العين الإخبارية – رضا شعبان – عبدالهادي ربيع
هو ابن شرعي لحالة الألق الثقافي والقيمي الذي مثلته مدينة بنغازي الليبية في ستينيات القرن الماضي، والتي أفرزت الصادق النيهوم، وخليفة الفاخري وغيرهما ممن أثروا الحياة الأدبية العربية بعطاءات إبداعية شكلت الوجدان الليبي والعربي.
هي حالة يصفها الهنداوي بأنها حالة طهر ثقافي شكلته بنغازي التي كانت أشبه ببيت واحد قديم تسكنه كل العائلات الليبية لتجسد القيمة الاجتماعية في العلاقات والتجانس بين أبناء المدينة، الذين كانوا يتقاسمون الخبز والماء والفرح العفوي الغامر.
الأديب العربي الليبي سالم الهنداوي يرى أن ليبيا الآن أكثر احتياجا لهدنة طويلة يسكت فيها صوت الرصاص وصوت الإعلام، وقال في حواره مع “العين الإخبارية” إن الاحتياج يزداد لصوت المثقف الكاتب والأديب، المفكِّر الذي يحكي بصدق عن الخلل الثقافي الذي أوصلنا إلى هذه المحنة، ويضع بدوره الفكرة المثالية التي تخرجنا منها، وإلى نص الحوار.
في البداية نريد أن تطمئن جمهورك الليبي والعربي على جديدك الذي ستثري به المكتبة العربية؟
يصدر لي حالياً روايتان عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت، هما “رحلة نوح الأخيرة” و”ليل بيزنطي”.
الأولى تحوي مجموعة روايات قصيرة من بينها رواية “خرائط الفحم” التي صدرت في قبرص منتصف تسعينيات القرن الماضي.
أما “ليل بيزنطي” فقد كتبتها في قبرص كاملة في نهاية التسعينيات وكانت ستصدر عن هيئة الكتاب في مصر عندما طلبها مني صديقي الكاتب الراحل إبراهيم أصلان، لتكون ضمن إصدارات السلسلة الثقافية التي يشرف عليها، متباهياً بأنها رواية مصرية بامتياز وتصلح لفيلم سينمائي لمناخها وطقسها السياسي وملامح القاهرة الداكنة، باعتبارها أُمًّا كل العواصم العربية، والتي منها يكون التأثير فاعلاً في الشارع السياسي العربي، غير أن القدر كان أسرع من أن تصدر الرواية في مصر، ورحل أصلان.
ليل بيزنطي هو الحقيقة الماثلة في المجتمعات العربية، ذلك أن الثورة تعني التغيير، والتغيير يجب أن يبدأ بالإنسان صانع هذا التغيير في السلوك والمعرفة، وهي الثقافة التي كاد أن يكتسبها من حركات التنوير العربية التي قادها مفكرون وكُتّاب كبار خلال مفاصل تاريخية مهمة مرّت بها البلاد العربية، ولم نرتقِ بمستوى سؤال العقل عبر كل تلك المراحل المهمة، فكانت النتيجة هو ما تراه الآن من اضمحلال ومتاهة.
الليل البيزنطي طويل، ونحن دائماً في أوله، وعندما تقرأ الرواية ويأخذك السرد إلى منتهاه، ستعرف كم كان “أصلان” مُحقاً في خطف الرواية منّي لتشتعل في القاهرة قبل يناير/كانون الثاني، وأن تكون الفيلم السينمائي الذي يجعل من التغيير بداية لأسئلة العقل لدى الإنسان، وليس بمن يأمر القطيع إلى الضياع.
رواياتك جميعها ذات بعد سياسي بارز.. فهل تحاول التعبير عما يحدث أم التنبؤ بما سيكون؟ وهل ترى الواقعية هي المدرسة الأدبية التي تستحق أن تكون بين أبنائها؟
لا تعنيني المصطلحات في تصنيف العمل الإبداعي، ولا أعمل تحت تأثيرها الفني أو السياسي أو الفكري، لا أفصل بين الأحداث في التاريخ، وأعتبرها سلسلة من التراكمات تفضي إلى نتائج واحدة، مهما كانت قيمة هذه الأحداث وتأثيراتها النسبية في حركة المجتمعات.
الأدب كفن وتعبير هو من صميم الفكر السياسي الذي يقود المجتمعات، وبالضرورة يحمي تطلعاتها، ولكن هذا لم يتحقق في كثير من البلاد العربية والكثير من بلدان العالم بسبب الانحراف في الفكر السياسي الذي قاد النخبة إلى السلطة، وأطاح بقيمة العقل الجمعي الذي دعت إليه الكنيسة في عصر النهضة، ودعا إليه الجامع في مقتبل الإسلام، بظهور النخبة النائبة أصبح الناس مجرّد صوت يعلو وينخفض باستمرار لينتهي في النتيجة عند صناديق الاقتراع.
