المقالة

الطِّيْنُ والنَّار

قلتُ لصاحِبي:

  • هذا لقاؤنا الثاني مُنْذُ أنْ سَأَلْتَنِي عَنْ “سُوْمِر” ..

ومَرَّتْ هُنَيْهَةُ صَمْتٍ ثُمَّ إستطردتُ مُتَسائلاً بصوتٍ مُغايِر:

  • هل تَسَنَّى لَكَ الفَطُورُ في بيتِكَ فلقد أتيتَ إلى هنا في الصَّباحِ مُبَكِّراً ؟ وظّنِّي أَنَّكَ لم تتناوَلْ طَعامَ الفَطُور وإذا صَحَّ هذا فسآتي لَكَ بِهِ فَنَفْطَرُ مَعاً.

فقال صَاحِبِي:

في العادَةِ أسْتَيْقِظُ في الصباح الباكِرِ مَعَ العائلة لتناولِ طعامَ الفَطُورِ لكنَّي لا أُغادِرُ البيت. ومَعَ الظَّهِيْرَةِ أخرجُ لأُصَلِّي في الجَامِعِ القَرِيب. وإذا كانت زوجتي في حاجةٍ إلى مُشْتَرَياتٍ فهي تَمُدُّ لي وَرَقَةٍ بِلَوازِمِ المطبخ فأعودُ إليها بَعْدَ الصَّلاة مَعَ المشتريات وأَبْقَى معها. وها أنتَ قد عَرِفْتَ أنِّي تَناوَلْتُ الفَطُورَ وأنَّي جِئتُ إليكَ مُبَكِّراً هذا الصَّباح كّيْ أَسْتَمِعَ طويلاً إلى تَتممِةِ حَدِيْثِكَ عَنْ ” سُوْمِر”.

فقلتُ:

  • إذاً سأذهبُ للمطبخ وأتناولُ فَطُوْراً خفيفاً ثُمَّ أَعُودُ إليكَ عاجِلاً بالقهوة .

قال صاحِبي وأَمَاراتُ الإحْتِشامِ بادِيَة على وجهه :

  • وكيف يَتْرُكُوْنَكَ بمفردكَ تُعانِي شؤونَ المطبخ ؟!

فقلتُ بتراخٍ :

  • لقد ذَهَبَتْ زوجتي نَهارَ أَمْسٍ لزيارةِ والدتَها في المستشفى، وسَتَبْقى في بيتِ أَهْلِها أسبوعاً أو أَقَل..

ثُمَّ صارَ صوتي رَخِيْماً وأنا أقول :

  • كَبِرْنا كَسائرِ المَخْلُوْقات .والحَمْدُ لِلَّه على أَيّ حال فقد قُمْنا بواجِبِنا في تَرْبِيَةِ أطفالِنا وتعليمِهم وهُم – الآنَ- رجالٌ وسيَّدَاتٌ بعدما أَتَمُّوا دراساتَهم في الجامعات هنا وهناك وتزوَّجوا وأَنْجَبُوا أطفالاً بِدَوْرِهم. الحَمْدُ لِلَّهِ ، وَاللَّهِ لَوْلا زوجتي الطَّيِّبَة ما إستطعتُ النهوض بتلك الأعْباءِ جميعَها وفوق هذا وذاك أجِدُ مُتَّسَعاً مِنَ الوقتِ للقراءةِ والدَّرْسِ والكِتابَة .

فقال صاحِبي مُرَدِّدَاً قَوْلِي:

  • الحَمْدُ لِلَّهِ.

وإنصرفتُ إلى المطبخ ثُمَّ رَجَعْتُ بلا إبْطاءٍ مَعَ القهوة وبدأتُ حديثي قائلاً:

  • كانت أقاليمُ المُناخِ القديم شديدةَ الإختلافِ عَمَّا نَعْرِفَهُ في عصرنا الحالي مِنْ حَيْثُ مَوْقِعِ تلك الأقاليم المناخية وكذلك المناطق الديموغرافية بمعنى كثافة وكَثْرةِ توزيع الجنس البشري الذي تؤكِّد المُعْطَياتُ الآركيولوجيَّة الحديثة أنَّه كان في شمالِ العالَم فهناك ظهرت أوائل الحضارةِ والإستقرارِ والمخترعاتِ وحِيازَةِ القطعان والمِلْكِيَّةِ الخاصَةِ والزراعةِ البدائيةِ والتَّعّدِينِ والحُرُوب وغَيْرِها، ويَدُلُّنا ذلك كلُّه على أنَّ العصرَ الزراعي – في أوائلِهِ التي تعودُ إلى آلافِ السنين قبل بداية التاريخ – لم يظهرْ في أنحاءِ الكرةِ الأرضيَّةِ دُفْعَةً واحدة بإستثناء المصريين سُكّانِ شرقِ النِّيل .

