سرد

رواية الفندق الجديد: الفصل الحادي والعشرين

من أعمال التشكيلية شفاء سالم
من أعمال التشكيلية شفاء سالم

ذاكرة المجني عليه

5 – الشاهد الأول (داود)

ويستمر محفظ القرآن الكريم (محمد) في سرد تاريخ منطقة غوط الأوادم لأحفاد العائلة، بينما كان الحفيد

(علي) من بين كل الأحفاد هو الأكثر تأثرا وكان يزداد غيضا وكرهاً من جراء سلوكيات عائلة الأدارسة جيلا بعد جيل، والتي لا يعاقب أفرادها بالسجن ابدا نتيجة وجود أفرادا من قبيلتهم في مراكز الشرطة كافة.

يستمر (محمد) في تمرير وصياه الي الأحفاد، ولم يدر بخلده أنه سيثقل كاهل وعقل الحفيد (علي) الذي سيصبح كمخزنٍ متحرك لمعلومات جلها كانت ضد عائلة الادارسة الأبالسة المجرمين، فينعكس علي تصرفات وسلوكيات المسكين (علي) والذي صار لا يتقبل وجود أبناء الأدارسة وأحفادهم من حوله، فيتفطنون لمدي كرهه لهم وازدراهم لهم، وبالتالي سيشرعون في عمل تدابير من شأنها التخلص منه، فهو بمثابة الشاهد الوحيد، شاهداً علي ما اجرموه في حق البعض عبر تاريخ المدينة مدينة رباية الذايح (بنغازي).

 تصل الان حكاية سباق الحمير الي مسامع الأحفاد، فيذهب تفكيرهم الي تلك الأيام والتي يتبين أن(سي إدريس بوشرفيدة) و(سي سعيد بوشملة) و(سي مفتاح بومضغة) و(صفوان) أحد أبناء (سي إدريس بوشرفيدة) أخذوا علي عاتقهم إقامة سباقا سنويا للحمير والبغال في هذا الغوط ومن خلاله سيزيلون شعور الرتابة والملل بين اولاد الحي وستكون فرصة من خلال ها اليوم التنافسي الحافل أن يسوقوا منتجات الغوط الزراعية وغيرها من بضائع تمتلي بها دكاكينهم.

…هذا كان هو السبب المًعلن والذي من أجله زعم أفراد عائلة الأدارسة أنهم يقيمون به السباق، لكن السبب الحقيقي هو رغبتهم في التشويش علي مسابقة تحفيظ وتجويد القرآن الكريم في المسجد وفي الزاوية الصوفية، والتي كانت تنظمها عائلة الأوادم علي مدار الأعوام.

…. تلك الزاوية التي سمحت المملكة ببنائها في مدينة بنغازي كغيرها من الزوايا التي بنيت في جميع مدن المملكة الليبية.

…في هذه اللحظات وصلت سيارة سيدي( جبريل) بركابها التسعة الي غوط الاوادم، وقد كان (سعيد بوشملة) في استقبالهم وعلي الفور، أوصي بتوفير الراحة للقادمين الجدد، فأخذ (خميس بومضغة) الأولاد الضيوف الي حيث بُنيت زراريب من اعواد القصب اليابس والديس من اجل مبيت وإيواء هذه المجموعة الراغبة في مشاهدة سباق البغال والحمير المُعتزم اقامته مساء غد ذلك اليوم.

…الكل يسعي بقدم وساق لإنجاح السباق…

…وذهب حديث الذكريات صوب الاسكودرية (1) الكبيرة حيث كان (صفوان) يتواجد ليطمئن علي صحة البهائم.

…«هذه الجحشة ستفضحني يوما من الأيام»

عبارة كان يرددها « صفوان « كلما فعل فعلته الشنعاء بالجحشة البيضاء التي يخبيها في حضيرته، ..حضيرة البهائم والكلاب، فقد كان يبيع ويشتري في البغال والحمير.

