دراسات

التواصل الثقافي بين ليبيا / والجزائر: أعلامٌ ووثائق من العهد العثماني

(تحيَّةٌ مهداةٌ إلى روح المؤرخ العالم الجليل الدكتور أبو القاسم سعد الله ـ وفاءً لذكراه النبيلة في وجداني).

عمار محمد جحيدر

كتاب تاريخ الجزائر الثقافي
كتاب تاريخ الجزائر الثقافي

إشاراتٌ توثيقيَّة:

الحمد لله حقَّ حمده، وصلَّى الله وسلَّم على خير خلقه.

(أ) ـ أُتِيح لي في أواخر سنة (1980) ـ بحمد الله تعالى ـ أن أزور الجزائر الشقيقة في رحلة عملٍ، صحبة الزميل الفاضل الأستاذ محمد قريميدة ـ رحمه الله تعالى ـ وجمعتنا الرحلة في مصادفةٍ لطيفةٍ بالسيِّد الكريم الأستاذ الهادي إبراهيم المشيرقي (1908 ـ 2007)، وهو أكثر الأعلام الليبيين حضوراً واندماجاً في التاريخ الجزائري النضالي المعاصر، وقد دُفن ـ بوصيَّةٍ منه ـ في الجزائر، تغمَّده الله بواسع رحمته ورضوانه.

وهناك سُررتُ حقّاً وصدقاً بلقاء المؤرِّخين العالمين الجليلين الدكتور أبو القاسم سعد الله، والدكتور ناصر الدين سعيدوني، وغيرهما من الأساتذة الأفاضل. وقد سعدتُ جدّاً بما قُدِّر لي من (التواصل الثقافي) لاحقاً بالدكتور سعد الله ـ رحمه الله تعالى ـ وإن لم يكن مطَّرداً، مع الأسف، ومنه افتتحتُ هذه المقاربة الثقافية المتواضعة برسالته المبكِّرة الكريمة.

(ب) ـ في أواخر سنة 2013 زار (المركز الليبي للمحفوظات والدراسات التاريخية) وفدٌ علميٌّ برئاسة مدير (الأرشيف الجزائري)، مع بعض مرافقيه من الأساتذة الباحثين والعاملين به، وعقد المركز خلال تلك الزيارة (بروتوكول التعاون مع الأرشيف الجزائري) الذي وُقِّع أثناء اجتماع (اللجنة الليبية / الجزائرية العليا) المنعقد بطرابلس في تلك السنة، وانتظمت خلال الزيارة أمسيةٌ ثقافيَّة عن الصلات والعلاقات بين البلدين الشقيقين، وفي هذه الأمسية قدَّمتُ الخلاصة الأوليَّة لهذه المقالة التي كانت بين يديَّ آنذاك.

(ج) ـ ثم نقَّحتُ المقالة، فيما بعد، ونُشِرَتْ في صحيفة: وطني (أسبوعية يصدرها الدكتور عبد الله مليطان)، على حلقتين: العدد 84 (الأحد 24 جمادى الأولى 1436هـ / 15 مارس 2015م)، والعدد 85 (الأحد 2 جمادى الآخر 1436هـ / 22 مارس 2015م)، وله شكري الجزيل على عنايته الكريمة وحراكه الثقافي المعهود.

 (د) ـ وخلال هذه السنة (2022)، أُتِيح لي قدرٌ من (التواصل الافتراضي) اللطيف عبر (الواتساب) مع المؤرِّخ الجزائري الشاب الدكتور الصالح بن سالم، الذي وقفتُ في صفحته على (الفيسبوك) على بعض حراكه الثقافيِّ التوثيقيِّ الدؤوب، وبلغتني منه على الهاتف بعض (الأسئلة التاريخية) التي يبدو ارتباطها جليّاً بسياق هذه المقاربة المتواضعة (المنشورة ورقياً) قبل عدَّة سنوات (2015)؛ لذا آثرتُ إتاحتها اليوم في هذه (النشرة الرقميَّة) الجديدة، ترحُّماً على روح أستاذي المؤرخ العلَّامة الجليل الدكتور أبو القاسم سعد الله (1930 ـ 2013) / وتحيَّةَ تقديرٍ إلى كل من لقيتُ وعرفتُ من باحثي الجزائر الشقيقة ومؤرِّخيها الأجلاء الأفاضل، مع شكري الجزيل للمؤرخ الشاب الدكتور الصالح بن سالم على عنايته الكريمة وتواصله النبيل. 

[نصُّ المقالة]:

ظهر في سنة 1981 الجزآن الأول والثاني من العمل الموسوعي القيِّم (تاريخ الجزائر الثقافي) للمؤرخ العلَّامة الجليل الدكتور أبو القاسم سعد الله ـ رحمه الله تعالى ـ  وقد تشرَّفتُ بنسخةٍ من الجزء الأول بإهدائه الكريم المؤرخ في (3 ـ 6 ـ 1981)، ولكنَّني استلمتُ هذه النسخة المرسلة بالبريد المسجَّل بتاريخ (16 ـ 1 ـ 1982)، أي بعد أكثر من ستة أشهر، وعندما شكوتُ إليه في رسالتي هذا التأخير في التواصل بين البلدين الجارين الشقيقين، ردَّ عليَّ في رسالته الكريمة المؤرَّخة في (11 أغسطس 1982) بهذه السطور الذاتية الحميمة التي يطيبُ لي أن أستهلَّ بها هذه المساهمة:

الرسالة
الرسالة

 “بسم الله الرحمن الرحيم.

الأخ الأستاذ عمار جحيدر، تحيَّة طيِّبة، وبعد.

فقد اتصلتُ بصورة الأوراق عن ليون روش في أول الشهر الجاري (أغسطس) عند مغادرتي الجزائر إلى فرنسا. وكان بعثها إليَّ الأستاذ غالي شكري من فرنسا ومعها خطابٌ يعتذر فيه عن التأخير، ويقول في رسالته إنَّ الحقيبة التي كانت الأوراق فيها قد ضاعت منه عند زيارته للجزائر في الربيع ولم تعدْ إليه إلا هذه الأيام. وعلى كلِّ حالٍ فإنَّ الأوراق وصلت وسأبلغها إلى الأخ الذي سيستفيد منها بعد عطلة الصيف إن شاء الله، وهو الأخ مناصرية. وإنِّي باسمه أشكرك على اهتمامك بالموضوع وخدمة الباحثين”. *[لم تُنشر هذا السطور الأولى من الرسالة في بداية المقالة الورقيَّة]*. 

“وما دامت هذه الأوراق قد بقيت في الطريق كل هذه المدة، فإنِّي لا أستغرب لماذا بقي الجزء الأول من كتابي (تاريخ الجزائر الثقافي) بضعة شهور ليصلك. فنحن أقرباء جغرافياً وروحياً … ولكنَّنا بعداء بوسائل الاتصال التي جاءت في الواقع لتضغط المسافات. ولعل اتصال أجدادنا بوسائلهم البدائية في نظرنا، كان أفضل من وسائل اتصالنا التي نسمِّيها عصرية. وإنّي أعتزُّ برأيك في الكتاب ويسعدني أن أسمع منك ومن أمثالك من الباحثين ما يعزِّيني على تعب البحث وبذل الجهد في سبيل الثقافة العربية الإسلامية. وقد كان بودِّي أن أرسل إليك الجزء الثاني، ولكنَّ الكتاب كلَّه الآن قد نفد، رغم أنَّ الشركة قد طبعت منه عشرة آلاف نسخة، ونحن الآن عازمون على إعادة طبعه.