وحين نَسْتَخْدِمُ ” مَنْهَجَ الإستنباط” – كما يُعَرِّفَهُ البروفيسور “ماكْدُوْجال” بأنَّه المنهج الذي يّعْتَني بالتَّفاصِيلِ ويَنْطَلِقُ منها مُتَّجِهاً نحو الإستراتيجيات التي يَضَعَها الباحث – نُدْرِكُ أنَّ كلمةَ ” آرِي” المَأْلُوفَةِ في عصرنا الجارِي هي تَسْمِيَة لأمَمٍ شَتَّى أُورُوبِيَّة شماليَّة خالصة وأمم آسيوية جنوبيَّة مُنْدَمِجَة أَذابَتْ العنصرَ الآرِي في كيانِها الوطني الزّاخِرِ كالهِنْدِ مَثَلاً .

” آرْيَا” المستعملة حتى الآن على ثلاثةِ أَصْعِدَة..الأول والثاني هما: الصَّعيد الفِسْيُوْلُوجِي ثم الصَّعيد الدَّلالِي للكلمات المُدَوَّنَةِ وأصواتِها حَيْثُ نَجِدُ هذين الصَّعِيدَيْنِ مُتَلازِمَيْنِ في الدِّراسَاتِ الأكاديميَّةِ بِمَعْنَى مَنْطِقَة في الدِّماغِ مِنَ الناحية التَّشْرِيحِيَّة الوظيفيَّة ومِنْ ناحية جُذُور الكَلام. أمَّا الصعيد الثالث –وهو الأَهَم بالنسبة لنا– فهو الصَّعِيد القانوني الذي نَعْرِفَهُ جيداً في عصرنا الجارِي بِنَفْسِ النُّطْقِ القديم ” آرْيَا” ويَقْتَصِرُ هذا النُّطْق على السُّجُون فقط حَيْثُ يَجِدُ المَسْجُون مَكاناً مَسْقُوْفاً بِشَبَكَةِ حَدِيدٍ وتحيطُ بِهِ – مِنَ الجِّهاتِ الأَرْبَع – جُدْرانٌ عالية ويكون بمقدوره أَنْ يَتَنَفْسَ الهواءَ الطَّلْق وأنْ يَتَشَمَّسَ أو يَقِفَ في طوابيرٍ مُتَوازِيةٍ للعَدِّ- ويُسَمُّونَ هذا العَدّ في السُّجُونِ بالتَّمام- قَبْلَ إعادةِ المَسَاجِين مَرَّةً أخرى للعنابرِ والزَّنازِين. وقد تكون كلمة ” آرْيَا ” في إستعمالها عند القدماء فيما قبل التاريخ تَدُلُّ على مَعْنَى الأرض الجَرْداء الخالِيَة مِنَ الأشْجار والمستنقعات ، فقد أنْفَقَ الإنسانُ آلافَ السِّنِينِ لإقتلاع تلك العَوائق وتهيئة أَمْكِنَة واسِعَة تُتِيحُ لهم بناءَ الحظائرِ والأَقْبِيَةِ للثيران والأبقار والخِرْفان والدَّجاج، وكذلك تَشْييدُ المَناحِلَ وأبراجَ الحَمامِ الزَّاجِلِ، وإيداعُ الزَّحّافاتَ التي تَجُرُّها الثيران وهي زَحّافاتٌ ذات عَجَلاتً خَشَبِيَّةٍ مُصْمَته إخْتَرَعَها السِّلافِيُّون في روسيا ما قبل التاريخ بثمانيةِ آلافِ سَنَةٍ و طُوِّرَتْ بعد ذلك بجهودِ أُمَمٍ كثيرة وصولاً إلى العَرَبَةِ التي تَجُرُّها الخيولُ للمواصلاتِ والنَّقْلِ، وعَربات بتصميمٍ مختلفٍ للحرب. وكانت مُعْظَمُ يابِسَةِ الكُرَةِ الأرضيَّةِ في ذلك الوقت البعيد جداً مُغَطَّاة بالأشْجارِ وأعْشابِ السَّراخِسِ والمُسْتَنْقَعاتِ – التي لم تُجَفَّفْ أو تُرْدَم – بِبَخْرِها السَّام وأجوائها العابِقَةِ بغازِ “المِيثان”.

