ميدان سوق الحوت: مائدة للغفلة.. ساحة لقتل الوقت !
ميدان الحوت عنق المدينة قلادة شارع العقيب ما يكاد أن يكون شريان وصل بين ميدان الشجرة وميدان الحوت ؛ شارع العقيب من تبقي في بنغازي بعد أن ذبحت بنت لاغا حاكمة المدينة قبيلتهم، كثيرا ما شوهدت في الليالي السود تسلخ جلد الرجل من قضيبه وتدك المرأة، سوطها في يدها يشعل نيران البحر، بنت لاغا حكمت بني غازي في مطلع قرن القديس يوحنا وفي رواية من روايات الشفاه اليابسة خوفا،عقب الهجة الأخيرة للدلنسية. يمكن لنا أن نعتبر أن شارع العقيب يجتاز عمر المختار بعد ميدان الحوت ؛ حيث جامع بن كاطو الذي يبدو كصندوق الموتي، ولعل ذلك خطر لمصممه فجعله تابوتا أسود يخترق رأسيا السماء. الشارع في سبق يقفز عن الميدان ليصل بحر الكورنيش ليغطس في اليم.
صمم يلم بك كأن الميدان طبل بنغازي: الحوت الحوت طازه حوت ياشرايه، والحوت والصبارص عالياكل الحوت، الليم بعد العصر ما ينباع، الهريسة الحارة هريسة حوش، اللبن في الشتاء.. اللبن ضائع في الصيف، نقضنا يا شرايه المسير شوية، برسم حبيبك على حبة رز وابرة في عين عدوك، الزبدة زبدة اليوم واللى ما يكلها محروم، التمر تمر النبي باطل صيام اللى ما يفطر عليه، العصائر معصورة والمتفرجة محرومة، فطائر تخليك طاير، القطايف قطايف جنة واللى ما يشرى ما يتهنى، خط ولوح خط عالساس ولوح في كل مطراح، مخاريق تذوب الريق، الزلابية كل ليلة عيد، اسفنز اسفنز ما يشيلك ونج.
وفي قلب الحوت قبالة سوق الحوت وجه أخر لعمارة التأمين عبث به الزمان وضرب الجدرى أطنابه، في النوافذ طول وتصدع وتهالكت الابواب، في المقابل يبدو السوق في عناد وعراك شرس مع المهملين ومع العابثين، وقد تجاوز عمره السبعين لكنه يشد عوده يقاتل اليباس. يتداعك الخلق وتعج حدقة الميدان بالبائعين ومن يبدد الوقت حتى وقت الافطار، الجميع يعصر ميدان الحوت عصرا قبل المغرب عابثين ببعضهم البعض متصارمين / متراصين من أجل اللاشئ، عندئذ تبدو الحياة مرشوشة باللامعنى.
كل يوم يدشن الميدان كمائدة للغفلة، لتبديد الوقت في لعبة استغماية، في عين المكان يتمسرح الطفل والشيخ في هكذا لعبة، وفي عين الميدان نزاع بين الخلق والانعكاس. تعكس العمارة فعل الزمان ويعكس السوق فعل الخلق، وقد تم بنائهما في مطلع الثلاثينات في طراز ايطالي مطرز بالعمارة الاسلامية حيث كان للمهندسين أنذاك عيون تبصر وعقل يصمم وفكر ثاقب ؛ سوق الميدان فيه نمنمة وصحن اسلامي وأقواس رومانية وعمارة وظيفية، العين تشف ذلك واللسان يتذوقه: نورعيون اليوم قابلنا عضا، شاطت نار الحب ما ينفع دواء، قرقوم التلفزيوني من تركه التلفزيون يرتكن الميدان بائعا فن المدينة، صورها وغنائها في صندوق عجب خفي يتجلى القديم واقفا. منتصب القامة على الشعالية في مخيلة المشائين مشائي الميدان يرتجل هذا الفنان، منذ حط في الثلاثينات القانون في كتره عازفا اللحن الشعبي مترنما بالكلاسيكي الجديد، في قميصه الأبيض، سرواله الأبيض، حذائه الأبيض والبالطو الأبيض والفرفلة ياقة حرباوية يتمخطر، كأنه ينهض الساعة من الأبدية ليهمس بأسرار القانون قانون المدينة نغمها الصادى المرزكاوي، ليقف عند محل صدقي فون يوزع الالحان ويصوغ ما تجود به قريحة صاحب المحل الفنان محمد صدقي: طيرين في عش الوفا باتن سهارة كنهن ؟. فيما يهمس شادى الجبل قصير القامة وصاحب البرول فن المدينة بآخر نكتة في أذن قرقوم ؛ فنان الميدان الذي أقام فيما انصرم من أعوام معرض سنوى لرسوم الأطفال في فم الحوت المطل على شارع عمر المختار حيث لسان شارع يسده عن البحر زاوية الرفاعية.