وقد جئتُ إلى هذه المدينة ـ إيكس ـ لمواصلة البحث في أرشيفها الذي يحتوي الكثير عن الجزائر في العهد الفرنسي، وذلك جمعاً لمادة (الجزء الثالث من تاريخ الجزائر الثقافي). ورغم قصر المدة فإنِّي سأحاول أن أستفيد الحدَّ الأقصى من البحث، ولا أبالي بالعناء الذي يلحقني من ذلك ـ لأنِّي لا أعرف العطل أو الإجازات منذ سنوات”. [انتهى الاقتباس].

***

ومع شغفي الصادق بمتابعة تاريخ المغرب العربي، والتاريخ الثقافي منه ـ على وجه الخصوص، منذ سنواتٍ عديدة، فإنَّ الملاحظة الرئيسية التي تملأُ ذهني وتغمرُ وجداني في كثيرٍ من الأحيان، وقد أفضيتُ بها مراراً للعديد من الأصدقاء المعنيين بالشأن الثقافي، تتعلَّقُ حقّاً وصدقاً بهذه القطيعة الملحوظة بين ليبيا والجزائر في الشأن الثقافي اليومي، وبعبارةٍ أخرى: فإنَّني لا أجدُ ـ رغم صلة الجوار القريبة بين البلدين ـ أيَّةَ صحيفةٍ جزائرية تُباع في أكشاك طرابلس، ولا أذكرُ أنَّني اقتنيتُ كتاباً جزائرياً (مطبوعاً في الجزائر) من إحدى مكتبات طرابلس، باستثناء معارض الكتاب التي تظلُّ استثناءً على أيَّة حال. وأغلبُ الظنِّ أنَّ العكسَ صحيحٌ أيضاً، وهو غياب المطبوعات الليبية عن الساحة الثقافية في الجزائر. 

هذا (المدخل الوجداني) يبعث على التساؤل حقّاً عن مستوى / وآليات (التواصل الثقافي) بين البلدين الشقيقين ليبيا ـ والجزائر في القرون الماضية، وخاصَّةً خلال العهد العثماني الذي أتاح للإيالات العثمانية المغربية (طرابلس، وتونس، والجزائر) مزيداً من معطيات التقارب والتجانس في آثاره السياسية والاجتماعية أيضاً. وهنا سرعان ما وجدتُ عدَّة نماذج بارزة من (أعلام تاريخنا الثقافي) في البلدين الذين ساهموا بوجهٍ أو آخر في تغذية جسور التواصل الثقافي، ولا تزال العديد من (وثائقهم) الباقية تشير بوضوحٍ إلى تلك الصلات والتجارب المختلفة التي عايشوها في هذا السبيل.

ــــــــــــــــــــــــ

[1] ـ محمد بن علي الخروبي الطرابلسي / نزيل الجزائر (ت 963هـ / 1556م).

فقيهٌ صوفيٌّ سفير، له عدَّة آثارٍ في التصوُّف والتاريخ والتفسير. ولد بطرابلس ونشأ بها وأخذ عن العديد من علمائها ومربيها، وأرَّخ لذلك في رسالته المعروفة (شيوخ الخروبي) التي نُشرت بعناية الدكتور عبد الحميد عبد الله الهرامة (بيروت 1999). ويضمُّ هذا الكتاب الموجز تراجم أبيه وأمِّه وأحد عشر رجلاً من شيوخه، مع إشاراتٍ قصيرةٍ إلى شيوخٍ آخرين، ولذلك يُعَدُّ أقدم (سيرةٍ علميَّة / ذاتيَّة) في المكتبة الليبيَّة. وهو من أبرز تلاميذ أحمد زرُّوق الفاسي (نزيل مصراتة). وقد وافقت حياته فترة الاحتلال الإسباني للمدينة (1510 ـ 1551م)، فهاجر إلى الجزائر التي كانت تشهد بداية الوجود العثماني، ونزل بها إلى وفاته (فهو طرابلسي النشأة والنضج / نزيل الجزائر)، واضطلع بمهمَّة السفارة بين السلطة العثمانية الجديدة في الجزائر، والدولة السعدية الناشئة بالمغرب آنذاك. وقد كُتِب عنه العديد من الإفادات والدراسات في الداخل والخارج من طرف الأساتذة الأفاضل: (الشيخ الطاهر أحمد الزاوي، والأستاذ علي مصطفى المصراتي، والدكتور عمر مولود عبد الحميد، والدكتور حبيب وداعة الحسناوي، والدكتور أبو القاسم سعد الله). وفي (أعمال ندوة التواصل الثقافي بين أقطار المغرب العربي: تنقلات العلماء والكتب، 1995، تحرير د. عبد الحميد عبد الله الهرامة، طرابلس 1998) عدَّة مساهماتٍ قيِّمةٍ عن الخروبي.

ــــــــــــــــــــــــ

[2] ـ محمد بن أحمد بن الإمام الجزائري / نزيل طرابلس (ت 1083هـ / 1672 – 73م).

فقيهٌ مدرِّسٌ نزيل طرابلس في العهد العثماني الأول، أشار إليه معاصره وتلميذه عبد السلام بن عثمان التاجوري بين شيوخه في سيرته الذاتية (خاتمة: فتح العليم): “العالم المتفنِّنُ، سيدي محمد بن الإمام الجزائري، له معرفةٌ بسائر العلوم، أخذها في بلده ثم طلع للحجِّ، ولمّا رجع أقام بطرابلس إلى الآن. اجتمعتُ به سنة ثمانين أو إحدى وثمانين [وألف]، وله العبارة الرائقة قولاً وكتباً، ومما سمعتُ منه أوَّل اجتماعي به مع سيدي محمد بن مقيل هذه الأبيات:

العِلْمُ شَيءٌ حَسَنٌفَكُنْ لَهُ ذَا طَلَبِ

ابْدَأْهُ بالنَّحْوِ وخُذْمِـنْ بَعْدِهِ فِي الأَدَبِ

واعْرِفْ فُرُوعَ مَالِكٍواقْرَأْ أُصُولَ المَذْهَبِ

فإنَّ قَوْلَ مَالِكٍ سِلْسِلَةٌ مِن ذَهَبِ.

