حين فكرت في كتابة رواية “اللحية” كان الحافز الأساسي هو مسألة الشبهة، وكون العالم أصبح يرى كل إنسان مشبوهاً حتى يثبت العكس، خصوصا حين تتعلق الشبهة بمفردات الجسد الإنساني أو ملامحه، وانطلاقا من تجربة شخصية عشتها كملتحٍ فترة الصدامات بين الأجهزة الأمنية والجماعات الإسلامية في درنة العالم 1996، حيث وضعتني لحيتي في دائرة الشبهة رغم أن لا علاقة لها بأية عقيدة سوى عقيدة الكسل.
الشخصية الرئيسية في الرواية (ياسين) شاب عشت معه سني مراهقتي في القرية، وكنا نقرأ سويا كتب نزار قباني والمنفلوطي وأشعار أبي نواس، ونتنافس في كتابة رسائل الحب، بعد مغادرتي للقرية بسنين ثابرت أنا في مراودة الشعر، أما صديقي فتحول إلى مقاتل في أفغانستان، وكان السؤال: ما الذي جعل هذه المسافة الشاسعة بيننا، وماذا حصل؟ يقول ياسين: “كنت أفكر في أمر واحد، تصفية الحساب مع كل لحظة قهر، ومع ميراث ثقيل من الهوان، تصفية الحساب مع كل من صادروا رغباتي وسرقوا أحلامي، وقبل كل شيء كنت أريد الانتقام من نفسي نفسها، كنت أريد لها أن تدخل في نفق لا أعرف نهايته كي أكفر عن كل إيماءات الموافقة، وعن كل تمارين الانصياع ، ودون أن أدري وبعد العديد من الاجتماعات السرية والخطط التي لم تنفذ والمحطات التي مررت بها، وجدت نفسي في جبال أفغانستان البعيدة أحارب مع رجال ملتحين لا أعرفهم ولا أعرف ماذا يريدون بالضبط، لكن كلما وجهت بندقيتي لهدف انتصب أمامي طابور من الأعداء المتمترسين في أدغال الذاكرة، المعلم القاسي وأبي والناظر ومشرف القسم الداخلي الشاذ وذلك الرجل المجهول الذي انتزع عزيزة من سريري، فكنت أضرب دون هوادة وأنا أهتف الله أكبر”1..
وعبر هذا الصراع مع الذات والآخرين، تخلل الرواية بحث في سيكولوجية الإنسان المقهور والبيئة التي تصنع القتلة. في المقابل كان ثمة شخصية أخرى، عضو بارز في اللجان الثورية، قادم من هامش الهامش الاجتماعي، ومقتنع كامل الاقتناع بقدرته على تغيير العالم حسب يوتوبياه الخاصة، بينما يضمر في داخله رغبة مكبوتة في تصفية الحساب مع ميراث من القهر، وكان يشكل الوجه الآخر لعملة ياسين. وهو الرجل النافذ الذي أرغم ياسين على تطليق خطيبته والزواج منها، تقول عنه (عزيزة) زوجته وخطيبة ياسين السابقة: “جاءني في إحدى الليالي ثملاً مترنحاً، ودون أن أتوقع استرسل في حالة اعتراف مفزع، وكأنه يطلب صك غفرانه مني، حدثني بألم عن تلك الدماء التي تسيل كل يوم من أصابعه، عن قسوته في تعذيب الأجساد البشرية، وانتشائه بصرخات الألم، عن وشايته بصديق العمر الذي شارك في إعدامه، وعن سر كوابيسه التي طالما أجفلتني وأنا نائمة بجواره، كان كتلة متحركة من الآثام تنتقل بأناقة من منصب إلى منصب، وكان إحساسه بأنه يساهم في صنع عالم جديد ذريعته للمضي قدماً دون إحساس بالندم”2.
ليس الأمر دفاعا عن القتلة، كما قد يتصور البعض، لكنه محاولة لتفكيك آليات صناعة القتلة، والأمر نسبي لأن القلة ممن يتعرضون للتهميش يكونون عرضة لهذا التشوه النفسي، لكنهم قلة مؤثرة حين تختار العنف وسيلة للانتقام، ولابد لهذه القلة ذات الأعصاب العارية والاستعداد للتشوه أن تتحدث وننصت لها ولو في رواية.
