دراسات

أين موقع المصراتي في حياتنا الأدبية؟

2

الأديب علي مصطفى المصراتي
بريشة الفنان: محمد رضا

لقد سبق لي أن أخذت على المصراتي في دراسته عن الشارف افتقارها إلى أصول البحث، وإغفالها لأهم ما انتهت إليه المدارس الأدبية التي ازدهرت في المشرق العربي، وفي القاهرة على وجه الخصوص موطن دراسة الأستاذ المصراتي وتكونه الثقافي والتي كان من أبرز أعلامها الدكتور طه حسين والمرحوم عباس محمود العقاد، ومن جاء بعدهم من أمثال محمد مندور وأنور المعداوي وغيرهم.

ولقد نشر الأستاذ المصراتي دراسته هذه في أواخر الخمسينيات وهي فترة شهدت فيها الحياة الأدبية ازدهاراً ملحوظاً، حيث تحددت معالم مختلف الأشكال الأدبية من قصة ومقالة وقصيدة شعرية، وكان الانتصار للتجديد واضحاً في تلك الفترة حتى لقد رأينا ثلاثة أسماء هم المصراتي و التليسي والمقهور يشتركون في تقديم أول ديوان شعري جديد هو ديوان الحنين الظامي للشاعر الراحل على الرقيعي.

ومن الواضح أن أول ما يلاحظه قارئ دراسة المصراتي موضوع المقال هو تأثر الكاتب بجدية الحركة الأدبية التي ازدهرت _ كما سبق القول _ في تلك الفترة فترة الخمسينيات، فهو أولاً يقدم ترجمة موسعة عن حياة الأسطى عمر، وهو ثانياً يحاول إبداء العديد من الآراء على عكس مافعل بدراسته عن الشارف، حيث رأيناه يغفل مثل هذه النواحي، نتيجة تأثره بفترة الركود التي سيطرت آنذاك، ومن هنا فإن مناقشة دراسة الأستاذ المصراتي عن الأسطى عمر ينبغي أن تقيَّم في ظل الإطار العام للحركة الأدبية التي عرفتها بلادنا وكذلك التي عرفتها البلاد العربية التي كانت على الدوام مؤثرة في حياتنا الأدبية بالسلب والإيجاب.

ومثل هذه النظرة تساعدنا بلا جدال على عدم الانزلاق في منزلق الأحكام العامة، سواء أدت بنا هذه الأحكام إلى مجاملة الأستاذ المصراتي على حساب الحقيقة، أو الافتئات عليها لحساب الأستاذ المصراتي.

وعندما نعود إلى تلك الفترة التي طبع فيها المصراتي دراسته عن الأسطى عمر سنة 57 تبرز أمامنا عدة دراسات، نسوق منها على سبيل المثال بالنسبة للداخل: دراسة عبد القادر أبو هروس الموسعة عن القصة والتي نشرها في حلقات على جريدة فزان، ودراسته الثانية عن الحكيم والتي نشرها كذلك في نفس الجريدة، وذلك بعد أن ألقاها في محاضرتين ضمن المواسم الثقافية التي نظمت في ذلك الحين، والدراستان تنمان عن جهد ملحوظ بذل من قبل أبو هروس سواء اتفق المرء مع آراء الكاتب أم لم يتفق.. وكانت هناك مقدمة كامل المقهور الموسعة لديوان الرقيعي والتي حوت الكثير من الخطوط المنهجية والآراء النقدية، أياً كان الموقف منها أيضاً، وفضلاً عن ذلك هناك دراسة خليفة التليسي التي نشرها في كتابه المعروف : الشابي وجبران.

أما بالنسبة للأوساط الأدبية العربية فإن الأعداد أكثر من أن تحد، ولكن إن كان لابد من مثل فلنشر إلى دراستي الدكتور إحسان عباس عن الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي وعن الشاعر القديم الشريف الرضي. ودراسة مندور.

وبالرغم من الخلاف الفكري البين الذي يفصل بين هذه الأسماء البارزة هنا وهناك، فإن الرابط الذي يربط بينها جميعاً هو ما تتميز به من استواء في الشخصية الأدبية، وتوفر واضح في الخلفية الثقافية.

