حوارات

القاص: كامل المقهور/ أستجواب الذاكرة

آخر حوار مع الأديب الراحل كامل حسن المقهور

استجواب الذاكرة

حاورته : أ. فاطمة سالم الحاجي/ في كندا

القاص: كامل المقهور

كيف يمكن البدء من الكل وأنا لا أملك غير الأجزاء؟، كيف يتسنى ذلك؟، هل يمكن أن أستجوب ذاكرتي دون أن تشوه ذلك طبيعة الكل؟، وإذا كان لا يحدث من دونه تشويه فكيف يمكن تجاوز هذا التشويه للتعبير عن الحقيقة كيف يمكن استحضار الغائب ـ هل بالتخيل أم بالتجسيد إذا أمكن استحضار الوجود المشخص وفي حال؟، التجريد الكامل يصبح الكل موضوعاً ويكون الحضور في الغياب.

هذا الغياب الذي أنا جزء منه -هذا الفقد الذي لاحقني أينما حللت- إنه امتداد لي واستمرار لحقيقتي لا يفقد سطوته مهما تكرب .

هكذا بدأ الحديث في حضرة الفقد، وللفقد والغياب سطوة خاصة إذا كان الفقد بحجم (كامل المقهور ) هذه آخر جلسة لي مع (الأستاذ/ كامل) في مدينة (أتوا) بكندا، بحث عني واتصل بي، هذه خلاصة ما ورد بيننا أنقلها للقارئ.

صوته يأتي من خلاف الأسلاك يغمرني برائحة طرابلس محملاً بعبق الياسمين والفل، يرحب بدفء بي ويسأل: أين اختفيت يا فاطمة؟..ماذا تعملين في المنفى؟.

أكابر الدراسة واللغة أستاذ كامل وأبحث عن قبول لأطروحتي .

ضحك كعادته: القبول عندك، ولكنك تركته وجئت إلى المنفى… ونتفق على لقاء.

الأنسام الصيفية تخترق الأودية المجللة بخضرة ممتدة ونهر (أتوا) يشق الروابي تعلو مياهه مراكب متناثرة وحنين يغمرني في بيته الواسع المدخل يستقبلنا وكلمات الترحيب تسبقه تحدث كملهوف يتوق لرؤية الأحبة، تحدث عن المشوار الأدبي فسألته ما هي الحقيقة الداخلية لكتابه… لا أعني الحقيقة الذاتية التي نضعها عادة في مقابل الحقيقة الموضوعية.

كامل : هل تعني التجربة الذاتية للكاتب؟

الكاتب يكتب يتأثر بالخارج والداخل.

قلت له: في رأيي لا حقيقة إلا الحقيقة الداخلية لا يمكننا أن ندرك حقيقة لسنا في داخلها ولا نعايشها من داخلها وتكلم هي الحقيقة.

اعترض قائلاً: لا هناك أشياء خارجية تؤثر في الكاتب.

مثلاً أسير في الشارع فأرى طفلاً يبيع السجائر يؤثر المشهد في فأكتب قصة.

قلت: إذن نحن لا ندرك هذه الجزيئات إلا إذا شاركتنا وجودنا فحين ندركها من الداخل أي وجودنا الداخلي.. فالإدراك بالحس كظواهر لا يكفي فلا شيء أسمه الخارج والدليل إذ مرّ إنسان أخر ورأى نفسه المشهد فقد لا ينفعل به .

قال: أنا بعيد عن الفلسفة.

قلت: الكتابة هي فلسفة الحياة، ألم تقل إن الكتاب هو مهندس الذات البشرية؟

أبتسم وقال: كل عمل أدبي هو تجربة من تجاربنا في الحياة الأدب موجود ولا نستطيع العيش بدونه، تصوروا عالماً بلا قصة بلا رواية بلا شعر … (مش معقول).

قلت له أذكره … بلا نقد

قال: النقد هو الأساس لا يمكن أن يكون أدب بلا نقد وإلا كنا كالسيمفونية النشاز كل واحد يعزف حسب رغبته نحن بحاجة إلى النقد ليعطينا الهارموني والمتعة العقلية وأنا أرى أن تنهي هذه الرسالة بسرعة وتعودي.

قال: أعرف إن النقد في ليبيا يمر بمرحلة جديدة وهذه مسؤولية الجيل الجديد الذي يجب أن يعي دور النقد.

قلت: النقد هو حركة الفكر، النقد هو التأمل الذي يغمر النص بالنور وهذا النور يرتكز في موضع دون موضع، وهذا يتطلب فكرة يتحرك بين الجزيئات ليعطينا النور الكلي الذي يغمر الوجود المشخص كله.. هذه الحركة الجزئية هي التي تخلق حالة جديدة هي الحركة الكلية التي لا يمكن أن ينالها الغناء، وهي التي تدفع الأدب من حالته الراكدة إلى صيرورة دائمة في الوجود.

انتقلنا للحديث عن القصة .

عاد الأستاذ كامل يتكلم عن قصتيه الجديتين: قال كتبتهما وأنا أتحقق في كل لحظة الكتابة تطيل العمر .

قلت: من تجاربي إنها تقصر العمر فأغلب الكتّاب يموتون صغار السن ابتداء من “أبي القاسم الشابي” إلى “محمد الحاجي إلى” …

قال بظرفه المعتاد: ربما الشعراء أقصر عمراً من كتاب القصة.

عاد يتكلم عن قصته خاصة وإنه كتبتها وهو على فراش المرض نهض مسرعاً أحضر النسخ من الداخل عاد يحضن الورق كما تحضن الأم طفلها سلمني النسخ وقال: افعلي بها ما تشائين.

جلس في عينيه بريق رغم مسحة المرض قال: عن بطل قصته أنه ظل يلح عليه حتى أخرجه للوجود.

