حوارات

الشاعر: محمد الفقيه صالح/ الشعر.. هوية الغموض

الشاعر الليبي محمد الفقيه صالح:

الشعر هوية الغموض!

حاوره: أحمد الفيتوري

الشاعر: محمد الفقيه صالح

نوافير الفقيه

لم يكن محمد بالنسبة لي الشاعر، ولم يكن المثقف، ولم يكن بلدياتي، ولم يكن الصديق، كان أكثر تعقيداً من ذلك وأكثر تشابكاً، لقد بدأنا الخطوة الأولى معاً في بداية السبعينات، لم تكن خطوة بل كانت الارتباك، فلم يكن بالإمكان الاستكانة للإجابات الجاهزة التي أحاطت بالعقدين السابقين (الخمسينات، الستينات). كان السؤال فاغراً فاه وأي سؤال؟.

بدا فإن شعرية “محمد الفقيه صالح” كانت شعرية السؤال في الشعر الليبي، وكانت مكثفة حد أن البعض يقفز عنها. والبعض الآخر يقف عندها مشدوها ودون تعليل. بدا وكأن هذه الشعرية هوية للغموض الذي بحاجة للاستكناه ودون ذلك صعاب وكسل هو سمة الوضعية الفقيرة للثقافة في ليبيا.

في حوار امتد لسنوات كنا نختلف حول اتفاقاتنا، فلقد كان كل منا يرى أن الأمر أكثر تعقيداً. منذ ذلك وإلى اليوم كانت التجربة الشعرية لـ”محمد الفقيه صالح” العلامة الفارقة وشعرية اللحظة الحداثية الراهنة.

أسئلة الشعر

– (سؤال1): متى بدأت كتابة الشعر، كيف دخلت الشعر، وكيف كان الشعر بالنسبة لك، هل هو مشروع في الثقافة أم لغة للروح أم نزوة تورطت فيها؟

– (سؤال2): ما الذي يعنيه أن تكون شاعراً ليبياً، هل للشعر ملامح وخصوصية جغرافية تاريخية، تضاريس لروح الوطن، أم الشعر كون ولغة اللغات أم ماذا؟

– (سؤال3): هل للشعراء الليبيين أثر في شعريتك أم الأثر العربي ولماذا؟

– (سؤال4): علي صدقي عبد القادر، علي الرقيعي، محمد الفقيه صالح، عاشور الطويبي، فرج العشة، فرج العربي، مفتاح العماري، فاطمة محمود، خديجة الصادق، أسماء شعراء وشاعرات ليبيين ماذا تعني هذه الأسماء؟، وأين موقع هؤلاء أو أحدهم أو آخرين في الشعر العربي و الليبي على الخصوص؟

– (سؤال5): ما الذي يعنيه نقد الشعر لك، هل ثمة نقاد للشعرية العربية، خاصة في ليبيا؟

1.. بداية الإجابة

ترجع المفاوضات الأولى والاقتراب المرتعش المتهيب من عالم الشعر إلى أواخر الستينات، حينما أصبحت مأخوذا. في سني الصبا والفتوة تلك بسير الشعراء الإعلام. عرباً وليبيين، قدماء ومعاصرين، وما كانوا يحظون به في ذلك الزمان من مكانة مرموقة لدى الضمير العام فضلاً عن الإنشداد المبكر إلى السحر الخفي الذي يحول الكلام العادي إلى معان لطيفة وكون موسيقي فتان.

الإيقاع الموسيقي في كلام الشعر هو المصيدة الأولى التي طبقت على روحي الطرية آنذاك، هكذا بدأ الأمر فيما يشبه النزوة حقا. لكن الشعر لم يكف عن التغلغل في الروح، وتلبس نوثرها وهواجسها وأشواقها وفرحها الطليق. ولأني أنتمي إلى حساسية شعرية امتزج فيها الخاص بالعام امتزاجا عضويا، وإلى فضاء ثقافي تاريخي محدد لم يملك الشاعر معه أن يغض بصره عما يجري حواليه، لذا أصبح الشعر ورطة حقيقية، ليس فقط من خلال محنة الكتابة الشعرية ومكابدتها، بل كذلك من خلال اصطدامه بالمرجعيات العامة.

2.. السؤال المصيدة

هذا السؤال أشبه بالمصيدة هل للشعر خصوصية زمكانية، وهل هو تجل لروح الوطن، أم هو كائن غامض غريب يضرب في مجاهل الكون والتجريد، إنه كل ذلك وأكثر.