وحين يعود المرء إلى دراسة الأستاذ المصراتي عن الأسطى عمر سيلاحظ بجلاء ما تعانيه من قصور أمام هذه النماذج التي ارتفعت في ذلك الحين، ولنأت الآن إلى مناقشة هذه الدراسة كما فصلها الأستاذ فصلاً، فصلاً.

في الفصل الأول من الكتاب، والذي عقده الكاتب لما يمكن تسميته بالسيرة الأدبية، أو كما تقول الدراسات الأكاديمية حياة الشاعر وعصره، نجد أنه بالرغم من التوسع الكلي يقع أحياناً فريسة معلوماته الشخصية، دون أن يقدم مصدراً واحداً يزكي آراءه لدى القارئ، يقول الأستاذ في ص 39 (( يرى إبراهيم الأسطى أن الشاعر الذي لا يشترك في التيارات شاعر أعزل وشاعر أقرع وشاعر أجوف لا يستحق أن يكون مواطناً )).

ولو سألناه من دليل واحد يؤكد به وجود مثل هذه النظرة لدى الأسطى عمر لن نجد سوى أحكامه التي يطلقها بلا حساب، ولو أننا تعمقنا هذه الآراء لما وجدنا غير انعدام الرؤية الواضحة، وإلا كيف غاب عن ذهن الأستاذ أن انعدام الموقف عند الشاعر يعتبر في حد ذاته موقفاً؟ _ ربما كان لأستاذ المصراتي متأثراً في ذلك الحين بالدعوة إلى التجديد، وهو تأثر يدل بدون شك على وطنية الرجل، ولكن بأي مفهوم ثقافي؟ لا شيء غير كلماته العامة: (( لا بد للكاتب أن ينغمس في السياسة وفي التوجيه الوطني وإلا ظل الكاتب طاحونة تدور في الهواء، وإلا ظل الكاتب معلقاً كالذي يمشي على وحل )). ولو أننا عدنا إلى دراسة المقهور عن الرقيعي والذي شارك المصراتي في تقديمه وجدنا كاتباً يحدد لنا دوافع التجديد وظروفه وأسبابه والمكاسب التي يمكن للحركة الأدبية أن تجنيها من ورائه، ولو قرأنا ما كتبه التليسي في نفس الديوان رأينا مدى النظرة الفاحصة التي تحذر من الانسياق وراء الإعلام.

وحين نمضي مع المصراتي لنفهم خصائص الأسطى عمر ومنها على سبيل المثال ما يمكن تسميته بفكرة المعاودة والتنقيح، عندما خيل إليه أن الأسطى عمر من النوع الذي ينقّح أشعاره وإلا لما كتب شعراً بهذه الجرأة من البداية؟ لانجد لدى الأستاذ أيّة إشارة تعيننا على اكتشاف هذه الحقيقة، وعلى العكس من ذلك مثلاً نجد كاتباً معاصراً للمصراتي ومن جيله في نفس الوقت هو محمد مندور يحدد هذه القضية في دراسته الصغيرة الحجم التي كتبها عن مطران في تلك الفترة بل وألقاها محاضرات سنة 54م عندما استفاد من خلفية محاسبة النفس التي تميز بها مطران ليحولها بالتالي إلى خاصية من خصائصه الفنية، تجعله ومن خلال المقارنة الصارمة أكثر أصالة وأقل عيوباً من شاعر عملاق كأحمد شوقي.. ونفس المأخذ نجده في مسألة الخمر التي اعتقد المصراتي أن لها مكاناً في شعر الأسطى عمر والواقع أن شعر الأسطى عمر لا يدل إطلاقاً على وجود رغبة لدى الشاعر إزاء هذه الشهوة باستثناء ما تشهده الحياة العامة لكل الناس في تلك السنين، ومرة أخرى أجدني مضطراً للعودة إلى دراسة مندور عن مطران لأشير إلى قضية الحب وتأصل فكرة المعاودة لدى مطران بحيث جاء شعر مطران كما يقول الدكتور مندور خالياً من ضمير الأنا في عمومه، وذلك بالرغم من أن الحب مسألة معروفة في حياة مطران، وذلك للمقارنة بين من يحاول قراءة العمل الفني على مهل وكما هو شأن الدكتور وبين من يعول على الاجتهادات كما يفعل الأستاذ المصراتي.