حين فرغت من قراءة كتاب عبد الرحمن شلقم “أشخاص حول القذافي” كتبت ملاحظة مفادها أن هذا الكتاب في جوهره رواية حقيقية تبحث في ثيمة التهميش الاجتماعي والاقتصادي الذي سيتحول فيما بعد إلى مصدر لا ينضب لإنتاج القتلة المأجورين، ليسوا مجرد قتلة يحصلون على مصالح مقابل تنفيذ مهامهم لكنهم يستمتعون بالتعذيب والقتل في قرارة أنفسهم.
كان شلقم يسرد سِيَر أشخاص الدائرة اللصيقة بالقذافي الذين استخدمهم في تنفيذ جرائمه، وجميعهم قادمون من هامش الهامش أو من اللامكان، من بيئة قاهرة جغرافيا واجتماعيا واقتصادياً، واستطاع هو القادم من هذه البيئة ومن هذا التهميش نفسه أن يستثمر رغبة تصفية الحساب لديهم لصالح مشاريعه الإقصائية حتى يبقى على رأس السلطة.
فترة انتشار داعش والجماعات الإرهابية في درنة، كنا عن كثب نرى أن الشباب الذين التحقوا بهم بأسرع ما يمكن، وتحولوا فورا إلى قتلة يحملون الرؤوس المقطوعة ويلتقطون الصور مبتسمين، دون إحساس بالندم، هم شباب يشبهون ياسين ويشبهون عضو اللجنة الثورية في رواية اللحية، ويشبهون بعض شخصيات كتاب شلقم المحيطة بالقذافي.
ومعظمهم انتقل من حياة المخدر الكيميائي إلى المخدر الديني، من غيبوبة المخدرات إلى غيبوبة داعش، المهم أن يغيب عن الواقع وأن يبدأ طقوس تصفية حسابه مع المجتمع في أقرب فرصة تتاح.
بعضهم ضحية انفصال الوالدين، وبعضهم ضحية عنف أسري، وبعضهم ضحية عنف المدارس، وبعضهم ضحية عنف اقتصادي، وبعضهم ضحية كل هذا مجتمعاً، والبعض ضحية عنف جنسي في الطفولة أو المراهقة (وأكرر أن كل من يتعرض لهذه الظروف ليس بالضرورة أن يتحول إلى مجرم، لكن السيكولوجية تختلف وثمة من لديه الاستعداد، وحتى أجسامنا تختلف في مدى مقاومتها للأمراض العضوية).ِ
المشكلة أن هؤلاء لا يتم الاستماع إليهم إلا في إطار التحقيقات الأمنية والحصول على المعلومات، رغم أن كل واحد منهم يملك حكاية وسيرة أوصلته لهذا المصير العدمي. والإنصات لهم عبر مختصين اجتماعيين ونفسيين، ليس من أجل الإشفاق عليهم، ولكن من أجل أن نعرف على الأقل جزءا من أسباب هذا الانحراف وهذه الظاهرة ونحاول وضع الخطط لتفاديها. فأكثر ما يمكن أن يُبدَى من تعاطف مع هؤلاء القول بأنهم مراهقون مغرر بهم، ولكن السؤال التالي، لماذا تم التغرير بهم؟. أو كيف أصبحوا جاهزين لهذا التغرير لو لم يكن لديهم استعداد مسبق؟. وهذا الاستعداد وراءه سيرة وحكاية لابد أن نسمعها. منطلقين من حقيقة أن جميعنا يولد عاشقا للحياة، فما الذي يجعل البعض في عز فتوته وشبابه مديرا للموت وعاشقا للانتحار.
الشر ترعرع مع الإنسان على مدى تاريخه فوق الأرض، ونحن لا نستطيع أن نوقفه، لكن بهذا الإنصات من الممكن أن نرى كيف ومتى وأين كانت مساهمتنا كمجتمع في تعزيز غرائزه. لا نستطيع إيقافه ولكن بإمكاننا أن نقلل كميته ونخفف من وطأته.
________________________________
1ـ رواية “اللحية” سالم العوكلي ـ الدار العربية للعلوم ناشرون ، بيروت.
2 ـ المصدر نفسه.