نحن واقعيون في الأدب كما في الحياة، نغامر بالفن لتحقيق جماليات أفضل لنصوصنا كي لا يقول عنّا الآخر إننا لا نمتلك حتى فنون التعبير.
هل تتفق مع ما توصف به الرواية الليبية بأنها مظلومة، داخليا – بين شعب يعتز بالشعر العامي أكثر- وعربيا وسط هذا الفيض من الكتابات حديثا وقديما؟
نعم ظُلمت كثيراً، وفي كل العهود، حيث لم تستقر البلاد في عهد، ممّا جعل من كل شيء جميل في البلاد يخفت قبل الفرح.
لدينا إبداعات جميلة في كل الفنون، لكن يخفت بريقها في المهد بسبب غياب المؤسسات الثقافية الراعية لحركة الإبداع الثقافي، وعبر كل العهود كان ولع السلطة بالشعر الشعبي كولع سلاطين تلك العهود بالشعر، المديح والهجاء سلاح الشاعر في رزقه، كما هو حاجة الحاكم في بسط سلطانه.
لقد ظُلمت الرواية كما سائر الفنون، في وقت تجاوزت فيه الرواية الليبية الكثير من الروايات العربية والعالمية، في التكنيك والتجريب، وفي مختبرات السرد العربي تجاوزت أهم الأعمال العربية التي كان الإعلام حليفها فنالت نصيبها من التراجم ومن الجوائز.
لدينا مبدعون رائعون وإبداعات رائعة، ولكن ليس لدينا مؤسسات ثقافية راعية، ولعل مراجعة ثقافية دقيقة لحال الفراغ الذي استغلته التيارات الإسلامية المتطرفة، سببه إهمال الدولة في كل عهودها للثقافة ومشروعها التنويري.
أدب الأزمة دائما ما يكون ممثلا عن صوت الأكثرية الصامتة والمغلوب على أمرها، ولكننا لم نر درويشا واحدا في ليبيا، كيف تفسر ذلك؟
إذا كنت تقصد محمود درويش فليبيا ليست فلسطين، وإن كنت تقصد حالة المكابدة التي صنعت درويش فلدينا الكثير، لدينا على الرقيعي ومحمد الشلطامي وعلي الفزاني ومفتاح العماري وغيرهم، لكن أصواتهم لم تصدح في إعلام ومنابر ونشرات العالم العربي كما صدح صوت درويش.
هل من الممكن أن نرى “صادق نيهوم” آخر في ليبيا؟
لا أعتقد، فالنيهوم ظاهرة فكرية لن تتكرر حتى في العالم العربي وليس ليبيا فقط، لقد رحل الصادق النيهوم ولكنه ترك الأسئلة قائمة لجيل آخر قد يبحث فيها عن إجابات للمستقبل.
لقد كان النيهوم مفكراً تنويرياً فذاً، قارع الجهل والتخلف على مدى أربعة عقود، ورحل مبكراً في زمن لم ننتبه فيه لأهمية طروحاته الفكرية على الصعيد المعرفي، فلو كانت هناك مؤسسات ثقافية راعية لكان النقاش فيها من خلال الورش والندوات بالغ الأثر في المجتمع، وبالضرورة ينعكس هذا الإيجاب من خلال المؤسسات التعليمية والفقهية والسردية والفكرية.
لقد كان النيهوم ظاهرة فكرية قلَّ مثيلها في العالم، فالرجل ناضل من أجل المعرفة ليكتسبها عن جدارة، فكان متفوِّقاً في كل مراحل تعليمه حتى نال الماجستير في الأدب المقارن، ونال الدكتوراه في الأديان المقارنة، وكان يجيد 7 لغات إلى جانب العبرية والأرامية المنقرضة، هذا بالإضافة لحفظه الكُتب السماوية، ممّا جعل منه المفكِّر الواثق من بحثه ورأيه ونقده للفكر الديني.
الشعر والأدب في كل العالم بدأ يتجه إلى ما بعد الحداثة، في حين يبدو ذلك حلما بعيدا بالنسبة لليبيين، هل هذا صحيح؟
هذا غير صحيح، فحركة الإبداع لا علاقة لها بجغرافيا دول بعيدة أو قريبة أو منغلقة أو مظلومة، إنها حالة خاصة قد يمتلكها شخص في قرية نائية تعاني الفقر والعطش وتنعدم فيها وسائل المعرفة.
إنها ملك الذات المُبدعة أينما كانت، فهي التي تظفر بحياة خاصة منفردة، وتمتلك مفرداتها وسلوك حياتها، ويمكنها الزرع في أرض.