إن هذه الدراسة في الحقيقة تعاني من سيطرة النظرة التعميمية المتعجلة وغير المتعمقة في نصوص الشخصية الأدبية المدروسة والدراسات التي قدمتها الأقلام الرائدة أو المرافقة لها في الريادة، وكلما أمعن المرء في سطورها وضحت أمامه هذه الحقيقة، وأن خير دليل على صحة هذا الحكم الفصل الذي عنونه المصراتي بعنوان الأصالة الفنية، يظهر العجز من البداية حيث يستهله هذا الاستهلال غير الجاد : (( لابد أن نقدم لك هذه الكلمة العابرة قبل أن نقدم لك شعره،ونعرض قصائده لتكون كطبق (السلطة) قبل الطعام الشهي )). ويضيف: ((شاعر فنان يصور انفعالاته ومدى أحاسيسه في قصائد وأحاسيس من أروع الشعر المعاصر.. شاعر لديه الأصلة الفنية فلم يغلف شعره في براقش المجازات البعيدة أو شطحات الخيال المتكلف)). وينتهي إلى القول عن الشعراء الذين لا يرضى عنهم: (( هذا النوع – عفاك الله – من شعراء جاء شعرهم لا هو طاووس يمشي ولا بلبل يحلق )).

ولا شك أن المصراتي بهذه النصوص لا يقدم لقارئه أي زاد. على أن هذه المآخذ تعمق أكثر فأكثر حين يقف المصراتي أمام نماذج الأسطى عمر الشعرية ليبين مدى تأثرها بالنماذج الشعرية كقصيدة الشاعر (سر الحياة).

فعلى الرغم من أن الأستاذ المصراتي قد سجل على الأسطى عمر تأثره بإيليا أبو ماضي من حيث الصياغة، إلا أن منطلق الإعجاب مالبث أن أودى به إلى الاعتقاد بان في القصيدة تأثراً بالمعري، ولو تمهل الأستاذ قليلاً لابد أن يقول أن هذه القصيدة لا تعدو أن تكون تقليداً ساذجاً لقصيدة ( لست أدري ) وأنها أقل منها موسيقى ومعنى و معاناة، بل ولا مكنهُ أن يُقارن بينها وبين قصيدة رفيق الموجهة إلى دانويو وبين مدى ضعف الأسطى عمر أمام رفيق، ولو أنه تمهل أيضاً لكان في مكنته أن يكشف ما في قصيدة أسرار الجمال من بوادر طيبة، وما في قصيدة الأسطى عمر عن الكتاب من تقريرية، ومن العيوب الظاهرة في هذه الدراسة افتقارها إلى التنسيق وخضوعها للتدخل والاستطرادات، وخلوها من التعرض للناحية الفنية على الإطلاق.

وعندما نلقي نظرة سريعة على الدراسات التي سبق أن ألمحت إليها في بداية هذا المقال نجد فوارق كبيرة بينها وبين دراسة الأستاذ المصراتي التي يفترض فيها أن تصل إلى أعلى مستوى.. وحسبنا أن نشير هنا إلى موضوع المؤثرات الأدبية: عن المؤثرات الأدبية يفصل الدكتور إحسان عباس تأثير إليوت في البياتي في كتابه سالف الذكر تفصيلاً لا مكان فيه للغموض، وعن تأثر الشريف الرضي بالمتنبي يقول في نفس الكتاب إن الشريف أقل فحولة من المتنبي بالرغم من إعزازه أي إحسان عباس للرضي.. وفي ذات المدة يخرج خليفة التليسي بوجهة نظره الصارمة التي تنسب الشابي إلى مدرسة جبران وتبين من خلال المقارنة وبرغم إعجاب الكاتب بالشابي إن جبران هو الأب الروحي لهذا الشاعر العظيم.. أما دراسة الأستاذ المصراتي فإنها تكتفي بالقول إن الأسطى عمر تأثر بأبي العلاء المعري وذلك دون أن تعلمنا هل انفصل الأسطى عن المعري أم لم ينفصل بل دون أن تعلمنا مدى هذا التأثر.. كل ما تقدمه هذه الدراسة الرائدة هو الانطلاقات والكلمات السريعة.

ولعل هذا الاستعراض أن يكون كفيلاً بتوضيح أن دراسة الأستاذ المصراتي عن الشارف ليست هي الوحيدة التي تنال من موقعه في الدراسة الأدبية، بل إن دراسته عن الأسطى عمر، تندرج هي الأخرى ضمن هذه المقولة، ولا شك أن عيب الأستاذ هو انطلاقه من منطلق الإعجاب وتأكيد مبدأ الوجود الأدبي للشعراء الليبيين حتى ولو لم تكن النصوص في مستوى الأحكام.