كما ترجم له المؤرخ ابن غلبون بإيجازٍ أيضاً في كتابه (التذكار، ط 3 بيروت 2004، ص 263):

* [وممن استوطنها من العلماء الأغراب بعد فتحها الأخير، (أي من نزلائها في العهد العثماني الأول) الإمام العالم أبو عبد الله محمد بن أحمد بن الإمام، استوطنها ونال بها خيراً إلى أن توفي سنة (بياض …). كان ـ رحمه الله ـ فقيهاً حافظاً منقطعاً إلى الله سبحانه وتعالى، ولم يشتغل قلبه من الدنيا بشيءٍ، ولم يتخذ ولداً ولا أهلاً. وكان ـ رحمه الله ـ أكثر اشتغاله بالمطالعة والذكر. وشرح الشيخ خليل شرحاً حافلاً، وقفتُ على قطعةٍ منه أجاد فيها، وذكر لي الأخ سيدي محمد بن مصطفى الماعزي أنَّه لم يكمله]. *[لم يُنشر نصُّ هذه الترجمة الموجزة كاملاً في المقالة الورقية]*.

ولا يزال الجامع المعروف باسمه (جامع سيدي بن الإمام) في أول بداية أحياء (الظهرة) بمدينة طرابلس من أشهر جوامع المدينة التاريخية إلى اليوم.

ــــــــــــــــــــــــ

[3] ـ محمد بن محمد بن عمر العدواني (من رجال القرن 11هـ / 17م).

ولهذا المؤرخ الجزائري أثرٌ طريفٌ مميَّزٌ من التاريخ الشعبي دون عنوان، عُنِيَ به ونشره المؤرخ الجليل الدكتور أبو القاسم سعد الله، بعنوانٍ مشروحٍ مطوَّلٍ مزيدٍ منه: (تاريخ العدواني: كتاب في أخبار هجرة واستقرار بعض القبائل العربية مع ذكر الأحوال والتقلُّبات السياسية والاجتماعية لمنطقة المغرب العربي وأصول بعض المدن والقرى، والعلاقات الروحية بين المشرق والمغرب منذ الفتح الإسلامي). وقد فرغ من تحقيقه وفق مقدمته الضافية بتاريخ (12 أوت 1990). وكان قريب العهد به عندما حرَّر رسالته إليَّ المؤرخة في (أول أكتوبر 1990)، إذ جاء فيها أيضاً: “انتهيتُ من تحقيق كتاب العدواني الذي يجمع بين التاريخ والأسطورة في شكل أخبار وحكايات ووقائع. ويرجع إلى القرن الحادي عشر الهجري، ويتعرَّض إلى منطقة الجزائر الشرقية وجنوب تونس وطرابلس وغير ذلك. وفيه أعلام ليبية مثل المنشأة [كذا ـ المنشيَّة] والمدينة وابن قرحان ولبدة والجرجر (؟) الخ. بعضها معروف وبعضها غير معروف لنا. كما يتعرَّض لتواريخ وأحداثٍ سابقة ـ تعود إلى أوائل الفتح الإسلامي للمغرب العربي”.

غير أنَّ الكتاب صدر بعد بضع سنواتٍ في بيروت عن دار الغرب الإسلامي (1996)، وقد أشار في مقدمته الضافية أيضاً إلى صلة هذا الكتاب بطرابلس في أكثر من موضع ومنها قوله: “ومنذ 1850 أخذت الوثائق الفرنسية تتحدَّث عنه؛ على أنَّه وثيقة هامَّة لتاريخ المغرب العربي وخصوصاً تونس والجزائر وطرابلس، ثم ظهرت ترجمته الفرنسية سنة 1868”. واللافت للنظر في هذا السياق أنَّ هذه الترجمة الفرنسية كانت من إنجاز القنصل / المستشرق شارل فيرو الذي جمع في سيرته المهنيَّة والعلميَّة بين الجزائر / وطرابلس، وعُنِي أيضاً فيما بعد بترجمة كتاب (التذكار) لابن غلبون إلى الفرنسية، قبل أن ينجز عمله المعروف (الحوليات الليبية)، وهو ما كشف عنه المؤرخ الجليل الدكتور محمد عبد الكريم الوافي ـ رحمه الله تعالى.

ويؤكد الدكتور سعد الله ما ذكره سابقاً في مواضع لاحقةٍ بقوله: “إنَّه كتاب يضمُّ أخباراً هامَّة، كما لاحظنا، عن الجزائر وتونس وليبيا وحتى المشرق العربي، وقد استغربتُ من أنَّ كتباً ألَّفها أصحابها عن الجريد التونسي أو عن طرابلس أو عن الأوراس والزيبان ولا يعودون فيها إلى كتاب العدواني”… “كما يؤرِّخ لحياة الناس تحت حكم المغامرين من مختلف المدن: طرابلس، قفصة، القيروان، توزر بسكرة، قسنطينة الخ”، في حين اختتم مقدمته الضافية بقوله: “وفي رأينا أنَّ (تاريخ العدواني)، رغم كل النقد الذي قد يُوجَّهُ إليه، يُعتبر وثيقةً حيَّة عن الحالة الاجتماعية والسياسية التي كانت عليها تونس والجزائر وطرابلس في القرنين العاشر والحادي عشر الهجريين، وكفاه ذلك أهمية”. (ص 12، 13، 38، 50، 72). وفي (فهرس الأماكن) نقف على: برقة، والجبل الأخضر، والزاوية الغربية، وغدامس، وفزان، وطرابلس، ولبدة، وليبيا، والمنشيَّة.

ــــــــــــــــــــــــ

[4] ـ عبد السلام (العالم) بن عثمان التاجوري (1058 ـ 1139هـ / 1648 ـ 1727م).

فقيهٌ صوفيٌّ مؤرخ، ولد ببلدة تاجوراء (شرقي طرابلس بنحو 20 كلم)، وأخذ على العديد من علماء بلاده، وعن بعض العلماء المغاربة في طريقهم إلى الحجِّ، كما حجَّ هو نفسه في الأربعين من عمره، ولقي عدداً من كبار علماء مصر والحجاز، ودوَّن سيرته العلميَّة، وهي (السيرة الذاتيَّة الثالثة) في المكتبة الليبية [بعد سيرتي الخرُّوبي والبرموني]. وكان من أبرز العلماء المخضرمين بين العهد العثماني الأول والعهد القرمانلي، وقد جمع بين الفقه، والتصوُّف الطرقي، والتاريخ وخاصة المناقب (انظر: حولية المجمع، العدد الرابع، 2006). ويُعَدُّ كتابه (تذييل المعيار) وثيقةً صريحة دالَّة على التواصل الثقافي بين ليبيا والجزائر؛ إذ كان ملحقاً للكتاب الكبير الشهير (المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى إفريقية والأندلس والمغرب)، للفقيه العالم الجزائري أحمد بن يحيى الونشريسي (ت 914هـ / 1508م) الذي صدر في (12 مجلَّداً، مع مجلَّدٍ مزيدٍ للفهارس)، بإشراف الأستاذ الجليل الدكتور محمد حجِّي (بيروت 1981) ـ رحمه الله تعالى. أمَّا تذييل المعيار فقد نشر بتحقيق الدكتور جمعة الزريقي في (5 مجلَّدات، مع مجلَّدٍ سادس للفهارس، طرابلس 2008).