في الميدان، عند عنق العقيب، عندها يكون البحر من خلفك، حوش الكيخيا قصر، بيت المدينة الثقافي الآن، المكان ظاهر للعيان والعميان، بيت البوم الآن، واجهة زخرفة مغربية واضحة جلية وباب بابين الليل وعنتر بن شداد أو كما قال الرحابنة، في الليل والنهار يقفل الباب في وجهك طرزه العثمانية المدفونة بفعل صيانة غشم. تترك ناصية العقيب عنك في المطلع يندرج مدرج ساحة لعب الورق صباح مساء في عراك وصياح: ركبة اللص عالتريس والسكمبيل شايط والع يلعلع، أترك ظهر عمارة التأمين حيث السجل العقاري يختبئ لأنك ان شغلت بالميدان يسيل لعابك السمك المرجان والبورى والفروج، أترك ذلك شاقا قلب الحوت كيونس ناجيا من الشغف والشغب، والمنجى ربي من أكداس مكدسة وعبث مشرع فاه كثعبان عشية. أنسل من الميدان مخلفا جامع بن كاطو في شمالي والفم البحري للسوق في يميني عند ناصية شارع عمر المختار حيث تستعيد الأقواس مكانتها وأستعيد أنفاسي، تتجلى الذاكرة: سنابك خيول، فرقعة سياط، زجر وزمجرة، هرج ومرج، الأقواس تدك بكعوب بنادق وأحذية ثقيلة.. ذاكرة موشومة بنسج على المنوال لسان حال مصطفي بن عامر رئيس الجمعية وهو يجر مخفورا برجلي مباحث: فى شارع يمتد ويتوغل فى الأفق الرمادي حتى يختفى كسلك رقيق ليس هناك بيوت على جانبيه أو حوانيت – وليس هناك من إنسان سواه.. سار فى الشارع الذى لاينتهى أفزعه وقع خطواته – خلع نعليه ومشى حافيا – تسأل لماذا يصنعون شوارع هكذا ؟ جداران متوازيان حتى ليبدوان كسرداب خرساني طويل مفتوح على السماء لم يجد منفذا، حاول أن يتسلق لكن قدميه انزلقتا – حاول مرة أخرى – كأنما صنعوا الجدار من مادة لزجة – فلنحاول مرة أخرى – حاولت – هكذا.. قبضت أصابعي على حرف الجدار – كنت مصرا على القفز – لكن فى اللحظة التى أوشكت فيها أن أطير فى الهواء أحسست أن باطن قدمي ينشطر نصفين.
– لا أعتقد أنك تنوى الفرار ؟.
– فقط – لأرى ما خلف الجدار..
– إن ما خلف الجدار – جدار.
– حتما هناك جدار أخير.. هكذا علمتني أمي.
إنها مجرد ظنون، لا جدوى من محاولة إثباتها.
يوسف الشريف يكتب قصته تاركا المحاضرة والجامعة عشية من عشيات الستينات، منزويا في مقهي الحرية تحت مبنى جمعية عمر المختار ما اقتحمته قوات الأمن وعاثت فيه فسادا. كان رجال البوليس من البدو ورجال الجمعية من الحضر والمتفرجة من التجار من دكاكينهم على جانبي الشارع. مقتحما الشارع بهواجسي وخيبات كثيرة ماضية وطعمها في الحلق، عند هذا المبنى ما مدخله ضيق ودرجه مصعدا صعبا وفيه شقق، في شقة منه كان مقر الجمعية السياسية المعارضة التي تأسست في نهاية الاربعينات، ودكت في المنتصف الاول من الخمسينات، ألج المكان بحاسة شم تجوس تراكينه العطنة، وأتلمس الرطوبة في دهاليزه بعد أن حاد عنه كل حادى وغمره بحر نسيان. لعل عليك استخدام حصتك من الوقت لفعل شئ آخر غير التفجع، لمن لا يجد من يواسيه فلا عزاء للبائسين ؛ خطر هذا في البال وقد شددت العزم على اكمال الطريق، كانت بنغازي كائنا حذرا فاتنا، وبطريقة ما، جريحا مملؤا بالاسرار في عشية ذاك اليوم الذي غمره نسيان.
ذاكرة المدينة تعبث بي في زاوية الباب البحري لسوق ميدان الحوت عائدا لشارع المختار تحت الأقواس على يمين ما كان مقر جمعية عمر المختار ما تحته هذه الايام مقهي ؛ كان ثمة خمارة وكأني سكرت بالذكرى ؛ يعتم المشهد ممزوجا باصوات مبحوحة وأن الشارع يتماوج أو أن الارض زلزل زلزالها. أرسخ القدم وأشد العود وأسترد النفس لأمشي ثابتا شاقا الباعة الذين يتراصون في الجانبين ما بين الاقواس التي تضم المحلات الراسخة في الشارع، الباعة بنوا خياما مؤقتة غب العيد كمصدات في وجه الغادى والرئح يصطدون الزبون، يطرحون ويعلقون بضائعهم في ممر الشارع المغلق في وجه خيول الحديد الهمجية، بين شارع قصر حمد وجامع بن كاطو خلائط ألوان الخيم تغلق عن الرائي السماء ؛ حيث أمد النظر لعربدة الغيوم في سماء غاصة بسحب سحت تتعارك عند جامع العتيق أقدم جوامع المدينة، أتعثر في بظاعة مسفوحة على طريقي ما أشق غصبا عند محل تصليح ماكينات سنجر للخياطة، يد مساعدة تمسك بي: ياساتر خذ بالك المصائد كثيرة هذه الايام !. كنت أظن أن اليد التي أمسكت بي يد عجوز ؛ لو لم أكن في تلك الحالة من الارتباك لخلتها يد سي عابد البناني، وأنه نهض من قبره عند ممشاه اليومي قرب بيته ليشد الحيل، ولو كان الأمر كذلك لوقفت وقفة العتاب لم لا، أعاتبه: أن يده كانت تساعد حقا لو دونت ما تعرف من تضاريس المدينة، كنت أيها العجوز ذاكرة المدينة الشفاهية، خفت أم جفلت أن تكون المدون فضاع اللبن في الصيف وضيعتنى أيها الشيخ، كنت