وكان الآرِيُون زيادةً في الحِيْطَةِ يقيمون مَساكِنَهم عالياً – وهي أكواخ خشبيَّة- على ضِفافِ الأنهارِ والبحيراتِ ذات المَنْسُوبِ المائي المُنْخَفض ، يصطادون الأسْماكَ ويأْكُلُوْنَها مَشْوِيَّةً على نارٍ هادئةٍ مِنْ الفَحْمِ النَّباتِي أو يذهبونَ للفَسَحاتِ الجَّرْداءِ التي أَعَدُّوْها قريباً منهم لِيُوْقِدُوا ناراً كبيرة لِطَهْوِ الخِرْفان والأبْقار والدَّجاج. وكانوا يُجِيْدُونَ إشعالَ النارِ المُتَحَدِّرِ كَتكْنُولوجْيَا بِدائيَّة إلى حوالي نصف مليون سَنَة وِفْقَ كُشُوفِ كُهُوف ” بِكِينْ” قَبْلَ الحربِ العالميَّةِ الثانية . وعِنْدَ وصولِ ” الأُمَّةُ السُّوْمِرِيّة” إلى مابين النهرين “دجلة والفرات” قادمين مِنْ “آسيا الصغرى” لم يجدوا حَوْلَهُم سوى غابات كثيفة مِنْ شَجَرٍ ذِي جُذُوعٍ صَلْبَةٍ وبقايا زُنُوجٍ عُراة – هُمْ شَتاتٌ لا يُمْكِنُ تَنْسِيْبَهُ إلى جِهَةٍ أو أصْلٍ سابِق- أَفْنَتْ حُشُودَهُم البائِسة وُحُوشُ الغابات كالنُّمُورِ والسِّباعِ والضِّباعِ والثعابين وغَيْرِها وأَهْلَكَتْ البَقَيَةَ الباقية منهم أَسْرابُ البَعُوضِ الحامِلِ للملارْيا والأجواءُ المَسْمُومَة قُرْبَ المُستنقعات. وعلى المرءِ أنْ يتصوَّرَ المجهودَ الجَّبار والصَّعب الذي بَذَلَهُ ” السُّوّمِرِيُّون” في تَجْفِيفِ وردمِ المُستنقعات وإقتلاعِ الغابات لإيجادِ مكانٍ فسيحٍ وأَجْرَدٍ يقيمون فيه بعد رحلتِهم الإضْطِرارِيَّة العجيبة عَبْرَ الدُّنْيا القديمة . ولقد مَكَّنَتْهُم حضارتُهُم ومُسْتَواهُم التِّكْنُولوجي ومَهارَتُهُم في التَّعْدِين – فَهُمْ آباء عصور الحديد والنحاس والبرونز كقدماءِ المصريين – وخِبْرَتُهم الطويلة في الإختراعِ مِنْ هَزْمِ البِيْئةِ البَشِعَة والتَّغلُّبُ عليها وبلوغُ مآرَبَهُم التَّعْمِيْرِيَّة النَّبِيْلَة ، فقد بَنُوا مدينةَ ” أُوْرُوكْ” كعاصمةٍ وشَيَّدُوا مُدُناً أُخْرَى كثيرةً آمِنَةً من شَرِ أَقْوْالُ الطبيعة. وعَنْ أحوالِ إكتشاف وترجمة ملحمة جلجامش الأدبيَّة بوسعنا التأكيد أنَّ ألواحَ القِرْمِيد للملحمة المَنْقُوْشَةِ باللُّغَةِ السُّوْمِرِيَّةِ على الطِّيْنِ المَحْرُوقِ بالنار تعودُ إلى سَنَةِ 3200ق.م – أيْ مُنْذُ ما يزيدُ على خمسةِ آلافِ سَنَة – إستناداً إلى حَفْرِيّاتِ مدينةِ ” شُرُوْبَاكْ ” السُّوْمِرِيَّة . وخلال القرن التاسع عشر مِنَ الميلاد إنْهَمَكَ علماءُ اللُّغاتِ القديمةِ في دراساتهم . وفي 1872م تَمَكَّنَ العالِمُ “جورج سِمِثْ” مِنْ حَلِّ رموزِ اللُّغةِ السُّوْمِرِيَّة. وأنْفَقَ العلماء مئة وخمسين سنة لِفَكِ طَلاسِمَ بقية اللُّغات القديمة التي تَوَفّرَتْ نُصُوصُها . وأَنْجَزَ المفكِّر الأمريكي ” إلكْسَنْدر هايْدِلْ” في 1946م أولَ ترجمةٍ لملحمةِ جَلجامش إلى الإنجليزية مِن السُّوْمِرِيَّةِ مُباشَرَةً ، ثم نَقَلَها مِنَ الإنجليزية إلى العربية المُترجِم المعروف “فَرَّاس السَّوَّاح” ونشرتها ” دار الكلمة” اللبنانية. أمّا في خمسينات القرن العشرين فقد أتَمَّ البروفيسور العراقي ” طَه باقِر” ترجمةً فَذَّة لملحمةِ كَلكَامِشْ إلى العربية من السُّوْمِرِيَّة مُبَاشَرَةً ، وهو عالم آثار وأستاذ للُّغةِ السُّوْمِرِيَّةِ ونصوصها في كلية الآداب بجامعة بغداد . وتَجْدُرُ الإشارة إلى أنَّ الكاتب والشاعر والباحث الليبي ” الدكتور عبد المنعم المحجوب” صاحب مجلة “تانِيتْ” – وهو ضَلِيعٌ في اللُّغَةِ السُّوْمِرِيَّة- أَوْرَدَ في كتابه الصادر بعنوان ” الجُذُورُ السُّوْمِرِيَّة للُّغاتِ الأفرو آسْيَوِيَّة” العبارةَ التالِيَة ذات الأهميةِ الفائقَة : ” إنَّ أصْلَ كلمة سلام سُوْمِرِي.” .

______________

نشر بموقع الأيام

مقالات ذات علاقة

أين ليبيا التي عرفت؟ (13)

المشرف العام

ليبيا بين المطرقةِ الدولية والسندانِ الإقليمي!

أحمد الفيتوري

“الغرفة211” كتاب دوري يلم شمل الثقافة الليبية

المشرف العام

اترك تعليق