وفي أحد المواضع من تذييل المعيار، نجد ـ على سبيل المثال ـ توقيعاً بصحة الجواب للعالم الجزائري يحيى الشاوي (ت 1096هـ / 1685م)، وهو من كبار العلماء في القرن (11هـ / 17م)، وقد طاف في البلاد الإسلامية من الجزائر إلى مصر والحجاز ودمشق واستانبول، وحجَّ سنة (1074هـ)، ثم سُمِّي أميراً لركب الحجيج المغاربة، وألَّف عدَّة كتبٍ في النحو والتوحيد وغيرهما. وقد وُجد توقيعه بطرَّة الجواب في أصله، ونصُّه بعد الصدر: “ما فيه صحيحٌ والسلام من كاتبه يحيى الشاوي”، ومن الجليِّ أنَّه دوَّنه هنا بطرابلس في طريقه إلى المشرق.

ــــــــــــــــــــــــ

[5] ـ الحسين بن محمد الورثيلاني (1125 ـ 1193هـ/ 1713 ـ 1779م).

صوفيٌّ رحَّالة [جزائري]، عُنِيَ في رحلته (نزهة الأنظار في فضل علم التاريخ والأخبار) بلقاء العديد من رجال التصوف الطرقي السائد آنذاك، وتضمُّ رحلته مجموع حجَّاته الثلاث (1153، 1166، 1179هـ)، وقد نُشرت في كتابٍ كبيرٍ بتحقيق العالم الجزائري المعروف محمد بن أبي شنب (1286 ـ 1347هـ/ 1869 ـ 1929) بالجزائر سنة (1908). ويبدو جليّاً أنَّ (القسم الليبي) قد أخذ حيِّزاً كبيراً ملحوظاً من رحلته في الذهاب والإياب، يزيد على (150) صفحة، ويقرب من ربع الكتاب؛ إذْ تبلغ نسبته نحو (22 %) من مجمل النصِّ، وينبغي أن يُعاد نشره ـ فيما أرى ـ في كتابٍ مستقلٍّ، مع مدخلٍ دراسيٍّ، ومزيدٍ من الحواشي المفيدة. وقد أفصح المؤلف الرحَّالة بعباراتٍ حميمةٍ عن عمق صلته ومبلغ تعلُّقه بالعديد من أصدقائه في أكثر من موضعٍ من سياق رحلته في الأراضي الليبية، وخاصَّةً عن أولئك الذين يشاركونه تعلُّقه بالتصوُّف الطرقيِّ الشائع آنذاك، كما قدَّم إفادة قيِّمة مبكِّرة (معاصرة آنذاك) عن مدرسة / أو زاوية القايد عمورة بجنزور.

*[انظر: ليبيا في رحلة الوثيلاني: جدول ورسم بياني، في اللوحات الملحقة أدناه]*.

ــــــــــــــــــــــــ

[6] ـ حسُّونة الدغيِّس [الطرابلسي / نزيل استانبول] – (1191 ـ 1252هـ / 1778 ـ 1836م). 

يعود الفضل الأول في التعريف بهذا العلم السياسي المثقف المستنير، إلى المؤرخ التونسي الجليل الدكتور عبد الجليل التميمي بين فصول أطروحته القيِّمة التي صدرت في كتابٍ مبكِّرٍ نسبياً بعنوان: (بحوث ووثائق في التاريخ المغربي 1816 ـ 1871م)، تونس 1972. وقد كان حسونة الدغيِّس في طليعة المثقفين الذين عرفوا أوربا واتصلوا بثقافتها الحديثة في النصف الأول من القرن التاسع عشر، خلف أباه محمد الدغيِّس في إدارة الشؤون الخارجية في عهد يوسف باشا القرمانلي، سنة (1241هـ / 1826م)، ثم اضطرَّ إلى مغادرة بلاده هرباً بعد مقتل الرحَّالة الإنجليزي ألكسندر جوردن لنج في تنبكتو سنة (1826). وغادر الدغيِّس طرابلس سنة (1245هـ / 1829م) ولم يعد إليها. وقد ظهر أثره بارزاً جليّاً في التعاون مع المناضل السياسي الجزائري حمدان بن عثمان خوجه (1189 ـ 1255هـ / 1775 ـ 1840م) على ترجمة كتابه (المرآة: لمحة تاريخيَّة وإحصائيَّة على إيالة الجزائر) الذي وضعه حمدان بالعربية، ونقله الدغيِّس إلى الفرنسية، ونشر في باريس سنة 1833 (1249هـ) دفاعاً عن مصير الجزائر…

كما تنبغي الإشارة أيضاً من (منظور التاريخ الاجتماعي) إلى أنَّهما تربان متقاربان في السن ـ كما ترى ـ وينتمي كلاهما إلى شريحة (القولوغلية) بمعناها العرقي المغاربي، ويمكن القول في هذا المقام إنَّ كلاً منهما يُعَدُّ أبرز أعلام القولوغلية في بلاده خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر. وقد قُدِّرَ لهما كذلك أن يلتحقا باستانبول في خدمة الدولة العثمانية، وأن يُتوفَّى كلاهما هناك. 

وقد فُقِد الأصل العربي للكتاب، وظلَّ هذا الأثر المفقود يثير تساؤلات الباحثين؛ فقد جاء في رسالة المؤرخ الجليل الدكتور سعد الله الأولى إليَّ، المؤرخة في (3 مارس 1981) بشأنه ما يلي: “وبهذه المناسبة أسألك: هل وجدتَ أيَّ أثرٍ لكتاب (المرآة) الأصلي بالعربية ـ في مكتبات ليبيا ؟ لعلك باهتمامك بحياة ابنه ـ ابن حمدان خوجه ـ الذي رافق الباشا العثماني في أثناء قنصلية بيليسييه دي رينو الفرنسي ـ لوجدت أخباراً هامَّة عنها”.

ويعني الدكتور سعد الله هنا “أمين أفندي ابن حمدان خوجه الذي يذكر المؤرخ الفرنسي فيرو أنَّه كان (دفتردار) لولاية طرابلس آنذاك، كما يشير فيرو إلى أنَّه في تلك الفترة بالذات تمَّ نشر كتاب (المرآة، أو لمحة تاريخية وإحصائية عن إيالة الجزائر) الذي من النادر علينا اليوم الحصول على نسخةٍ منه، والذي ألَّفه حمدان بن عثمان خوجه، وعمل ابنه أمين أفندي على توزيعه بين الأهالي بكثرةٍ بقصد الإساءة إلى سمعة فرنسا”. (الحوليات الليبية، ترجمة د. محمد عبد الكريم الوافي، ط 2، طرابلس 1983، ص 658 ـ 659). غير أنَّ إشارة فيرو يكتنفها الغموض، وتبعث على مزيدٍ من التساؤل: فهل يعني بالتوزيع الأصلَ العربيَّ للكتاب ؟  وما جدوى توزيع الترجمة الفرنسية بين الأهالي ؟