قلت : عملية الإبداع هي خلق لوجود متبادل: هذه القصة هذا الموجود الجزئي أعطاك وجوداً آخر وهذه عظمة الأدب.

انتقلنا بالحديث عن اللغة قال: لغتي لا أفتعلها تنهال علي فأنهال على الورق حتى أنتهي من القصة وأحياناً (ما تمشيش) أتركها وأحياناً تموت تماماً فأنساها.

أحس إنه أنشغل تماماً بالحديث عن محبوبته القصة ولم يسألني عن الدراسة فقال بحس الليبي: شن تديري هناي؟.

قلت له: أحضر دراسة الدكتوراه وأبحث عن قبول.. في تلك الفترة لم أتحصل على قبول بعد.. قلت له: بالإرادة سأنهي الرسالة قريباً..

عاد للحديث عن القصة، وقال: أكره الغموض في القصة وأحب الوضوح.

أجبته: القصة عميقة بوضوحها حسب ما يقولون الآن في الغرب.

قال لي: أنت الآن في الشمال… ضحكنا.

قلت: القصة هي تحليل للتوضيح حسب ما يقولون في (الشمال).. سألته عن تجربته الأخيرة في كتابة القصة..

قال بصوت أبوي وهو ينفخ سجائره بلا توقف: أنا نقلت الواقع كما كان لم أضف عليه شيئاً إلا الصياغة ولمنهل دفعتني لعوالم جميلة وسكت… تخيلته عاد بالزمن إلى مدينة طرابلس القديمة فتى يافعاً (طرابلس العطر والياسمين أتجول في أزقتها وأشم روائحها، الأزقة المعتمة بروائح البخور، الفندق القديم، أصوات الأحذية، الأحصنة، وأصوات الباعة في الأزقة تعلو للترويج لبضائعهم رؤى بالنسبة لفتى يافع تبدو سحرية، أن يعود فتى أطرق باباً ونشتم الباعة لأنها لم تجد أحداً) .

تأوه وضحك قال: أود أن أعود غداً إلى طرابلس..

قلت له: ولكنك لا زلت تحتاج إلى علاج… نظر بعيداً في الأفق وتأوه.

*          *          ***      *          *

في المرة الثانية كان اللقاء بين وبينه في بيتي في مدينة (أتوا) مركز المدينة حيث الازدحام والحي الشديد استقبلنا وأسرتي على باب المصعد كان متعباً يتصبب عرقاً ولكن يبدو أن عوالم الأدب تنفخ فيه أنفاس الحياة فيخرج من بيته ليتحدث عن محبوبته… القصة، اعتذرت له عن حرارة الجو وأني لا أملك مكيفاً أبعدت المروحة عنه جلس يتأمل البيت الصغير والكتب المكدسة على الطاولة الصغيرة… سألني ماذا تكتبين باللغة العربية ثم استدرك قائلاً وحتى بالإنجليزية (حدثته عن اللغة فتحليل القضايا ليس أداة هي خالقة للمعنى بل خالفة للفكر أنصت له باهتمام ووافقني القول).

كانت تبدو في عينيه لهفة مشتاق ليرى ماذا قرأت في قصته أحسست أنه لا يرغب إلا في سماع صدى قصته في كتاباتي ـ أحضرت له مناقشتنا في الأدب والأيديولوجيا خاصة انه في قصته يستعمل شخصيات متعددة ـ

قلت: أنت  تستعمل الحواس في إدراك الوقائع وهذا اهتمام التجريبية وإعطاء الحواس كثيراً لتجسيد معاني عديدة.. وعدته أن أنهي قراءة القصة الثانية بسرعة وأرسلها ولكن الظرف كان صعباً لم يتح لي فرصي لانشغالي  بالتحول إلى مدينة أخرى وإجراءات الدراسة أخذت كل وقتي، تحدثنا عن تخل الأمم الاقتصادي والاجتماعي. وإنما يرجع إلى التخلف الفكري

قال: واجبنا أن نجعل الثقافة لرفع مستوى المواطن.

سألته: ماذا تعني الثقافة؟.

قال: المثقف.

سألته: أي مثقف تعني؟، إذا كان المثقف يكتب بجهالة وينشئ مغالطات ولا يجد لمن يتصدى له، والمثقف على قارعة يشتم لجنة تقييم فنية ولا تجد لمن يتصدى له.. من تطورات فنية وأدبية ثقافية، وأي مثقف (يا عمي كامل) أنا لا أحط من قدر “عبدالقاهر” ولا “ابن الأثير” ولا “الجاحظ” ولكن العصر غير ذلك العصر.

أجابني: يجب أن نفرق بين النقد وسراب القلق أو غباوة التتويه.. نريد أدباً يتجنب التكرار والمتأدبين ـ ونقداً حكيماً رصيناً ـ يوجه مسيرة الأدب، أدب الخلق والإبداع إن جيلنا يتحمل مسؤولية في شق الطريق، ربما قصرنا بانشغالنا بمهام أخرى ولكن يبقى الطريق لأولادنا وتحقيق الرسالة التاريخية للأدب.

وينتهي الحديث وتبقى الكتابة لتخلد (كامل المقهور) وكل الأدباء الشرفاء.. دمعة بحجم الفقد

مقالات ذات علاقة

عائشة إدريس المغربي: شعرت أنني أملك منذ صغري حدسا تجاه الأشياء والكون

المشرف العام

الباحث مصطفى رجب يونس:بالبو كان الحُجّة النموذجية لتبرير ظاهرة الاستعمار

مهنّد سليمان

إبراهيم الكوني: الصحراء وطن الرؤى السماوية وإلا لما كانت مبدع الديانات (2 ـــ 4)

المشرف العام

اترك تعليق