سأجعله يتحقق من حلو العتاب بأن أجعله يلمس بين يديه كاغط عبدالله القويري من لم يقم في المدينة، وما كتب العابر ودون: بنغازي من الغرب فهي حضرية لا يقبلها البوادي، ويحتمي الناس بهذه الصفة، وتبتعد المدينة مرات عن الغرب فهي قريبة من البادية حولها، قاطعة جذورها، خالقة لنفسها شخصية شرقاوية متميزة، هي لا تقترب من البادية بمقدار إلا لتبتعد عنها بمثل هذا المقدار، وهي لا تقترب من الغرب بمقدار إلا لتبتعد عنه بمثل هذا المقدار. عوامل الموقع والتاريخ والاجتماع جعلت من هذه البقعة ذات سمات متفردة لا ينكرها أهلها بل يعتزون بها ويتمسكون، ولعل الوهم يجعلهم يوغلون في تضخيمها، إنهم يحبون مدينتهم، لا يختلف في هذا الحب قريب عهد بسكناها أو بعيده، وحبهم هذا لا يوقعهم في تناقض. أردت التحقق من هذا حين تلاشى المشهد وذهب العجوز عابد البناني في الغياب تحت وابل من المطر خض الشارع وأذهل الباعة وسحب الزبائن إلى مظلة الشارع في خاصرتيه. فوق المحلات ما يضمها ممر من الاقواس على الجانبين شرفات عامهة في غيها تطل من شقق مخباءة عن أعين السابلة، شرفات مزروعة بعيناية محدثة ومنقوشة بقديم، الشقق تضم مكاتب حاليا أما في زمنها الأول فهي منازل تتكئ علي شرفاتها جسوم، وتنزلق منها نهود، وتتطلع محاجر عيون سود وقسطلية وخضر وزرق على المشهد من عل. أبواب هذه المنازل منزلة بين منزلتين ؛ طالعة وخفية، محطوطة بمكر ودهاء بين أبواب المحلات. بعيد ما كان خمارة ينشق شويرع قصير النفس فيعد خطوات تصب في ميدان صغير تتوسطه شجرة وارفة، يعد المستراح الخلفي لسوق ميدان الحوت، وفيه نصب باعة الخضار مكامنهم على صناديق ألواح في الهواء الطلق، وسكنت العصافير الطليقة، في مواجهة الشويرع المنزلق من عمر المختار، قبالة الشجرة الضخمة مظلة هذه الفسحة، مطعم الفاصوليا بالكرشة والحرايمي ” طبيخ السمك الحار ” مطعم سي بشير الوداني من ربض منذ عقود من الزمان بالمكان وكمن للجائعين يشدهم من أنوفهم، لهذه الفسحة فتحات أربع تصب فيه البشر الراغبين الانزواء عن شغب ميدان الحوت وزحوم شوارع العقيب وجعفر وعمر المختار، من الفتحة المجانبة لسوق الميدان ينبثق أغلب أيام الاسبوع رجل كمشة، يتلحفه بالطو بنى فاتح حتى يكاد يخفيه عن الناظر، يعتمر الطاقية الحمراء الشارة خاصة سكان شرق البلاد، التجاعيد تنقشع عن وجهه بالبسمة الدائمة، في رفقته ضباب سيجارته التي لم تفارقه حتى وقد جازله أن يناصف السبعين من العمر، أخاله في مشيه قصيدة هو الشاعر حسن السوسي من قصده المغازلة وغوايته التشبب بالغواني والحسان، حتى عد مرة كسر رجله اثر أن دهسته سيارة وكانت امرأة السائقة، عد ذلك غزل وأن من الحب ما كسر. من الفتحة المجانبة لمحل الخضار ينبثق أغلب أيام الاسبوع فيما سلف من الايام رجل انحنى ظهره من أثر معاندته للزمان وأثقله طول العمر وهمه التاريخي الذي لا يكل عابد البناني، ومن هذه الفتحة أو تلك ينبثق بعض من الاصدقاء لملتقاهم اليومي حيث يجلس من يلبس الكاط على الفرملة والسروال العربي أو كما ينعت اللباس المحلي، المعتمر أبدا الشنة القبعة الليبية والمتلحف الشعر راشد الزبير، يقعد اصبوحته بشوشا راشا بسمته في مقعده بمحله أو صالونه الأدبي المتواضع، يلتم الصحب لمة تبلسم بالشاي والضحكات الكتومة والقصائد المطلوقة من فاه هذا لمسامع شغوفة، أدخل فيكون لى مقعد من مقاعد أصحاب الصوب، الشعر العطر والكلام المنثور نزوة توقد الجذوة ومفتتح شهوة الحياة.
آه يا طين بنغازي القاسى.
أعود والعود أحمد لشارع عمر المختار بعد أن أنزلق من ذلكم الشويرع متمهلا أمشي مقصر الخطى، متأملا، مقلبا في الخاطر أوجه هذا الشارع ؛ الزاخر بالمبالغة في الجدية والصرامة، الضيق المحسوب والسعة التي تسع هذا المحسوب، يمد لسانه حتى يطال البحر عند أول الكورنيش بمحاذاة الميناء، يضيق عقب ميدان الحوت ليصب في ميدان البلدية ليسده الجامع العتيق ومنخريه سوق الظلام وشارع سيدي سالم، في أوله سينما ؛ سينما البرنيتشي في أخره سينما ؛ سينما تسعه أغسطس عند ميدان البلدية، في أوله مصرف الأمة على يمين من يهدف البلدية في أخره المصرف الوطني التجاري، في المنتصف جامع في الأخر جامع.
هذا الشارع ليس كمثله شئ، صب الأوربيون في حربهم الساخنة الثانية عليه كل أهوالهم أثناء عراكهم وهم يكرون ويفرون، هدمت المدينة وتحولت مينائها لجبانة، والشارع نجى مما يكيدون له: غرسياني، رومل، مونتجمري.. والقائمة تطول، كأنه نجى ليكون المتحف الحي للحياة في زهوها بأن الغلبة لها وأنه ما تحقق من هتاف المدينة ولسان حالها: انها الحرب فلتسقط الراء.