ولكنَّ الدكتور سعد الله يعيد هذا التساؤل بعد سنواتٍ عديدةٍ في (الجزء الخامس) من عمله الموسوعي القيِّم (تاريخ الجزائر الثقافي، بيروت 1998، ص 494) إذ يقول: “وقد لاحظ قنصل فرنسا في طرابلس خلال الخمسينات، وهو بليسييه دي رينو، أنَّ كتاب المرآة (بالعربية ؟) كان متوفراً بكثرةٍ في ليبيا مما يدلُّ على أنَّ حسونة دغيز [كذا] قد يكون روَّجه هناك مع أبناء حمدان خوجه”. غير أنَّ هذه الإشارة أيضاً تظلُّ قابلة للنقاش؛ إذ من المعروف أنَّ حسونة الدغيِّس لم يعدْ إلى طرابلس بعد صدور الكتاب في باريس، وإنَّما غادر فرنسا إلى استانبول، واضطلع هناك بتحرير النسخة الفرنسية من الجريدة الرسمية للدولة العثمانية (تقويم وقايع)، ولكنَّه سرعان ما توفي بعد بضعة أشهرٍ في أواخر سنة (1836). فهل يكون في هذا الأمر شيءٌ من اللبس والخلط بين كتاب (المرآة) لحمدان خوجه، وكتاب (مرآة الجزائر) لابنه الآخر علي رضا باشا الذي غدا والياً على طرابلس بعد هذه الفترة بقليل، وسنلتقي به أدناه مع مزيدٍ من التفاصيل ؟

ــــــــــــــــــــــــ

[7] ـ أحمد شكري قاضي الجزائر / نزيل طرابلس (النصف الثاني من القرن 13هـ / 19م).

رئيس الإفتاء الحنفي (باش مفتي إيالة طرابلس) في أوائل العهد العثماني الثاني. ولم أقفْ له على أيَّةِ ترجمةٍ فيما أُتِيح لي الاطلاع عليه من المصادر والدراسات الجزائرية، ولكنَّ يوميَّات معاصره المؤرخ الطرابلسي حسن الفقيه حسن تضمُّ العديد من أخباره (العلميَّة / العمليَّة) في تولِّي التدريس والإفتاء، مع بعض أخباره الاجتماعية، وهو ما يتمُّ الكشف عنه (لأول مرَّة)، خلافاً لسائر الأعلام المذكورين (أعلاه / وأدناه) في هذه المساهمة البحثيَّة؛ لذلك آثرتُ اغتنام هذه الفرصة السانحة لجمع كل اليوميَّات التي تتعلَّق به أو تشير إليه في سياقٍ آخر، ومنها يمكننا أن نخرج (بترجمةٍ نصيَّةٍ) جامعةٍ لهذا (الشقِّ الأخير) من حياته الذي قضاه في طرابلس بعد الاحتلال الفرنسي للجزائر، في حين يظلُّ (الشقُّ الأول) الذي قضاه في بلاده غائباً في هذه المساهمة الأوليةً (؟)، ولا يمكن أن تخلو المصادر الجزائرية (الوثائقية أو الأدبية) من ذكر بعض أخباره، خاصَّةً وأنَّ المؤرِّخ الطرابلسي يقرن اسمه دائماً بصفة (قاضي الجزائر)؛ مما يدلُّ على أنَّه كان علماً مرموقاً من أعيان البلاد قبل هجرته.

ولم ترد في الجزء الأول والثاني المنشورين من (اليوميات الليبية) أيَّةُ إشارةٍ إلى أحمد شكري قاضي الجزائر، ولكنَّ المؤرخ يفاجئنا في (الجزء الثالث: 1251 ـ 1277هـ / 1835 ـ 1861م) / [مخطوط محقَّقٌ 2018، ينتظر النشر ـ يسَّر الله أمره]، بتعيينه رئيساً للإفتاء الحنفي (باش مفتي حنفي) بإيالة طرابلس سنة (1254هـ / 1838م)، أي بعد نحو ثماني سنواتٍ من بداية الاحتلال الفرنسي للجزائر (1246هـ / 1830م)، وقد كانت الازدواجيَّة المذهبيَّة (حنفي / مالكي) سائدة آنذاك في الإيالات العثمانيَّة المغربيَّة (طرابلس، وتونس، والجزائر)؛ مراعاةً للمذهب الرسمي للدولة العثمانية من جهةٍ / والغالبية العظمى للسكان من جهةٍ أخرى. كما كان بحكم منصبه في مقدِّمة أعضاء (ديوان المشورة / أو المجلس الكبير) للإيالة، ومع أنَّ بعض هذه اليوميَّات المختارة لا تتعلَّق به شخصياً على نحوٍ مستقلٍّ، وإنَّما يرد بها ذكره في سياق الآخرين، فإنَّنا نقفُ من خلالها على صور اندماجه في النسيج الاجتماعي الجديد الذي دفعت به الأقدار إليه.

وتتعدَّد الإشارات في (اليوميَّات الليبية) إلى الشيخ أحمد شكري قاضي الجزائر بين الشؤون الرسميَّة الوظيفيَّة، والاندماج في الحياة الاجتماعية، غير أنَّني سأكتفي في هذا المقام ببعض النماذج منها ـ على سبيل المثال الدال:

ـ ففي “15 ربيع الأول 1254هـ، تزوَّج سي علي (وكيل خرج الجزاير) بنت الشيخ أحمد شكري”؛ وهي تشير ضمنياً إلى مهاجرٍ جزائريٍّ آخر من نزلاء طرابلس، ويبدو أنَّه من أعيان المهاجرين الجزائريين أيضاً (وكيل المصروفات).

ـ وفي “11 رجب 1257هـ، عُقد قران محمد نور الدين ابن الشيخ أحمد شكري على (العلجية) بحضور مخازنية علي أشقر باشا (كبار موظفي الوالي)، وشيخ البلاد وجماعته، والسادة العلماء، ومصطفى قرجي، والباي خليل وغيره”.

ـ وفي “أول رجب 1260هـ، رفع الشيخ [مصطفى] حسيب أفندي قاضي إيالة طرابلس يده من القضايا بسبب المرض، وكتب إلى الدولة في التوجُّه إلى ازمير، وتولَّى القضايا حضرة أحمد شكري قايم مقام (بمعنى: وكالةً)، إلى أن يأتي القاضي الجديد”.

ـ وفي “17 ربيع الأول 1266هـ، انطبعت (خُتِمَتْ) في المجلس عدَّة مضابط بشأن بعض الرواتب، وكان أعلاها راتب الشيخ أحمد شكري الذي كان (300) قرش فرفع إلى (500)، في حين جاءت بقيَّة الرواتب المذكورة في هذه اليومية أدنى من ذلك بكثير: (250) قرش للباي خليل، و(120) قرش لخليفة المنيوط، و(100) قرش لكلٍّ من علي (بيت المال) وعصمان باي”.