لكنه اهتدي الي أن يستدعي (داود) ابن سي (ادم)، فهو شخص يحب الحيوانات ويعطف عليها ودائم الاعتناء بها، وكل البهائم تتوجه اليه عندما يشتمن وجودهن بقربهن، وكأنهن يشتكن اليه والأحاديث والحكايا والشائعات تنتشر من حوله بأنه تارة يتلبسه الجن، وتارة أخري أنه ساحر، لكنه كانت له القدرة ويجيد التحدث مع البهائم اللاتي يشتكن اليه، فيحل مشاكلهن ويعودن إدارجهن وهن مفعمات بالنشاط والحيوية، ولان (داودا) دأب علي قراءة الكتب الصفراء والتي مكنته من فك طلاسم وخفايا الأمور التي تصيب البهائم، فهو يفهم طرق وأساليب السحر والشعوذة !!

….ولكن ماذا لو اشتكت الجحشة البيضاء الي الجن الذي يتلبسه بأني زنيت بها؟

 سؤال كان يتردد في ذهن (صفوان) بينما كان ذاهب لاستدعاء (داود) الي الحظيرة.

صفوان:

يا سي (داود) الحق عندي امشيكلة بسيطة في الاسكودرية نبيك انجي معايا الله ايربحك.

حيث قال بما معناه:

حقيقة يا (داود) أنا لدي مشكلة صغيرة في حضيرة البهائم، وأرغب منك الحضور معي لتعاين المسائل.

سي داود:

حسناً فقط أخبرني بالضبط شن مشكلتك يا صفوان؟

حيث سارع داود بالسؤال بما معناه:

حسنا أخبرني بالضبط ماهي المشكل يا صفوان؟

صفوان باللهجة الليبية القديمة:

عندي الجحيشة البيضاء شوره متعدي عليها بغل ابتاع واحد من المتسابقين، وشوري غفلت عليه ومربطاش وتركته يسرح في الاسكودرية، وباين عليه ادلفه(2) للجحشة البيضاء،

فخلاها طول اليوم راقدة امغير اتنعر وتلوي اتقول خابطها جن.

صفوان يجيب داود بما معناه:

لدي الجحشة البيضاء اعتقد أن أحد البغال القادم للتسابق غدا، ولأني غفلت عن ربطه وتركته يتحرك دون قيود في الحضيرة، وبالتالي أنا أرجح أنها تعرضت للزني من ذلك البغل، مما جعل الجحشة طوال اليوم مرتخية ومرمية علي الارض وصوتها يصدح بالنعير، وكأن هناك جنا قد لبسها!

داوود:

يستر الله هيا نا ماشي معاك، وأخذ القفة وذهبا الاثنان سريعا الي الاسكودرية

داود يقول بما معناه:

يا رب سترك يا رب.. هيا بنا نذهب، واخذ ما يستعمل كحقيبة كانت مصنوعة من تشابك سعف النخيل، وذهبا الأثنان الي الحضيرة.

….ولكنه وعند مدخل الحضيرة تعثر سي داوود بقطع من ثياب لاحدي الفتيات، كانت مرمية خارج الحضيرة، انحني اليها ليزيلها، فاذا به يستشعر وجود وريقات وثمة رسالة بها الكلمات الخطيرة التالية:

سيدنا داوود

نحن بنات الأصل والفصل، نكتب اليك لأننا ندرك أنك ستتعثر بثيابنا هذه يوما من الأيام، وكتبنا لك هذه الرسالة لتقرأها الأن أو غدا أو بعد عشرات السنين !!.

…نحن بنات وفتيات البلد ولدنا من عشرات السنين أو سنولد بعد عشرات السنين!!

….نحن بنات وفتيات عرب محترمين، تقدموا لأهالينا عائلة إدريس بو شرفيدة لتزويجنا لأولادهم، لكن اغلب أولادهم، ليست لهم قدرة علي ممارسة النكاح الشرعي والذي هو حق من حقوق أي زوجة، لكن الأم في بيت عائلة إدريس بوشرفيدة، ومعها بناتها تجبرنا علي تقبل فكرة أن يكون أحد أخوة الزوج أو أب الزوج هو من يحل محل أخوه أو يحل محل ابنه الضعيف جنسيا في مسألة الممارسة الجنسية الشرعية مع ازواجنا فقط، مرددات عبارة مكررة لمحاولة اقناعنا بالفكرة حيث يقولن لنا:

خلن زيتنا في دقيقنا!!

مما أصبحنا نلد وننجب من أخوة أزواجنا في مرات كثيرة، أو أبناء أخوة أزواجنا في مرات أكثر أو ننتحر كما أنتحرنا نحن وتركنا لك هذه الرسالة في ثيابنا هذه.