السيدة تغالب جسدها، روح وثابة، نفس مشغولة تلظم الاحلام وتوثق المشاريع وتفتح الأفق، تتدثر البسيط الأنيق سافرة في وجه الحجب والظلم وما يكبل ؛ يقيد النساء أن يكن هن، حميدة العنيزي تحث الخطى في الثلاثينات في الاربعينات في الخمسينات وحتى في الستينات في الشارع دون كلل. قصيرة القامة طويلة الرقبة مشرئبة حميدة طرخان من عرفت باسم عائلة زوجها، موجودة بذاتها دون عون دون أحد مفردة بصيغة الجمع، عند ناصية الشارع واقفة مع رجل مطربش في جدال ساخن، رقبتها تطال وجهه وهو يحنى رأسه صاغرا أمام عناد المورية قدحا. عند الناصية التي يصطدم المرء بها قرب مبنى البلدية حيث أخر عمود من عمدان الاقواس الرواسخ في الشارع الحمالات منازله ؛ الجيد العريض عند المنكبين، يضيق العنق عند السقف، هذا الوتد موثق الشارع، عصية تتقن عملها وتقلق بطريقة مرضية على المستقبل، وبعد كل حساب تجمع همتها لأجل جمع النساء، وأن لا عاصم اليوم من نهضة النساء، ورؤيتها للواقع غالبا ما التقت بالواقع نفسه، ولو أن حميدة العنيزي بعثت من جديد لتحققت من ذلك لأن الجميع سيجرون نحوها متحققين من أنفسهم فيها، وذلك رغم أن المجتمع ؛ مجتمعهم الذي يعيشون فيه يخفي عيوبه بعناية، وأنهم لا يحبون التطلع لمرآة: كل شئ بنقيضة يتضح، نحن النساء يقع على عاتقنا الدور الأقسي في كل المعارك لأنه الأكثر تواضعا ؛ الرجل يقوى عوده في معاركه مع العالم الخارجي ورؤيته للأعداء، حتى ولو كانوا فرقة، تكسبه طاقة، بينما نحن نبقي في البيت نرقع الجوارب. خيل لى أن المنصت اليها حسين مازق والى برقة لكن من بجانبي تدخل مصوبا في مخيلتي بأنه محي الدين فكيني رئيس الوزراء، وعنادا فيه جعلته حوارا ساخنا مع الشاعر أحمد رفيق المهدوي تأمره أن يكتب قصيدة تنادي بحرية المرأة. أعطته بظهرها معنفة، غامرا جسدها النحيل الجمع الذكوري الذي يصبغ الشارع حيث مشت واثقة الخطى ملكا لا يألوا جهدا، نافرة ممسكة بيد خديجة الجهمي، عابرة الشارع بخطوات ثابتة ومتيقنة حميدة طرخان القريتليه سليلة كريت: آه يا طين كريت القاسي، لقد انزلقت كومضة فريدة تلك اللحظة التي اعتصرت بها وتشكلت في هيئة انسان مكافح، لقد جبلت بالدم والعرق والدموع، أصبحت وحلا، أصبحت انسانا وابتدأت صعودها.
أصعد الشارع في اتجاه ميدان البلدية ما قبيل وصله يقطع الخيط طول رقبة قصر حمد الشارع ؛ الشارع الذي يربط عمر ابن العاص بالبحر هنا أتريث ؛ متمهلا أتأمل فصاحة عمر المختار وزدرائه لهذا العبث والاهمال، وكل ما يطال الشارع، الذي علي يمينه في مدخل شارع قصر حمد يقبع المقهي الصغير منزويا عن المارة العجلة، كأنه يخفى كينونته: أشبار طوله وأشبار عرضه وصاحبه العجوز لم يعد يفتح بابه يوميا، مبنى من منازل ليبية هرمت وطالها مبدا ازالة كل قديم، كأنه يكظم غيضه من فيض أهله: من زاد خجلهم من قديمهم عن كل حد وصواب، من مسهم شيطان طائش، وزادهم غرورهم فلم يعد حبيبهم الحبيب الأول. ويقطع خيط الوصل هذا هدير وزائير، دخان يسكب في المشهد فيلوث المكان بسخمه، تندلق مراكب حديدية كورية ومن كل طرز متهرئة جلبت من جبانة سيارات أوربا ولطخت الحياة. يزم عمر المختار شفتيه ويتغضن محياه عند تقاطع شارع قصر حمد ؛ حيث يتمخطر السوقة سائقي الحديد البائد زاهين كما الباعة بكل بائت بخس. أسحب النفس من غيضها ومن قض وقضيض المشهد ؛ متفرجا على دكانة التحف قبيل التقاطع الذى أعاق تواصل المنظر، لقطة: تحفة قناع أفريقي أبنوسي يرقص في الواجهة، تمساح ممد قدامه يرقب جلد خروف ناعم، قطع: عاج يسيل خلف سياج الزجاج وعيون ثعلب جاحضة تبحث عن منفذ، المنظر ريان بالتحف والجيب جاف وجافل عنها والنفس تواقة: اللى ما يشرى ايتفرج لسان حال من يقع تحت طائلة نظر البائع.
حلقت بعيدا عنى ؛ جميلة تكسر المنظر المستلقي بين عيني، تنحشر بينى والشارع، لا بد أن أتغزل فيها: أن تكون أجمل النساء، أن عينيها فجر النحل، أن شفتيها الشفق، أنها مشمش الصباح، الجميلة الملكة تمخر الشارع حيث الاوهام حقيقتنا التي نحلق شعرها، الجميلة تشع عن ابتسامة ماكرة فيها سحر لا يخيب وهي ترى عنق الشارع يلتوى ولسانه يمضغ الكلام، ولجسد الجميلة التي تشق الساعة الشارع نصفين جل الكلام، هذا الجسد الذي يحتشد دلفينا مدربا ليختبئ خلف قفطان أسود، الشارع يرتد عن نفسه ويمنحها مساحة اضافية وللنوارس رثائي ولأمي الفجيعة. يغني ولد في زاوية المشهد، عبدالوهاب قرينقو في زاوية المردد ؛ أغنية مشتهاة، غير متوقعة، تنبثق صدفة من فضائية باهثة.