غير أنَّنا لا ندري حتى الآن ـ في واقع الأمرـ تاريخ قدومه، ولا الظروف التي اكتنفت خروجه كغيره من جموع المهاجرين الجزائريين الذين اضطرَّهم الاحتلال الفرنسي إلى مغادرة البلاد والاستقرار في بعض البلدان المشرقية، ومن أبرزهم معاصره (وزميله المهنيُّ القريب) المفتي ابن العنابي الذي استوطن الإسكندرية ـ على سبيل المثال، وخصَّه المؤرِّخ الثقافيُّ الجليل الدكتور أبو القاسم سعد الله بكتابٍ مستقلٍّ بعنوان: (المفتي الجزائري ابن العنابي رائد التجديد الإسلامي 1775 ـ 1850) الجزائر (د. ت). ويُعَدَّ الشيخ أحمد شكري أبرز أعلام المهاجرين الجزائريين خلال تلك الفترة بمدينة طرابلس التي استوطنها آنذاك أيضاً بعض الأعلام الآخرين، وغدوا من كبار موظفي الإيالة العثمانية.

وتدفع بعض الإشارات في هذه اليوميَّات نفسها إلى ضرورة العودة إلى (سجلات محكمة طرابلس الشرعية) في تلك السنوات، وهي تُعَدُّ في طليعة (المصادر / أو المدوَّنات) الرسميَّة التي تُعنى بتدوين بعض الأوامر والفرمانات والنصوص الرسميَّة العامَّة في بعض الأحيان، وذلك فضلاً على اضطلاعها بتوثيق مجريات المحكمة اليوميَّة من الدعاوى، والأحكام، وقضايا الناس الجارية. ومن المرجَّح جدّاً أن تكشف العودة إلى هذه السجلات، وغيرها من (الوثائق الرسمية / والأهلية) في تلك الفترة عن المزيد من الإفادات والنصوص المتعلِّقة بالنشاط الوظيفي الفقهي، أو الصلات الاجتماعية للشيخ أحمد شكري مفتي الإيالة الحنفي، وغيره من العلماء المعاصرين. وقد وقفتُ في (سجلات محكمة طرابلس الشرعية) على عدَّة وثائق عن (المهاجرين الجزائريين بطرابلس)، كان من بينهم أيضاً الشيخ أحمد شكري (قاضي الجزائر / السابق، نفسه)، وهو موضوعٌ جديرٌ بمزيدٍ من المتابعة والتقصِّي في سياق التاريخ الاجتماعي المشترك بين القطرين الشقيقين.

*[ويبدو أنَّ اسمه هذا مركَّب (من الاسم الأول / والصفة)؛ إذ عثرتُ أخيراً على اسمه الكامل في أحد (سجلات المحكمة)، وهو كما يلي: “الأجل المحترم الشيخ العالم المدرِّس باش مفتي الحنفي السيِّد أحمد شكري أفندي، ابن المرحوم السيِّد محمد منلا أفندي الحسني الجزايرلي … بتاريخ الرابع عشر من أولى الجمادتين عام ستة وسبعين ومايتين وألف”. سجل 989، ص 61 ـ 62]*.

ومن جهةٍ أخرى يقدِّم المؤرخ العثماني الزائر محمد نهيج الدين ابن مصطفى عاشر في (تكملة تاريخ ابن غلبون) أو (طرابلس غرب تاريخي) التي نشرها بالتركية العثمانية في استانبول سنة (1284هـ / 1867م) إفادة قيِّمة عن (أعضاء المجلس الكبير) بالإيالة، الذين أدرج أسماءَهم مع صفاتهم الوظيفية في (مضبطة كفالة أعضاء المجلس للشيخ غومة المحمودي، بتاريخ أواخر رجب 1258هـ)، ويلفت النظر هنا حقّاً أنَّ الشيخ أحمد شكري في أول القائمة، وهم:

ـ الحافظ أحمد شكري (باش مفتي حنفي).

ـ ومصطفى حسيب (القاضي بطرابلس غرب).

ـ وعلي بن موسى (المفتي المالكي).

ـ ومحمد العسوسي (النائب المالكي).

ـ وعبد الله بن غربية (المفتي المالكي).

ـ وأحمد التوغار (المفتي الحنفي).

وهؤلاء هم (الشقُّ العلمي) من أعضاء المجلس، مع بقيَّة الأعضاء: مصطفى كورجي [قرجي]، وأحمد قلالي (باش كاتب المحكمة)، ومحمد التركي، ومحمد طوبجي، وشيخ البلد محمد بن محسن، وعثمان الأدغم، وإبراهيم بن يوسف باشا، ومحمد رحّال، وحسن بن عبد الله، والحاج علي بيت المال، والترجمان محمد علي، وخليل بن عبد الله، وباش شيخ المنشية عبد الكريم بن برقه [كذا، وصوابه بن لرقه]، وكاتب المجلس محمد المرابط”. (طرابلس غرب تاريخي، ص 139 ـ 141).

ــــــــــــــــــــــــ

[8] ـ محمد بن علي السنوسي الجزائري / دفين الجغبوب (1202 ـ 1276هـ/ 1788 ـ 1859م).

فقيهٌ صوفيٌّ إصلاحيٌّ، ولد بمُسْتغانم غربيّ الجزائر، ورحل إلى فاس بالمغرب في مطلع شبابه فظلَّ بها سنواتٍ، ثمَّ اتَّجه شرقاً إلى الحجاز وتصوَّف وأَسَّس زاوية في جبل أبي قُبَيس بمكة المكرَّمة، ثمَّ رحل إلى برقَة سنة (1255هـ / 1839م)، وأقام بالجبل الأخضر وبنى (الزاويةَ البيضاءَ)، وكثُر تلاميذه وانتشرت طريقته، ثمَّ تحوَّل إلى (واحة الجغبوب) وأسَّس زاويته المعروفة، وأقام هناك إلى أن تُوفي بها، وظهر أثره بارزاً بزوايا طريقته السنوسية العديدة في ليبيا وغيرها من البلاد المجاورة، في تجديد الدعوة وإصلاح المجتمعات الإسلامية. وقد ترك عدداً من المُؤَلَّفات، ومكتبةً زاخرةً بالمخطوطات في مختلف العلوم العربيَّة والإسلاميَّة.

وخلفه في رئاسة الطريقة ابنه (محمَّد المهدي السنوسي) الذي ولد سنة (1260هـ / 1844م)، وازدادت الطريقة في عهده قوَّةً وانتشرت زواياها في عديد البلدان، وكان أكثرُها في الصَّحراءِ الكبرى وشمال أفريقيا، وكانت الزَّوايا السَّنوسيَّة تجمع بين التعليم، والاشتغال بالزّراعة وما إليها من النَّشاط الاقتصاديِّ؛ حرصاً على تحقيق الاكتفاءِ الذّاتيِّ، وقد انتقل محمَّد المهدي كذلك من واحة الجغبوب إلى واحة الكُفْرة، ومنها إلى وداي فتوفي بها سنة (1320هـ / 1902م) ونُقِلَ جثمانه إلى الكُفْرة حيث دُفن هناك. وتُعَدُّ (الحركَةُ السَّنوسيَّةُ) من أبرز الحركات الإصلاحيَّة التي ظهرت في العالم الإسلاميِّ في تاريخه الحديث والمعاصر، وقد قُدِّرَ لهذه الطريقة أن تتجاوز السقف المعتاد غالباً للزوايا الدينية، وأن تتحوَّل إلى (كيانٍ سياسيٍّ) بعد الاستقلال في (المملكة الليبية) في مطلع النصف الثاني من القرن العشرين.