الشعر في نظري.. هو البقعة الموقدة التي ينصهر فيها كل ما ورد بسؤالك وأكثر، إنه أقدر فنون الكتابة على التكليف وعلى اختزال الذاتي والكوني والزمكاني والمطلق والتاريخي وصهره في عبارة واحدة. إنه بؤرة الوجود، والدم الذي يبث بتدفقه وحرارته الدفء في هذا الكيان الغريب الذي نسميه العالم.

من أين يجيء الشعري، وما هو منابعه الغامضة المثيرة، هذا سؤال صعب غاية الصعوبة، ستظل دوما تقاربه دون أن نتمكن تماما من الإطباق عليه في مصائد مفاهيمنا النظرية، لكان الشعري هو ما يستعصي على التحديد، وما ينأي. ومن يدري لعله بهذه الهوية الغامضة يظل بأسرنا على الدوام.

هذا حينما نتحدث عن الشعر والشعري في عمومها. أما حينما نقف أمام نتاج شاعر ما. أو نتاج مدرسة شعرية ما. فلا مفر من تلمس بصمات البيئة الزمكانية ومرجعيات التكوين النفسي والثقافي، وأفاعيلها الخفية والظاهرة في هذا النتاج على أرضية ذلك الفهم الشمولي للشعر وهكذا نرى أن الأمر. حتى على هذا المستوى القابل لمقاربات منهجية لعدة علوم إنسانية. أبعد ما يكون عن التبسيط والاستسهال.

شاعر ليبي!

أما ما يعنيه أن أكون شاعراً ليبيا، فهو أولاً شرف الانتماء لدوحة شعراء بلادي وأمَّتي، وهو ثانياً أصالة اختيار الكينونة الثقافية الإنسانية والوطنية في مواجهة اللغو والتفاهة والبلادة والرخاوة الاستهلاكية.

ثم هو التطلع الغلاب أن أكون مشاركا ومتفاعلا بأصالة إبداعية في عطاء جيلي ومرحلتي، لا مجرد ناسخ عاكس لهما وهذا ما حاولته بوعي وإصرار منذ عشرية السبعينات التي أنتمي إلى جيلها، ولا أدري مدى توفيقي أو إخفاقي في ذلك.

3.. سوق القزدارة

لا أنسى أبداً في صباي. إبان دراستي الإعدادية في النصف الثاني من الستينات، حينما كنت أعاون والدي في عمله بسوق القزدارة (طرق النحاس وتبييضه)، كثيراً ما كنت أترك محل والدي لأقف تحت (برج الساعة) بجانب السوق المذكور، منتظراً رؤية الشاعر المرحوم “أحمد قنابة” قافلاً إلى بيته بشارع قوس المقني بالمدينة القديمة، وهو يجرجر معه ثقل السنين وأحزان الروح التي لم تمكنها تقاليد المدرسة الكلاسيكية التي ينتمي إليها من التجلي في شعره، بقدر ما كانت مرتمية على قسمات وجهه الأسمر المهيب، وحين صدر ديوانه عقب وفاته في أواخر الستينات أسرعت إلى والدي (الأسطى محمد) طالباً ثمانين قرشاً ثمناً لديوان أشعار هذا الرجل الكهل الذي ظللت أرمقه وأتأمله عن بعد عدة سنوات.

نعم، قرأت في بداياتي. ولا أزال أقرأ. جل الأصوات والعلامات في الشعر الليبي المعاصر، في شتى مدارسه ومشاربه، وتأثرت بكثير مما قرأته وعايشته في هذا الشعر، لكنني أود أن أخص بالذكر المرحوم “علي الرقيعي” (وخاصة ديوانه (أشواق صغيرة) الذي أوشكت على حفظه كاملاً في نهاية الستينات) و”محمد الشلطامي” شاعر الغضب الجارح والعنفوان، ثم إنني شديد الحب والامتنان لشاعر ظل على الدوام يطرز في أعماقنا فتنة طرابلس وجماليات روحها البسيطة من خلال توقيعاته ونمنماته الرشيقة إنه الشاعر “علي صدقي عبد القادر”.

أما على المستوى العربي فقد قرأت وتأثرت بإبراز أصوات المدرسة الحديثة: السياب، حجازي، عبد الصبور، دنقل، أدونيس، درويش.. وغيرهم كثيرون، ولا أزال أتابع ما أمكن. الأصوات والحلقات والاجتهادات الجديدة في الشعر العربي المعاصر، ولأنني في معرض مرجعيات التكوين الشعري، فلابد أن أذكر “الشابي” في الشعر العربي الرومانسي، و”المتنبي” في قديمه.

هكذا ترى أن مرجعية تكويني الشعري عربية وليبية في أنٍ معاً، وإن كانت تمتح من الحديث أكثر من القديم، وليس لها للأسف من علاقة مع الشعر الأجنبي إلا من خلال بعض الترجمات التي وقعت بين يدي، أذكر منها ترجمات لبريخت ونيرودا وحكمت وآيلوار.

