيام” يقول سعيد وهو ويحاول النأي بهذا المفهوم عن كل محاولات احتكار وتوظيف الكتاب من قبل قوى خارجه، اجتماعية كانت أم سياسية، معتبرا من البديهي أن يكون للمثقف جمهور وأنصار “والمسألة ما إذا كان ذلك الجمهور موجودا ليشبع رغباته، وبالتالي زبون يجب أن يبقى سعيدا، أو أنه موجود ليواجَه بالتحدي، وبالتالي يُحرَّض على المعارضة العلنية أو يُعبأ لمساهمة ديمقراطية أوسع في المجتمع، لكن في كلتا الحالتين، ليس ثمة مهرب من السلطة والقوة، ولا تجنب لعلاقة المثقف بهما. فكيف يخاطب المثقف السلطة: كمحترف متضرع أو كضميره الهاوي وغير المكافأ.”. ومن هنا جاء وصفه المعهود لخصائص المثقف بأنه منفي، وهامشي، وهاو، ومؤلف لغة تحاول أن تقول الحقيقة للسلطة.

_____________________

نشر بموقع بوابة الوسط.

مقالات ذات علاقة

في ذمَّة الله المفسِّر الأديب الوجيه: عبد اللطيف الشويرف (1350 – 1445هـ)

المكي أحمد المستجير

معاناة

أحمد الفيتوري

ليبيا وأدب الديستوبيا

سالم العوكلي

اترك تعليق