(المصادر عديدة، انظر مثلاً:

ـ د. محمد فؤاد شكري، السنوسية: دين ودولة، القاهرة 1948.

ـ أحمد صدقي الدجاني، الحركة السنوسية: نشأتها ونموها في القرن التاسع عشر، بيروت 1967).

ــــــــــــــــــــــــ

[9] ـ محمد بن عبد الجليل سيف النصر / رحَّالة بدوي (أواسط القرن 13هـ / 19م).

مؤرِّخٌ رحَّالةٌ بدويٌّ، ابن عبد الجليل سيف النصر (زعيم أولاد سليمان) الذي كان طموحاً إلى الرئاسة والاستقلال ببعض الأطراف من الإيالة منذ أواخر العهد القرمانلي، وفي مطلع العهد العثماني الثاني. ويسجِّل الابن في رحلته (ريُّ الغليل في أخبار بني عبد الجليل) التي دوَّنها في صيغةٍ أدنى إلى المحكيَّة الدارجة، نهاية والده الذي قتل سنة (1258هـ /1842م)، كما يقدِّم المؤلف إشاراتٍ عن نشأته وتنقُّلاته ورحلاته الطويلة ومشاهداته في الداخل والخارج بين ليبيا، والسودان الأوسط (برنو) ومصر، والجزائر، ذاكراً بعض المعالم، والطرق والمسالك، والأطلال والآثار، والنباتات والحيوانات، في تلك البيئات. وقد انتهى المطاف بالمؤلف الذي نجا من الموت إلى فرنسا التي دوَّن فيها رحلته، وفرغ منها سنة (1268هـ / 1852م)، ولذلك حُفِظت مخطوطة عمله، وهي (نسخة المؤلف الوحيدة) هناك. وتُعَدُّ من النصوص القليلة النادرة في المكتبة الليبية من (أدب الرحلات)، ويبدو لي أنَّها نموذجٌ ظاهر (للنصِّ البدوي). وقد خصَّها الأستاذ المصراتي بالعرض في كتابه (مؤرخون من ليبيا)، كما أعدَّ عنها الدكتور أبو القاسم سعد الله مقالة موجزة نشرت في (مجلة البحوث التاريخية)، ويُعنى الأخ الفاضل الباحث الأستاذ حسين المزداوي منذ فترةٍ بتحقيق هذه الرحلة وإعدادها للنشر.

ــــــــــــــــــــــــ

[10] ـ علي رضا باشا الجزائري (ت 1293هـ / 1876م).

والي طرابلس الإصلاحيُّ المستنير، ابن المناضل الجزائري السياسي حمدان خوجه (المذكور أعلاه). ولد بالجزائر سنة 1236هـ (1820 ـ 1821م)، ورحل مع والده إلى باريس بعد احتلال فرنسا للجزائر (1246هـ / 1830م)، فأُلحِقَ هناك بالمدرسة العسكرية بواسطة رشيد باشا السفير العثماني في باريس، وظلَّ بها تسع سنواتٍ يدرس فنون المدفعية والاستحكامات. وبعد تخرُّجه ضابطاً (مدفعياً) تدرَّج في الجيش العثماني إلى أن بلغ رتبة (مشير)، وهي أعلى رتبةٍ فيه. وشغل خلال ذلك عدَّة مناصب عسكرية، وشارك في حروب روسيا. وكان قائداً لسلاح المدفعية، ثم قائداً للجيش الثاني، وعُيِّن والياً على طرابلس الغرب مرتين: (1284هـ / 1867م) و(1289هـ/ 1872م)، وعلى ولاية بورصه كذلك مرتين، وعضواً بمجلس شورى الدولة، وهو الوالي الوحيد من (طائفة القولوغلية) بين ولاة طرابلس في العهد العثماني الثاني.

وكان مثقفاً مستنيراً يجمع بين (العربية / والتركية / والفرنسية)، ويُعَدُّ من أبرز رجال الدولة الذين اضطلعوا بتطبيق الإصلاحات، وهو ما يبدو جليّاً في إجراءاته بولاية طرابلس على قصر مدَّتها. ومن أبرز آثاره الباقية: (برج الساعة) الذي لا يزال قائماً معروفاً باسمه إلى اليوم بين القلعة والمدينة القديمة، كما افتتح (المصرف الزراعي)، وشرع في (حديقة المدينة) التي لا تزال قائمة إلى اليوم أيضاً، وعُنِيَ بتأسيس (مرسى طبرق) استعداداً لافتتاح قناة السويس (1868)، وإصلاح (مطبعة الولاية) الحجرية الناشئة وجلب حروفها المعدنية.

كما كان مؤرِّخاً مشاركاً؛ إذ وضع كتاباً باللغة العربية بعنوان (مرآة الجزائر)، ونقله صهره علي شوقي إلى التركية، وألحق بآخره (ترجمة المؤلف) الموجزة، ونشره باستانبول في سنة (1293هـ / 1876م) التي توفي خلالها المؤلف. وقد اتخذ علي رضا باشا من أثر والده حمدان خوجه المعروف بالعنوان نفسه (المرآة) أساساً لكتابه، ولكنَّه لم يكتفِ بذلك إذ يشير في مقدِّمته إلى اعتماده أيضاً على غيره من المصادر العربية والأجنبية، كما استفاد من روايات بعض الشيوخ (المسنِّين) الجزائريين، ومن مشاهداته الشخصية، فأنجز بذلك أثراً آخر عن تاريخ الجزائر في العهد العثماني حتى بدايات الاحتلال الفرنسي (تقع ترجمته المطبوعة في 142 ص، من حجمٍ صغيرٍ نسبيّاً). ويشير المؤلف في أحد المواضع بكتابه إلى أنَّ فرنسا تحكم الجزائر منذ أربعين سنة، ويُسْتَشَفُّ من هذه الإشارة أنَّه ألَّف كتابه نحو سنة (1286هـ / 1870م)؛ أي خلال ولايته الأولى على طرابلس، وقد فُقِدَ الأصل العربيُّ فيما يبدو حتى اليوم (؟)، كما فُقِد الأصل العربيُّ لكتاب أبيه أيضاً. ولم أقف على أيَّةِ ترجمةٍ [وافية] لعلي رضا باشا؛ لذا بنيتُ هذه الترجمة الموجزة على:

ـ بعض الإشارات إليه في (تاريخ أحمد لطفي أفندي [1817 ـ 1907]، بالتركية) الذي كان (وقعه نويس  Vakanuvis): أي أحد المؤرخين الرسميين للدولة العثمانية.

ـ وبعض الوثائق في (أرشيف رئاسة الوزراء) باستانبول.

ـ مع بعض الإفادات من كتابه (مرآت الجزائر).

انظر الترجمة بمصادرها في تقديم كتاب: (مدرسة الفنون والصنائع الإسلامية بمدينة طرابلس في مائة عام 1898 ـ 1998، [كتاب توثيقي]، طرابلس 2000).