عمر المختار يبتسم والشارع ينفسح عندما أجتاز المفرق، عند الجزء الأخير بالقرب من مطلع ميدان البلدية، عند محل المفتي، عندئذ طفل يقعمز ؛ ظهره للدكان، وجهه مرقب، والعيون فاحصة: خير يا ولدى امحمد ؛ أحد المارة يلقي السلام على الطفل المشغول عنه بوقائع سنوات الطلع، يتطلع أمامه ؛ العين كاميرا ملقاط ما ترى الأذن ريكوردر ملقاط ما تسمع: وجوه أجانب حمر وبيض ولغات أجنبية طليانية وانقلزية، سيارة كاديلك تنحشر في بطن الشارع يتغيا سائقها أن يلتف بها وسط الشارع غصبا متمظهرا، بدل أن يدخل الميدان وهناك يبدل اتجاهه، رجل فيه قصر وبدانة يندلف من الباب المواجه لمقعد الطفل ليجلس في مقعد الكاديلاك التي تنطلق مطلقة غبارها ؛ صالح بويصير من نزل من المبنى وركب السيارة من كان في انتظاره السيد محي الدين الشريف. ذاك المبنى أنذاك، مطلع الخمسينات، مقر جريدة ؛ جريدة الفجر لصاحبها ورئيس تحريرها صالح بويصير من في تلك الفترة هرب من البلاد متلحفا بلباس امرأة عقب أن اغتال صاحبه محى الدين أحد رجال البيت الملكي رجل السلطة الشلحي. الطفل غادر مقعده لمقعد طب الجراحة، الدكتور محمد المفتي أرقبه هذه الساعة بالكاميرا يصور الشارع ركنا ركنا ويكتب وقائع البلاد ويحلل أحلامها.
نزوة المدينة.. الجنون الغامض!
بعيد ذلك بقليل قبل أن يتلاشى الشارع في الميدان، ثمة دكاكين صغيرة للخيوط والابر وحاجيات الخياطة، غيره للملابس العربية من طواقى وسوارى وسراويل، يلفت انتباهي صغر المحلات، كأن المهندس وجد مساحات زائدة في المخطط فأراد حشرها وسط السوق الذي يمتد على طول الشارع ؛ فقد تؤدى غرضا مختلفا عن بقية المحلات، وفي ذلك تشبه جل الدكاكين من الطرز الليبية المعتادة في غير مكان من المدينة.
الشارع مسفلت ومغلق في وجه السيارات لكن هذا لا يعجب ؛ أل المدينة لا يعجبهم العجب و لا قانون.. !. تقطع طريقي عجوز سوداء كمشة عظام ووجه التغضن، عصب مشدود يقبض على معصم العصا التى يتوكاء عليها: كوشي.. ياليبيا، تطلق الكلام وتثنى بالزغرودة، أشم الفول وأرى مخيالى معباء ببخاره، تفتح العجوز القفة وتناول طفلا كمشة فول مطبوخ وتأخذ منه نصف القرش ثم تطلق زغرودة، أتصور أن المشهد ناقص ومختل أستدعى شخصية حيوية، قصير، القامة منحنية، أسمر أو كأنه فحم مبيض، الاعصاب تشكل ملمح عام لوجهه وعنقه، يقيس الشارع بالاشبار ثم يعيد قياساته كل يوم صباح مساء لا يكل و لا يقتنع بما نتج من قياساته، الاطفال خلفه من ركن لشارع لميدان: عيسى خناق أمه عالعصبانة، عيسى هذا وزميله شركة هم نزوة المدينة بجنونهما الغامض.
شعب عربي واحد، جيش عربي واحد، ناصر ياحبيب الشعب يا ناصر، صوره صوره كلنا ح نطلع في الصوره: ميكروفونات، حناجر، سواعد مرفوعة في السماء تتوعد، ازدحام، حشد يتدافع دفعنى بعيدا، مظاهرة تنطلق من ناحية مقهي الحرية تحت مقر جمعية عمر المختار، أعلام الجمهورية العربية المتحدة، وصور جمال عبدالناصر تحملها أيد سمراء متغضنة، وبعض من رجال السوق يصفق، على الشمالى صاحب القهوة يوزع المشروبات بورتيللو وأناناس وبرتقال علامة الدنيني سينالكو بارزة على الزجاجات، شارع عمر المختار يختنق بما فيه ليصب في الميدان ما عنده يلهث جسدى، البوليس يواكب ويأطر المشهد والصحف المحلية، الزمان، العمل، برقة، الريبورتاج، الحقيقة، البشائر، الرقيب، صن دي قبلي، سرينيكا ترقبه. فلاشات متتابعة ترصد كل ما حدث أنذاك، أسوح فيما رصدت وما طالعت من يوميات الشارع الزاخرة بالتفاصيل: في موريللا، المسافر مدعو إلى زيارة المدينة، وفي الوقت ذاته، إلى تأمل البطاقات البريدية القديمة التي تمثلها كما كانت من قبل: الساحة نفسها، وتبدو فيها دجاجة حيث أصبح، الآن، موقف الباص، ومنصة الموسيقي في مكان العبارة الصغيرة، وسيدتان شابتان بمظلتيهما البيضاوين في مكان مصنع المتفجرات. ومن اللائق، حتى لا يخيب سكان المدينة، أن يمتدح المسافر المدينة..
لا تقاطعنى سأتى على النص أولا..
قلت سأتى لقسم الصحافة المحلية..
– دار الكتب لن تطير كما طار الحمام.
