محمد نجيب عبدالكافي
ذكرني مديرنا المحترم، الأستاذ مهدي كاجيجي، بمقاله المليئ أسى وحسرة دبّجه بأسلوبه الخاص، الخفيف السلس المعبّر، عن مرابع طفولته وصباه، فزان الحبيب، تحدّث فيه عن الصحّة العامة، وهو موضوع كان عليّ أن ألحقه أو أتبع به التعليم لأنهما القطاعان اللذان كانا في طليعة مشاغل الذين بنوا أسس الدولة الليبية الناشئة.
فمن اليوم الأول والخزينة كما عرفنا “يصفّر فيها الرّيح” – كما يقال – بُذل ما في الوسع للعناية وزيادة الخدمات الصحية التي كان المواطنون في أشدّ الحاجة إليها، لما تفشّى من أمراض لم يحل دونها سوى البنية الجسدية القوية التي جاد الله بها على الليبيين عموما. لكن ما أن تحسّنت أحوال الخزينة حتى وضع مخطّط كامل شامل لهذا القطاع الأساسي. طبيعي في هذا المجال العناية بالمستشفيات والمصحات الموجودة والمستحدثة، وضروري تزويدها بالمعدات الضرورية لتسييرها.
لكن ما لم يفت عن بديهة المسؤولين عن قطاع الصحة آنذاك، هو أنّ المنشآت تكون عديمة الفائدة إن هي لم تُمْنح طاقما من المختصّين الأكفاء. فلتوفير ذلك، والبلاد ليس بها ما يلبّي الطلب، تمّ التعاقد، لا مع دولة واحدة بل مع عدّة دول حتى تتجنّب البلاد الخضوع لشروط مجحفة وأيضا لضمان المنافسة والتسابق لنيل الرضا. فجُلِب الأطباء والأخصّائيون والممرضات والتقنيون من مصر وبريطانيا وإسبانيا ويوغسلافيا وغيرها، بعد زيارات مسؤولين لتلك البلدان والتعرّف، على عين المكان، على سمعة ومقدرة وجدارة الذين واللاّتي سيُرسلون ليؤتمنوا على صحّة المواطنين.
كنت في رحلة صيفية مررت أثناءها بأسبانيا – حيث أقضي الآن هجرتي وغربتي – ففوجئت وسعدت بلقاء مسؤولين كانا في رحلة لهذا الغرض وهما السيد سالم الصادق وزير الصحة ووكيل الوزارة السيد محمد الجمل. عرفت منهما أنهما تعاقدا مع اسبانيا وحصلا على بعثة مهمة من الأطباء البارزين كما كان الشأن مع يوغسلافيا مثلا.
شاءت الأقدار والصدف أن أعيّن نائب رئيس مكتب التعاون الفني بوزارة التخطيط والتنمية المرحوم عيسى بالخير، فمسكت وأشرفت عن كثب على عقود التعاون وشروطها، وما كانت ليبيا تحرص على ضمانه والحصول عليه، فلا أبالغ إذا قلت أنّ ذلك كان حقّا مرآة ينعكس فيها ما كان يدور بخلد المسؤولين على قطاع الصحّة من حرص وصدق وأمل وطموح. فالفريق اليوغسلافي مثلا، كان له شرط واحد وهو الانفراد بمستشفى كامل – حتى يثبت كفاءته بلا شك – فكان له ما شاء وأداره، وهنا العجب العجاب، أحد أطباء الرئيس اليوغسلافي تيتو الخاصين.
كلّ هذا يدلّ أن الغاية هي دائما توفير العناية الصحية بالبلاد لا خارجها، وأن تكون تلك العناية على أحسن وأرفع مستوى إلى أن تحصل البلاد على الكفاية الذاتية من الأطباء ومستلزمات الصحة العامة.
بالذاكرة المزيد من الارتسامات.. فلي عودة إن طال العمر.
______________________________
– ألصورة: لقطة نادرة لمستشفي طرابلس ألمركزي التقطت عام 1938م