لقد كانت نظرة الأستاذ المصراتي نظرة تجزيئية مجردة، ومن هنا لم يتطرق إلى حركة التجديد التي عرفتها الحياة الأدبية في العالم العربي، ليدرس الأسطى عمر في ضوء هذه الحركة، كان من الأولى أن يركز على أن الأسطى عمر ظهر في أواخر الاستعمار الإيطالي وفي ظروف لم تكن فيها الحياة الأدبية موجودة، ولقد فاته في هذا الخصوص أن يلاحظ أنه بالرغم من العقبات التي توضع أمام المثقفين سواء بين بلدان العالم العربي أو بين العالم العربي والعالم أجمع، فإن الثقافة أقدر من أي شيء آخر على تجاوز هذه الأسلاك والوصول إلى من تشاء الوصول إليه، هذا فضلاً عن أن الأسطى عمر تفتّح على الحياة الأدبية في مصر، وبالتحديد عندما كانت جماعة أبوللو تحتل الصدارة وعندما كانت الأمة العربية كجزء في العالم تعيش فترة قلق صعبة، وكان حرياً بالأستاذ وهو يدرس هذه الشخصية الأدبية أن يتعرض لجميع هذه الحركات التجديدية التي ازدهرت في عصر الأسطى عمر ليبين بعد ذلك ما إذا كان الأسطى عمر يعتبر رائداً من روادها أو لا يعتبر.

إن المرء عندما يفرغ من قراءة الدراسات الرائدة التي عرفتها المكتبة الليبية أو حتى تلك التي لم تصدر في كتب – كما سبق أن أوضحت – يخرج بذخيرة هائلة من المعرفة، ويخرج كذلك برؤية واضحة إزاء الشخصية المدروسة من حيث قوة الأسلوب، ومن حيث الانتماء الفكري، ومن حيث تطور فنون الأدب ومدى استفادة الشخصية المدروسة بالسلب وإعجاب.

ولكنه عندما يفرغ من قراءة دراسة الأستاذ المصراتي يزداد حيرة على حيرته: هل كان الأسطى عمر شاعراً رومانسياً مثلاً ؟ هل كان شاعراً واقعياً ؟ هل هو من جماعة أبوللو ؟ أم نباتاً شيطانياً لا علاقة له بهذه القضايا جميعاً ؟ ثم أين الكاتب من هذه القضايا جميعاً ؟.

ولست بذلك أريد أن أفرض على الأستاذ المصراتي طريقة معينة أو أقفل أمامه باب الاجتهاد، فما أكثر الكتاب الذين تمردوا على هذه الطرق والخطوط، ولكنهم في تمرّدهم هذا استطاعوا أن يحققوا شيئاً ما، لعلنا نرفض هذا الشيء ولعلنا نقبل بعضه ونرفض بعضه الآخر، إلا أن مبدأ الوجود الفكري تأكد، ولكن الأستاذ المصراتي خرج من هذه الدائرة تماما. إن دراساته الأدبية بل وحتى غير الأدبية تعاني من سيطرة الروح الخطابية، وتعامله مع الأفكار يتم على أساس التداعي المحض بحيث لا يلمس قارئ دراساته وجود خطة محددة المعالم سواء وافقه أم لم يوافقه.

وسنرى في مقال قادم كيف أثرت هذه النظرة بدراسات أخرى للأستاذ المصراتي سواء وهو يدرس التاريخ كما فعل في دراسته عن غومة المحمودي، أو يدرس الأدب الشعبي كما هو الحال في دراسته المجتمع الليبي من خلال أمثاله.

ولعل هذه الدراسات أن تكون مواضيع لمناقشاتنا القادمة لهذا الكاتب الرائد.

______________________

نشر في صحيفة الاسبوع الثقافي 1972

مقالات ذات علاقة

المفكرة التاريخية 2: التأريخ لغة واصطلاحا وعلما

مفيدة محمد جبران

قصيدة “قولي أحبك” في ميزان النقد الثقافي.. نسق الأنانية عند نزار قباني

توفيق عياد الشقروني

دراسة لقصص الكتابة فاطمة فحيل البوم

عبدالحكيم المالكي

اترك تعليق