أن يمتدح المسافر المدينة، كما هي مصورة على البطاقات البريدية، ويفضلها على المدينة الحاضرة، على أن يحذر من إبداء أسفه على التغيرات الحاصلة في حدود معينة: على المسافر أن يعترف بأن عظمة موريللا الحاضرة، المدينة الكبيرة، وازدهارها، إذا قورنت بما كانت عليه موريللا القديمة الريفية، لا تعوضان اللطافة المفقودة. ولو بقيت موريللا على حالها، لما رأينا إلا الأقل القليل من جمالها. وعلى أية حال أصبح لهذه المدينة الكبيرة مثل هذا السحر الإضافي، و لا يمكن التفكير، بحنين إلى الماضي، فيما كانت عليه إلا من خلال ما أصبحت عليه الآن.
حاذروا جيدا أن تقولوا لهم بأن مدنا مختلفة تتعاقب، أحيانا، على الأرض ذاتها، وبالأسماء ذاتها. تولد وتموت دون أن يعرف بعضها بعضا، ودون أن تتواصل أبدا فيما بينها. ويحمل السكان أحيانا، الأسماء ذاتها، واللهجة ذاتها، وحتى ملامح الوجوه هي ذاتها، ولكن الإلهة الذين كانوا حملوا تحت الأسماء، وعاشوا فوق الأماكن، قد رحلوا دون أن يقولوا شيئا، وحل محلهم غرباء، ومن العبث أن يتسأل المرء إذا كان هؤلاء أفضل أو أسوأ من الآلهة القدماء ؛ لأنه لم يكن بينهم علاقة. وبالطريقة ذاتها، فالبطاقات البريدية القديمة لا تمثل موريللا كما كانت، ولكنها تمثل مدينة أخرى، كانت تسمى، مصادفة، بنغازي أيضا.
اللعنة على أرشيفك، انظر ما وجدت..
وجدت ضالتى عند الروائي الإيطالي إيتالو كالفينو في: مدن الخيال.
لم يتخذ شارع عمر المختار من المكتبة زاوية، كما لم ينحشر بين دفات كتاب ؛ كان طليقا، ترتاده حينا النوارس التائهة عن البحر، حينا آخر ترتاده زوبعة جافلة عن النوارس. ولأنه حلقوم بنغازي فكثيرا ما يغص بالذكريات وتخنقه العبرات، وان لم يدمع فإن الامطار تغسل عن محياه الكآبات الشتوية حين ينفض عنه رواده وعاشقيه، وان تقوس ظهره فإن عوده مشدود، وان النظر كلَ في محجره ميدان البلدية وقلة من عبر فإنه مرهف السمع يشده الايقاع الضاج لميدان الحوت ؛ الطبل للشارع الوترى.
كمان المدينة شارع عمر المختار الهامس بما في الشغف ؛ شغاف بنغازي. في الزاوية عند نهاية الشارع ملمح وجه لم يتشكل بعد في اللوحة، محمود الحاسي يضع لمسة من فرشاته في اللوحة التي على المسند، في الجانب الأيسر منه رسامة ايطالية، تضع اللمسات الأولي للوحتها في شارع عمر المختار حيث ارتكنت زاوية تطل منها على مبتغاها الجامع العتيق، المارة يرمقون ذلك على عجل، تبدو عليهم علامات التعجب لما يفعل الرجل والمرأة الاجنبية من جنون. جن الشارع بمريديه وجننت به، الساكن فيه، الماشي، ما مضي، ما يطرى، لايحدث لأن الشارع سادر في غيه عما يسألون، منفرد عن المسافرين فيه، غاف في اصغاء للحالمين ممن لم يستسلموا لغواية بيع أرواحهم مقابل المال: همس الشارع في أذني، وهمست غريبة هي مدينتهم الجديدة المبنية بحجارتنا العتيقة، همس هل سمعت بمثل يقول أن طائر الحسون يقدم إلى صغاره المحبوسين في القفص عشبا ساما، فالموت عنده أفضل من فقد الحرية، همست من فينا طائر الحسون وهمس القادر أن يحلق.
أصغيت خلفى خطوات تطرق الفسحة بين أقواس الشارع والمحلات، همس لا يموت الناس إلا من الكسل ومن الحاجة إلى الإيمان، والفشل في جعل حياتهم تستحق العيش، قلت للشارع في عينيه أنت شخصية معذبة قلقة، في عينيه قلت أنت السيرانة ؛ لك رأس امرأة وجسم طائر تسحر الملاحين بغنائك فتوردهم موارد التهلكة، أنت حنين لعالم في طريقه إلى زوال فقال أنت تعلم أن كل شئ فينا يبحث عن أوله وانى أمقت الادعاء والدجل، دونك ميدان البلدية مقبرة وان تكن لا تريد قبرا فكن قبرة بديلا عن الساعة ؛ ساعة الميدان التي ماتت عقاربها ولم تعد بالتالى تلسع، ولا تحس لسع الوقت كما أحس، وأعلم – كما صحبك صحب الريبة قادر أن يكون لك في أي شئ ريبة إلا في الوقت الذي داهمك، والساعة الميتة لن تسعفك.