4.. التسمية مشوشة!

ليس لي موقف سلبي إزاء قصيدة النثر (وهي فيما يبدو تسمية ملتبسة مشوشة، إذ هي في حقيقة الأمر قصيدة حرة)، بل إنني نشرات إبان السبعينات بعض المحاولات في هذا الصدد، غير أنني لم أواصل الإبحار في هذا الدرب الصعب فيما بعد خلال الثمانينات إلا مرتين أو ثلاث مرات، لأسباب لا ترجع إلى موقف نظري مسبق، بقدر ما ترجع إلى متطلبات الكتابة في ظرف محدد، وهو السجن حيث لم يتبق أو يتوفر سوى الذاكرة والحرص على حفظ التوازن الداخلي والحضور اليومي بتوازناته ومعادلاته الدقيقة، في إطار دائرة محددة ومحدودة من المتلقين هم في نفس الوقت رفاق المحنة والحلم في الحرية في هذه الفترة بظروفها الاستثنائية لم أتوغل في إستراجيات الكتابة الشعرية وهمومها وآفاقها البعيدة بقدر ما كان التواصل والتوصيل هماً أساسياً لي.. وخلاصة ما أود قوله في هذا الصدد أن الضروري هو لغة التجربة الحية العميقة، وليكن ذلك بوزن أو بدون وزن.

5.. نقد الشعر

أميل- بل وأنحاز- إلى المعالجات النقدية التي تتعامل مع النص الشعري بجدية ومسؤولية، دون استعلاء ودون إسقاطات. المعالجات النقدية التي تنطلق في تعاملها مع النص الشعري من داخله، أي من صميم بنيته وتراكيبه ولغته وإيقاع نبضه الخاص، دون أن نتعامى عن أبعاده الأخرى، ولا سيما السوسيولوجي منها أو الفلسفي، التي يمكن أن تنطوي عليها تلك التراكيب اللغوية والتصويرية والتعبيرية حتى ولو كان القصد لعباً أو معابثة.

والنقد الشعري، بهذا المعنى يحتاج ليس فقط إلى معرفة عميقة بالشعر قديمه وجديده عربياً وعالمياً، وثقافة منهجية ورصينة يتضافر فيها الجمالي واللغوي والنفسي والتاريخي والسسيولوجي، بل وفوق ذلك إلى حاسة استبصار داخلية مرهفة، تعرف من أين تدخل إلى عالم النص، وكيف تستنطق أسراره وأغواره.

وليس خافياً على كل معني أو متابع مهتم، أن النقد العربي المعاصر للشعر وفقاً لهذا المفهوم ضئيل على الصعيد العربي، ونادر على المستوى الليبي.. ولا مفر من التسليم بوجود فجوة كبيرة بين الأداء النقدي وبين النتاج الشعري تشكل أحد الأسباب التي عمقت غربة الموجة الجديدة في الشعر العربي المعاصر.

6.. تشكيل الشعر

يشكل ما ذكرته في سؤالك هذا جملة من الأبعاد الرئيسية التي لابد أن تنعجن بها وفيها. آية مقاربة للشعر. فمن ناحية ليس هناك خارج المكان والزمان مهما صفا وتجرد من مفردات الحياة والوجود، ومن ناحية أخرى لا يعكس الشعر المكان والزمان الخارجيين أو الموضوعيين. ذلك لأنهما في الشعر غيرهما في سواه تماماً، كما هو الأمر في الفن التشكيلي، مع الأخذ بعين الاعتبار الفوارق النوعية بينهما. حيث لا ينسخ الفنان التشكيلي (لا سيما بعد اكتشاف التصوير الشمسي) أشكال الطبيعة والواقع ومفرداتهما، بل هو يدخل عليهما التعبير والتحوير حد التشويه المتعمد وبذلك تنصهر تلك الأشكال والمفردات برؤياه الخاصة. ويجري في عروقها دمه وألمه وأشواقه والفارق في كل ذلك هو الأداة فهي عند الفنان التشكيلي خط ولون وكتلة وفراغ. وهي عند الشاعر كلمات اللغة لكنها طبعا ليست اللغة القاموسية المحنطة بل هي اللغة الحية التي يتم بها ومن خلالها التغيير والتحوير والتشويه في مفردات العالم أي تشكيل مكان مغاير وزمان مغاير مهما بدا من علاقة له مع الزمان والمكان الموضوعيين هكذا تنتهي العلاقة وتحتدم بين اللغة والمكان والزمان.

أما الهوية فلا أراها في الأساس إلا الأصالة الإبداعية الذاتية وقد تبدت من خلال هذا السديم.