صانعو الحداثة في العالم ليسوا غزاة سقطوا علينا من السماء، إنهم أبناء الأرض التي تمتد في المسافات دون عائق واحد يمنعها عن الرؤية لما بعد تخوم المسافات.
لقد أبدع الليبيون وانخرطوا في التجريب وحركة التجديد، ولعل جيل السبعينيات من القرن الماضي كان كفيلاً بتصنيف نصوص الحداثة في ليبيا على المستوى الشعري والقصصي، وهي الفترة المزدهرة التي ظهر فيها أدب الشباب، وكانت كفيلة بصناعة صحافة ثقافية راجت في الشرق العربي ومغربه.
هل قصرت النخبة الثقافية بليبيا في التصدي لأمواج تيار الإسلام السياسي والإرهاب، خاصة أن كثيرين يقولون إنها لم تصبح تونس ولا لبنان لهذا السبب؟
على مدى عقود كانت السياسة مشروع دولة، ولم تكن مشروعاً نخبوياً، فلم تكن هناك أحزاب سياسية وإنما بعض الحركات لا ترتقي لمستوى التنظيم الحزبي، مثل جمعية عمر المختار التي كانت تتجه للعمل السياسي تحت غطاء اجتماعي لكن ظهرت النخبة الثقافية بعد افتتاح الجامعة الليبية في بنغازي والتي كانت في ذلك الوقت قبلة الطموح لكل شباب ليبيا، فكانت المنارة التي أنتجت عدداً من نوابغ الفكر الذين درسوا على أيدِي أساتذة جهابذة في العلوم الإنسانية من مصر والعراق.
وبظهور الصحف وانتشارها كانت هذه النخبة من طلبة وخريجي كليتي الآداب والحقوق حاضرة بمقالاتها السياسية والاجتماعية والثقافية الفكرية والأدبية، ولقد انخرطت هذه النُخب في المجتمع وتقلدت وظائف مهمة وتدرّجت في العمل السياسي والحقوقي والثقافي، لكن دورها لم يتعدّ الثوابت السياسية في البلاد، ولم تقد حركة سياسية ضد النظام سوى من بعض الأشخاص الذين غادروا البلاد وارتفع صوتهم ضد سياسيات النظام، ممّا يشي بوجود معارضة ضمنية لكل العهود السياسية.
لكن بالمقارنة مع دول الجوار، فلا تجربة سياسية للنخبة تؤهلها لخوض غمار معارك سياسية ناضجة من أجل التغيير، فلا يوجد مثلاً في هذه المرحلة المفصلية من الأزمة الليبية ما يدلّل على تجاوز الأزمة بعقلية وطنية تغلِّب مصلحة الوطن فوق كل اعتبار، فلا تنازلات بين أطراف الصراع.
على مستوى الأدب الشعبي رأينا أشعارا في مصر مثلا للفاجومي والأبنودي ومظفر النواب نقلت أزمتهم إلى العالمية، لماذا لم نر الأدب الشعبي الليبي في أزمة ليبيا؟
الأدب الشعبي سوقه ضعيفة بحكم اختلاف اللهجات، واللهجة المصرية لغة ثالثة يعرفها العرب ويتذوقونها بخلاف بقية اللهجات العربية، وهذا ما ساعد الأبنودي وفؤاد نجم وصلاح جاهين ومستجاب وغيرهم، من اعتلاء منصّات الشعر النمطي والمحكي.
لكن على صعيد التراث فالشعر الشعبي في ليبيا يتماهى مع الشعر الشعبي في بلاد الشام خصوصاً الأردن، وفي عدد من مناطق الخليج مثل الإمارات، حيث تلتقي العديد من المفردات اللغوية ومعانيها في الكثير من القصائد، وهذا يدلِّل على أن الشعر الشعبي ما زال يحتفظ برصيد هائل من لغة الشعر الفصيح، ومن لغة العرب الأصيلة التي اندثرت مع الزمن بفعل الدارجة والانتقاء، وقواميسنا العربية مليئة بالمفردات ومرادفاتها ومعانيها.
تحضرني الآن تجربة جميلة في الشعر المحكي يقودها الشاعران محمد المنقلب وسالم العالم، وهذه التجربة التي تأسست منذ قرابة 20 سنة، طافت أرجاء الوطن العربي ولاقت استحساناً جماهيرياً واسعاً، فكانت اللهجة الليبية فيها واضحة المعاني والدلالات ولا تنفر من قواميس اللهجات العربية الأصيلة.
https://al-ain.com/article/libya-culture-novel-story?fbclid=IwAR1y3clAz4YansAGOJhyqQWs-012wZxqKv9FOaleI1jH_ZaHtSmCRPd-7D8