يكون شارع عمر المختار فم الميدان ان انحرفت لشمال ترافقك الاقواس في هذا المنحرف ؛ هنا كانت قرطاسية، ان انحرفت لليمين ترافقك الاقواس حيث كان البنك العربي والآن الشرطة السياحية، قبلتك الجامع العتيق والشجرة التي تغطيه بما ورفت وطالت سامقة تشتهي أن تكون مظلة الميدان جملة. عندها قف وقفة متأمل، وقفة المباغث ؛ وقفة من غطته السماء واتسعت عبارته، بعد أن ضاق بالعبرات، في منزلق عمر المختار من مشى في هذا الممشي قبلك مسلسلا وتصنت صدى السلاسل يرن في أركان الميدان، ان وعيت تسمع، وان ما سمعت في الزمن بينك وبينه ممشي نصف قرن وعشرين عام وعام، فإن كنت ما تكتب الساعة في العام الثاني بعد الألفين فإن ما تسمع حصل في العام الحادى والثلاثين بعد التسع مئة وألف ميلادية، تمطق فما حصل ذاب في هواء المحيط وسكن، وانظر قدام حيث مبنى البلدية وان فعل به الزمان ما فعل فإن استنطقته ينطق، تلمس في الحائط صرخات تنبض بما حدث، عبق المكان تنشق: يا ويحهم نصبوا منارا من دم. يسيطر على التحفز والاثارة، و متيقنا أن ثمة منارة يلوذ بها الأفراد المتوحدون، وأن اليقظة زوال الحلم من الوجود، ألج الميدان. ولد ساعة ولدت المدينة، هو في القدم قدم الجامع العتيق وكأن الجامع جمع الناس للصلاة، وككعبة جمع بنيانهم، فكان الميدان، الذي هو الصرة، التي هي محل البلدية، البلدية التي هي سلطة المدينة وعمدتها: عند منتهى شارع عمر المختار شمالا، تحت الاقواس، في الزاوية محل صغير، ثم شارع أصغر في طول العمارة ؛ ما تفصل بينه وبين الشارع الخلفي للميدان، حيث كان ثمة معبد اليهود، تترك الشارع ثمة محل اثنان وثالث.. ثم شارع مثل سابقه عبارة عن خرق يفصل بين لحم العمارة فيجعلها اثنين، اذا ما تعديت الشارع ثمة صيدلية، قوس بين قوسين، على أرضيتها تاريخ انشائها، صيدلية الفلاح سابقا، ما يملكها الآن جمعية الهلال الاحمر، بعد الصيدلية محل خياط ومطعم صغير، اترك ذلك ولا تفحص المكان ؛ لم يعد ثمة مقهي العرودي حلقة رواد الثقافة الحديثة ونخبة المدينة، التي كان في الشارع الثالث المنفلت من زاويتها مطعم بوعشرين ما افتتح في عام 1925 م وتحت صورة التقطت لهذا المطعم أنذاك ونشرت بمجلة الجغرافية الوطنية البريطانية علق هاريت تشالمرز أدمز: حينما تكون الحركة التجارية رائجة في عاصمة برقة فإن الاطفال لا يختلفون عن غيرهم في البلدان الأخرى من حيث شغفهم في استبدال بعض النقود المعدنية بالحلوى، وأصحاب المحلات لا يسعهم إلا أن يرحبوا بذلك ؛ المحل متران في متر محشور في المكان ظاهر فيه كما البدر حيث أكلت السفنز والزلابية والمخاريق، حيث تذوقت للمرة الاولى الفول المدمس والطعمية ؛ لصاحبه الحاج حمد محمد الداحومي الأوجلي 1862 – 1947 م من ورثه ابنه سي محمد بوعشرين من ورثه أبنائه من هم الآن يملؤن بما تراكم من خبرة المدينة بمحلات بوعشرين حريصين على مهنة الجد، ولن ترمى النظر قدامك: لم يعد ثمة سوق الظلام ؛ لقد تم هدمه، فلا حول و لا قوة إلا بالله. وان كنت قبالة ما كان يوما سوق الظلام منذ القرن التاسع عشر وحتى نهايات القرن العشرين فإن ما يجانبه مثل خيال مآته هو أقدم جوامع بني غازي، أما ما يجانب الجامع فقد تم ازالته ؛ حول إلى مكب الكناسة وهو فضاء الرمل، فلا تتحسر لم يعد ثمة شارع سيدي سالم، ولا فنادقه الصغيرة ؛ منازل الحبيب بورقيبة ومن هرب من رجال جبهة تحرير الجزائر ومن ومن.. من تذكر ومن تنسى، في الجانب وأنت خارج من الجامع العتيق مبنى المصرف التجاري الوطني ؛ هو مبنى حديث لكن حافظ على أن يكون طرازه من طرز الميدان فكأن مبنى المصرف حياة في مقبرة، أذكرك أن مكانه كان مبنى سينما تسعة أغسطس وكاراكوز بازامه ما جانب مبني البلدية وهنا مربط الفرس: كنا جالسين بمقهي الميدان على كراسي مريحة، تحت أقواس مرتفعة، وأمامنا ميدان البلدية المتسع الفسيح وكان الجو صحوا والطقس حارا، وقد هبت ريح الجنوب طول النهار ؛ انذرت الناس بقدوم فصل الصيف الذي لا يخلوا من خيرات، وان كان مقلقا في غالب الاحايين. ولاتزال تهب ريح خفيفة، والشمس كانت ترسل وهجا أخذ يتناقص بعد أن غادر قرص الشمس الساطعة الملتهبة كبد السماء. يشعر جميع الناس بنوع من القلق ويشعرون بأن ثيابهم أمست ثقيلة على أكتافهم، يتمنون لو اتيح لهم سلحها والتجرد عنها. لقد كان معظم مشروب الناس في المقاهي لمدة يومين القهوة والشاي، وهم الآن يطلبون المرطبات والمبردات.. هذا هو ميدان البلدية: في الجهة الامامية دار البلدية الضخمة ؛ على طراز شرقي أفريقي جميل، في الجهة الأخرى سراى فخمة بها ثلاث طبقات، بعدها طريق كثير الازدحام ثم البناء الشاهق، الذي باسفله المقهي الجالس به مع بعض الاصدقاء، ومعنا استاذ ايطالي ذو لحية