وحتي بناتهم المتزوجات من خارج عائلاتهم أو المطلقات أو الأرامل، يتقبلن فكرة أن يباشرها أخوها أو أبوها عن طيب خاطر وتراضي !!

وفي الختام سيأتي يوما علي مدينتنا، وتنتشر فيها مسميات جديدة كـ (عمو بابا، وجدو بابا، وخالو بابا )، وستظهر بين الحين والأخر، عبارات غامضة يطلقها الدراويش في ميادين وشوارع المدينة، ك عبارة (أختك بنت مراتك من بتكون؟) وعبارة (كلنا أولاد أربعة شهور يا سادة )؟

والسلام ختام

والله علي ما كتبناه لك شهيد

التوقيع

بنات الأصول

…. سارع (داوود) بوضع الاثواب والوريقات الخطيرة، بداخل القفة قبل ان يتفطن له صفوان، ثم دخل الاثنان وبدأ (داوود) في تحسس بطن وساق وذيل الجحشة حينها التفتت الجحشة البيضاء الي سيدي (داوود) بعنقها الجميل، وهمست ببعض الهمهمات في اذن سيدي (داوود)

فقالت له:

ان هذا القذر يتعدى علي شرفي وارجوك ان تشتريني وتعتقني منه، واخبرك كذلك بأن هناك فتاتان سودانياتان يتم احضارهن بالقوة عند منتصف كل ليلة ليغتصبوهن بالقوة ويضربوهن ثم يراضوهن عند الفجر ويطلقون سراحهن حيث يتسربن الي بيتهن في اخر الغوط دون علم احد من والديهن.

…أما أنا ولأن لون جلدي أبيض ورموشي طويلة وعينيي جميلتين فقد علا وغلا سعري وتقاذفني التجار الي ان وقعت تحت يد هذا الشيطان، فأرجوك يا سيدي ان تشتريني منه وتنقذني وسادلك يوما علي بئر يقع غرب المدينة جنوب غوط العجاج، وهو يقع علي بعد مسيرة يوم من هنا وهذا البئر غريب جدا، فهو يتوفر علي الزيت الأسود بدلا من ماء الشرب الدافق.

ولقد أكلت بعض الحمير والبغال المجلوبة من أجل المشاركة في السباق القادم، أكلت اعشابا تنبت في الكيلو 58 جنوب غوط العجاج، أعتقد أنها صحراء غوط عائلة العجائبي، تلك الأعشاب تنمو علي بحيرة من الزيت الاسود الذي يخرج من الارض وكان سريع الاشتعال.

هذه الحمير مريضة الآن ولقد باشرت عائلة (إدريس بوشرفيدة)، بذبحها بعد شرائها بأثمان بخسة ويريدون بيعها من أجل طهيها كطبيخ المفروم بمطعم الفلوقا، ولتقدم لجموع المتفرجين علي السباق القادم.

انتفض سي (داوود) مذعورا من هول ما سمع صائحا اعوذ بالله منك يا (صفوان )واضاف:

معقولة يا ليد(3) !!؟معقولة توصل بيك هالمواصيل وتزني بالبهيمة ما تمشي تتزوج يا ليد؟

حيث قال (داوود) ممنتفضا بما معناه:

هل هذا معقول ايها الولد !!؟ ايعقل أن امورك تنحدر الي هذا الحد، وتتجرأ علي هذه البهيمة بالزنا؟! لماذا لا تذهب وتتزوج أيها الصبي؟

تجهم وجه (صفوان) وبدأ أكثر إرتباكاً، وتسربت منه كلمات استجداء بأن يغفر له (سي داوود) علي ما فعله بالجحشة هذه، فوافق (سي داود) علي ما طلبه لكنه اشترط ان يبيعه اياها فوافق (صفوان).

 وقد تم البيع شريطة أن يبقي الامر طيء الكتمان، وان لا يخبر اشقائه والاحفاد بداعي علاقة الجيرة والجوار.

صفوان يتمتم داخل طيات صدره بعبارة جديدة ولأول مرة والتي أصبحت مثلا شعبيا ليبيا لاحقا:

« تنـ….. والحمار مات! »(4) مثل شعبي ليبي.

صفوان يضيف بالصوت المسموع:

أرجوك أن لا تخبر احدا من اشقائك وخاصة (محمد) و(ابراهيم)، فهم سيحتقروني بنظراتهم والالعن انهم يوصون بقية أفراد عائلتكم، بالحرص علي عدم الاقتراب منا نحن ابناء (إدريس بو شرفيدة).