ــــــــــــــــــــــــ

[11] ـ سليمان الباروني (1290 ـ 1359هـ / 1873 ـ 1940م).

أديبٌ مؤرِّخٌ، وسياسيٌّ محنَّكٌ، ومجاهدٌ قياديٌّ بارز، ولد بكاباو من جبل نفوسة (الجبل الغربي)، وبدأ تحصيله العلمي على يدي والده الفقيه المؤرخ عبد الله الباروني، وتعدَّدت رحلاته الدراسية وجمعت بين تونس، والجزائر، ومصر. وأسَّس في القاهرة (مطبعة الأزهار البارونية)، وعُنِيَ بنشر بعض المصادر الإباضية، ومنها تاريخه المعروف (الأزهار الرياضية في أئمَّة وملوك الإباضية)، كما أصدر بالقاهرة بضعة أعداد من صحيفته (الأسد الإسلامي) التي لم تُعمَّرْ طويلاً. وانتخب نائباً في (مجلس المبعوثان) العثماني، وشارك في حركة الجهاد ورأس المجاهدين، ثم هاجر إلى المشرق، وأقام بالعراق سنين، وكانت له أيضاً مساهمة / ومكانة سياسية بارزة في (دولة عُمان)، وسافر إلى الهند (بومبي) وتوفي هناك.

ولم يصدر سوى الجزء الثاني من كتابه (الأزهار الرياضية) الذي نخرج من قراءته العامَّةبملاحظةٍ مهمَّةٍ فحواها أنَّ (بناء النصِّ) فيه متداخلٌ في ضفيرةٍ من جديلتين: أولاهما عن (الدولة الرستميَّة) الإباضية بمدينة تيهرت في الجزائر وأئمَّتها (سلاطينها)، مع ذكر ملحقاتها المنسوبة إليها من المدن في المغرب الأوسط. والأخرى عن (ولاتهم أو عُمَّالهم على جبل نفوسة)، وبعض الإفادات المتنوِّعة في هذين السياقين المتداخلين. كما يختتم المؤلف الكتاب بذكر زيارته إلى مدينة تيهرت ووقوفه على أطلالها، ثم يورد ما جادت به قريحته هناك (قصيدة في رثائها).

وخلاصة القول إنَّ (الهاجس المذهبي) كان غالباً على عمله في بُعْدِه المركزي بالمشرق والمغرب، مع إطلالةٍ خاصَّة على جبل نفوسة. وقد صدر عنه في الجزائر نفسها عملٌ مبكِّرٌ نسبياً لأبي اليقظان الحاج إبراهيم بعنوان: (سليمان باشا الباروني) سنة (1956). وخصَّه المؤرخ الثقافي الفاضل الدكتور محمد مسعود جبران برسالته للماجستير التي صدرت بعنوان: (سليمان الباروني: آثاره) عن الدار العربية للكتاب (1991). كما أُنِجزَتْ عنه رسالةٌ أخرى للأخ الباحث خالد سليمان أبوراس بعنوان: (الأثر الديني السياسي في فكر الشيخ سليمان الباروني 1870 ـ 1922، أكاديمية الدراسات العليا، 2010 ـ 2011). وصدرت أيضاً دراسة الباحثة التونسية هادية مشيخي: (سياسي إباضي مغربي: سليمان الباروني 1873 ـ 1940، تونس 2013). وتناولته بالدراسة أيضاً الباحثة عفاف الباشا في أحد فصول رسالتها التي نشرت بعنوان: (المؤرخون الليبيون في القرن التاسع عشر، بيروت 2008).

ــــــــــــــــــــــــ

[12] ـ مصاهرة بين عائلتين / من أبرز أعيان البلدين.

للمؤرخ الليبي الشهير أحمد النائب الأنصاري (1264 ـ 1336هـ / 1848 ـ 1918) ثلاثُ بناتٍ كُتِبَ لهنَّ الزواج خارج طرابلس أيام هجرته إلى استانبول وبلاد الشام، وهُنَّ فاطمة وعائشة وأمينة، وقد اقترنت كل منهن بزوجٍ من غير أبناء البلاد. وتهمُّنا هنا السيِّدة عائشة التي تُوفيت في دمشق (بتاريخ 13 ـ 5 ـ 1957). وقد قدَّمها الأستاذ محمود الصديق أبو حامد في مقالةٍ موجزة بعنوان: “الكاتبة الليبية عائشة بنت النائب”، نشرت في مجلة الروَّاد (طرابلس، العدد 11 / فبراير 1970). غير أنَّ الوثيقة المنشورة باسمها رسالةٌ عاديَّةٌ يغلب عليها الطابع الاجتماعي الأسري، ولا تتصل بهاجس الكتابة الأدبية أو الشأن الثقافي ؟ أمَّا زوجها المتوفى قبلها فهو: محيي الدين باشا ابن الأمير عبد القادر الجزائري (1259 – 1336ﻫ / 1843 – 1918م)، ولكنَّه يبدو (أكبر من أبيها)، وقد توفيَّ كلاهما في السنة نفسها. وترجم له صديقه الشيخ عبد الرزاق البيطار في (حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر، دمشق 1383هـ / 1963، مج 3 ص 1423 – 1449) ترجمة ودِّية مطوَّلة مُزِجَتْ بنصوصهما الأدبية. كما ترجم له المؤرخ الجليل خير الدين الزركلي في (الأعلام، ط 4، بيروت 1979، ج 7 ص 190): “مجاهدٌ من أدباء العلماء، ولد وتعلَّم وحفظ القرآن بالجزائر، وتفقَّه (مالكياً) بدمشق، بعد أن سكنها مع أبيه، ورحل إلى استانبول سنة 1281هـ فأكرمه السلطان عبد العزيز … عاد إلى الجزائر متنكِّراً واستأنف الجهاد الذي بدأه أبوه ضدَّ الفرنسيين، وتغلَّبوا عليه فانصرف إلى بلاد الشام واستانبول …. الخ”.

الأمير عبد القوي آل عبد القادر
الأمير عبد القوي آل عبد القادر

وتظلُّ مصاهرته للمؤرخ أحمد النائب الأنصاري في حاجةٍ إلى مزيدٍ من التقصِّي والمتابعة في إطار التاريخ الاجتماعي للمهاجرين المغاربة باستانبول وبلاد الشام، فلم نقف بعد على تاريخ / ومكان هذه المصاهرة بين الطرفين (؟). وقد رزق الزوجان بابنهما: عبد القوي (فقط). وذُكِرَ باسم (الأمير عبد القوي آل عبد القادر) إزاء صورته المنشورة في كتاب (الليبيون في سوريا)، للأستاذ محمد زين العابدين بن موسى (دمشق1371هـ / 1952م).


مقالات ذات علاقة

رواية (من مكة إلى هنا) من خلال تحليل دال لغوي

عبدالرزاق الماعزي

المرأة التباوية ودورها في المحافظة على الهوية التباوية

امراجع السحاتي

مفردات سريانية في العاميّة الليبية (7/ 8)

عبدالمنعم المحجوب

اترك تعليق