مغرم بتعلم اللغة العربية، أدى ذلك إلى ان استفرغت جلستنا البحث في مسائل تتعلق باللغة العربية من حيث الصعوبة والسهولة، ومن حيث انها سماعية أكثر مما هي قياسية خصوصا الجموع المكسرة … أما في الجهة الشرقية من الميدان فهو الجامع العتيق أو الكبير كما يسمونه ؛ به قبة عالية بجنبها مئذنة اسطوانية تنتهي بمخروط عليه هلال من نحاس، وقد اسس هذا الجامع عبد السميع القاضي حوالى سنة 1500، ثم جدد بمال أوقفه سالم باشا المحيشي. ميدان البلدية مستطيل ليس به حوانيت كثيرة ؛ حيث أن معظم الابنية المحيطة به هي معدة للدوائر أو المحلات العمومية أو منازل للسكنى، ولذلك فحركة الدوران فيه وخصوصا في مثل هذه الساعة الجالس فيها أنا بالمقهي هي قليلة. وربما أثر الحر في اجتماع الناس كما يؤثر على أجزاء المادة فيجعلها تتباعد وتمتد وتنتشر … ليس هناك أناس كثيرون: أمام الجامع نحو عشر عربيات مصطفة تنتظر من يشغلها ولكن بدون جدوى، ويتفرس كل عربجي جالس على مقعده في أعين المارة ؛ لنقل من يرغب في الاسراع فيركب عربته فتطير به كالرياح، ولكن المارة يمرون بجنب العربة والعربجي، وينظرون اليه وإلى الحصان ويواصلون سيرهم. ان خيول العربات ليست بادنة كثيرا، فهي مطأطأة الرؤس مغلقة الجفون، وربما كانت تفكر في اصطبلها النظيف وعلفها الجيد، تنتظر ساعة تخلصها من هذه السيور والقيود لتمرح كيفما شاءت، وربما كانت الساعة المنتظرة قريبة. دقت ساعة البلدية المنيرة: الساعة الثامنة مساء، فودعني رفقائي وانصرفوا، وبقيت وحيدى جالسا على المقعد ومتكئا إلى الوراء، ووضعت طربوشي على ركبتي، وبقيت أراقب الميدان: هذه سيدة تقود عربة صغيرة بها ابنتها اللطيفة وربما كانت قاصدة بيتها ؛ هذا طفل رث اللباس يجرى و لا أدرى إلى أين، بينما هناك أمامى شاب طويل القامة نحيفها أخرج ظرفا من جيبه، فتأمل في عنوانه ليتأكد منه، واقترب من صندوق البريد الجوي فوضعه فيه وانصرف. وربما كانت تلك الرسالة لحبيبته يبثها فيها أشواقا وحنينا، وربما كانت لوالدته – يظهر لى أن الشاب ليس من سكان البلدة الأصليين – يسليها ويعدها قرب اللقاء ومن يدرى ربما وربما وربما …… دقت الساعة التاسعة ؛ فنظر اليها أحد العربجية وجلد حصانه وسار ببطء، وربما كان على موعد مع أحد زبائنه، وربما كان قلقا طول الوقوف، فسار على بركة الله وفي كل حركة بركة. أصبح الميدان خاليا تقريبا الا من أفراد قلائل ؛ ليس لهم اتصال متين بالمنزل مثلي. كانت الساعة التاسعة والنصف، فهبت عاصفة ريح حلزونية بالميدان، ولكنها ليست جنوبية كريح النهار فهي شمالية باردة، في انقلاب فجائى، اننا في آخر مارس، وكثيرا ما يداعب هذا الشهر الناس على هذه الصورة ؛ لقد أحس الناس بنوع من القشعريرة واستمرت الريح في هبوبها، وأخذ جريد النخيل المغروس على حافة افريز الميدان يهتز، ويصعق بعضه بعض مكونا صوتا خاصا يدعو إلى الوحشة، هناك سيدة تغلق نافذة بيتها ؛ بعد أن كانت تستنشق الهواء.
لقد برد الطقس وبالبرودة تتقلص الاشياء ؛ فلا يسعنى إلا أن أتقلص أنا أيضا، وأرجع إلى بيتي، فدفعت ثمن ما شربته، وتقدمت على افريز الميدان، فلاح لى القمر مضيئا من أعالى السراي التي أمامي، وقد أرسل أشعته الجميلة الفضية، التي طالما تغنى بها الشعراء على طول الاجيال وفي جميع الاقطار ؛ على قمة المئذنة وعلى أعلى قبة الجامع ؛ رأيت وجهه الصبوح عليه ابتسامة ؛ ربما دلت على استهزائه بالانسان الذي ينتقل به من البرد إلى الحر ومن الحر إلى البرد على غير ارادة، وربما دلت على معاني أخرى لا يفهمها إلا الشعراء، ولست منهم ؛ وربما دلت على معاني لا أفهمها أنا و لا يفهمها الشعراء، ولكن يفهمها الفلكيون المنكبون على آلات الرصد ؛ القائلون بأن البقع التي على وجه القمر هي جبال وأودية لا كما يقول الشعراء تقاطيع وجه متناسق أغر، و لا كما يقول علم البيان أنها ما شبه به في جملة أنت كالقمر أو كالبدر بجامع الحسن في الكل.
والذي أعرفه أنا هو أن ميدان البلدية بان مغمورا بذلك النور، فاكسبه لونا جميلا فاتنا، جميلا ساحرا، ولذا فإني أجاري الشعراء وأقول أن وجهه أغر صبوح يشبه الحبيبة أو الحبيب، سلاما أيها القمر وهيا إلى البيت.
لم الفت انتباه أحد ؛ حين اندسست بقرب الطاولة التي يجلس عليها الشاعر أحمد رفيق المهدوي ورئيس تحرير مجلة ليبيا المصورة عمر فخرى المحيشي والدكتور محمد الفيتوري، كما لم ينتبه أحد؛ وهم يصغون كما أصغى محبوس الانفاس للكاتب الصحفي مصطفي السراج يقراء لهم ما كتب، أمر رئيس التحرير ببعث المقالة فورا إلى المطبعة، وأن تسلم باليد لعبدالله الجهمي كى تجمع المادة على عجل لتنشر في العدد القادم ؛ السابع من السنة الخامسة ربيع أول 1359 هـ / أبريل 1940 م.