تضاريس الشعرية الليبية

تعني هذه الأصوات الشعرية الليبية المهمة دلالات عديدة فهي أولا أبرز العلامات اللافتة في حداثة الشعر العربي الليبي. وهي ثانياً تجسد الحلقات أو اللحظات الرئيسية الثلاث في تكوين هذه الحداثة وتطورها، وأعني بذلك لحظة جيل التأسيس ممثلاً في “علي الرقيعي” و”علي صدقي عبد القادر” (وإن كان هذا الأخير شاعراً عابراً للأجيال، كما وصف إبراهيم فتحي الشاعر محمد عفيفي مطر في مصر)، ثم لحظة جيل التحول (إن صحت هذه التسمية) ممثلاً في “الجيلاني طريبشان” و”أحمد بللو”، ثم لحظة جيل القطيعة الشعرية أو جيل قصيدة النثر (إن صحت هذه التسمية أيضاً) ويمثلها بقية القائمة الواردة في سؤالك.

وفي هذا السياق أرجو أن تسمح لي بطرح ملاحظتين رئيسيتين أولهما إن هذه اللحظات أو الحلقات الثلاث في الخريطة الشعرية الحديثة الليبية مواكبة لحلقات تطور القصيدة الحداثية العربية المعاصرة وإن ظلت أصوات الحداثة الشعرية الليبية تتراوح في تفاعلها مع جذرها العربي، من حيث الأصالة الإبداعية بين الإيجاب أحياناً والسلب أحياناً أخرى، غير أن ما ثتلج الصدر في هذا الصدد. هو أن وتيرة الإيجاب أخذت وتيرة متصاعدة سواء عبر توالي تلك الحلقات أو اللحظات أو لدى كل صوت في إطار حلقته ذاتها وينطبق هذا بشكل محدد لدى “الرقيعي” و”علي صدقي عبد القادر” في دائرة اللحظة الحداثية الأولى، ولدى “طريبشان” و”بللو” (هذا إذا لم تذكر ابن الطيب وسعيد المحروق ونصر الدين القاضي) ضمن دائرة لحظة التحول ولدى معظم أصوات اللحظة الحداثية الراهنة، وأخص منهم بالذكر: مفتاح العماري وفرج العربي وعاشور الطويبي وعمر الكدي وسالم العوكلي.

ثاني هذه الملاحظات تتعلق بمنهجية رؤيا الحداثة ذاتها لدى جميع الأصوات الواردة في سؤالك حيث تتوزع هذه الرؤيا بين منهجين متمايزين وإن كانا متقاربين، منهج تترابط فيه وتتواهج الحداثة الفنية بالتحديث الاجتماعي، السياسي، الثقافي الشامل (ويمثله الرقيعي في اللحظة الثانية، والكدي في اللحظة الحداثية الراهنة) ومنهج آخر لا يميل إلى هذا الترابط بل هو ينحاز كلية إلى الحداثة بحسبانها نزعة فنية لا تاريخية وتندرج ضمن هذا المنهج بدرجات متفاوتة الحدة، معظم أصوات اللحظة الحداثية الراهنة في الشعر الليبي.

هكذا نرى أن الخريطة الشعرية في ليبيا أصبحت مركبة، متعددة الأصوات والنزعات والمشارب وأصبح في الإمكان تلمس هذا التنوع المتري والمثير في آن معا ولكن من المؤسف حقاً إن كل هذا الثراء والتنوع لم يجد بعد من يدرسه ويؤصله ويستنطقه، لا في الإطار الأكاديمي الذي يعاني من تخلف فادح على مستوى المنهجيات الحديثة والحساسية العصرية، ولا في نطاق الحياة الثقافية والأدبية الليبية بشكل عام التي تشغلها وتستنزفها أمور أخرى ليس لها علاقة بالإبداع النابض المستقر.

بماذا يمكنني أن أشهد وأنا لم أشاهد وقد بلغت منتصف العقد الرابع من العمر سوى القليل ولم اغتسل من نار الشعر سوى مرات معدودات نعم لقد احترفت مع آخرين من جيلي بنار الحب والشعر والسجن وهي تجربة ليست هينة ولا بسيطة خلقت في كثيراً من الرماد وقليلا من الجمر ويسعدني ويشرفني أن يستمر انتمائي لهذا القليل من الجمر الشعري والحياتي.

مقالات ذات علاقة

إبراهيم الكوني يتآسى: لا أبشع من صفقات بيع الضمير

المشرف العام

الصديق بودوارة: لكي تكون لديك رواية يجب أن يكون لديك وطن

خلود الفلاح

الشاعر السوري إياد حمودة…أنا فارٌّ منذ ولادتي وبقيت من أجل امرأة أحببتها

مهند سليمان

اترك تعليق