…تمتم (داود) بالوعود ان تبقي هذه المعلومات طيء الكتمان شريطة ان يكف هو وأخوته عن اثارة الشائعات من حوله بانه يتعامل بالسحر والشعوذة جراء فهمه بعلوم صحة الحيوانات والبهائم التي مكنه الله منها.

…هنا تحمس (صفوان) اكثر فاخبر (داوود) عن الكلبة المجرية التي زنا بها الأيام الماضية

واذته في قضيبه من جراء ذلك ولكنه اصر علي سجنها في زريبة صغيرة داخل الحضيرة.

صفوان:

اتعوي حتي هي الأخرى! يا ريت بالمرة اتشوف الكلبة المجرية اللي قاعدة جوا في الاسكودرية.

داوود:

انشاء الله حتي هي راحت فيها؟

داود بما معناه:

لحظة لا تخبرني أنك زنيت بالكلبة مثلما زنيت بهذه الجحشة؟!

وأضاف:

….دلفته ليها هي الأخرى؟

أضاف بما معناه:

هل زنيت بها هي الأخرى؟!

صفوان:

قالك راحت فيها هاهاها.

صفوان يرد بما معناها:

ها ها ها بدرجة اكثر مما تتوقعه هاهاها

داوود:

احكيلي كيف وامتا وليش وين وايصمة ومن وما هو؟

داوود بما معناه:

حدثني كيف ومتي ولماذا وأين وعن ومن وما هو؟

صفوان:

تعرف انت الوحيد اللي في ضنوة سي (ادم) جوه سمح معانا هههه

صفوان يمازح داود بما معناه:

هل تعلم أنك أنت الوحيد من دون بقية أولاد سيدي (أدم) تتمتع بطبع لطيف وأتقبله أنا وأخوتي

 داوود:

هاهاها عرفت ليش يا فالح؟

صفوان:

لا والنبي يا داوود !

لاني نفهم في الحمير والكلاب اللي زيك هاهاها

قاطعه (صفوان) بالقول:

امغير تعال بحت اشديقات الجحشة ورموشها ونظراتها رايحة اتقول بنت حشومية وتوا تغوي فيها حتي أنت ياداوود هاهاها.

….قالها (صفوان) ولم يدري ان الجحشة هذه لو لم يتعدي عليها ولم يزني بها أو لو عاملها معاملة انسانية من طرفه معاملة تليق بها كمخلوق يسبح بحمد الله مثل كل الكائنات، لباحت له عن مكان كنز الزيت الاسود والي ستخبر به سي (داوود) لاحقا ليصبح سي (داود) من اكبر الاغنياء.

واردف (داوود):

لأني أمستر عليكم، ونشوف في فضائحكم وعمايلكم الشيطانية، وقاعد ساكت ما ندويش بس لو يعلم خويا (محمد) اوخويا (ابراهيم)، حيشهدروا بيكم ياعيت (إدريس بو شرفيدة).

صفوان:

عارف عارف وانت فيك الخير دير الواجب واستر عليا الله يستر عليك فربي اموصي عسابع جار.

داوود:

لالا…ربي اموصي علي (سيدنا ابوبكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن ابي طالب جيران نبينا محمد)….لكن ماوصاش علي زناة الحمير والكلاب يا فالح أنت وخوتك.

لكن يسترني الله معاك وخلاص.


(1) الاسكودرية هي (المسمي القديم لحضيرة البهائم).

(2) (أدلف مفردة يراد بها معني كلمة زني بها)

(3) يا ليد لفظه ترادف عبارة (ايها الولد).

(4) يستعمل هذا المثل حين تتأزم الأمور فجأة. ولكنه مثل شعبي ليبي غير متداول بين الناس المحافظة المحترمة كونه يحوي لفظا خادشا الاوهو (تنـ…..) وهي كلمة مشتقة من حروف مفردة (فعل الزنا) والتي تعرف ب اللغة العامية الليبية (النـ…..).

مقالات ذات علاقة

رواية الحـرز (36)

أبو إسحاق الغدامسي

جزء من رواية (الكائنات)

الصديق بودوارة

الشَّجَرةُ المُحَرَّمَةُ

محي الدين كانون

اترك تعليق