غلاف رواية قصيل
قراءات

ما فعلته رواية “قصيل”

أجمل ما في الرواية بشكل عام، إنها بمعنى ما فلسفة، وأجمل ما في الفلسفة، أنها منبع الدهشة، وأجمل ما في الدهشة، أنها المحفّز الحقيقي الإبداع !و لذا، فالرواية السوية، ليس لها إلا أن تطرح الأسئلة بالأساس، الأسئلة التي تقود إلى الدهشة، الأسئلة الاجتماعية أو السياسية أو الوجودية، وليس بالضرورة أو ليس من صميم تكوينها (كعمل إبداعي) أن تعطي إجابات!.. وهذا ما حاولت أن تفعله  فيما أرى رواية قصيل للكاتبة الليبية عائشة إبراهيم.

غلاف رواية قصيل

الرواية، أي رواية، تحمل في جعبتها الكثير من الأنانية، هكذا هي، لكنها تمارس أنانيتها باقتدار، حتى في مظهرها الخارجي، فالرواية عادة وبحكم تكوينها وبنائها الفني، ومساحة الورق والزمن اللذين تحتاجهما، تجبرك على قراءتها بمفردك، وبمعنى ما، أن تكون متفرغاً لها لوقت طويل أو لأوقات متعددة، عكس القصة القصيرة أو القصيدة، التي يمكن أن تقرأها وحيداً أو مع آخرين.

وقد خطر على بالي وأنا أدوّن هذه النقاط، استثناءٌ يحمل بعض الطرافة، لا زلت أتذكره جيداً، وهو قراءاتنا للرواية أنا ومجموعة من الأصدقاء بشكل جماعي، وفي أوقات مشتركة، في براحات مدينة سبها البهية، في النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي، ولازلت أتذكر الجملة الشهيرة (وين وصلتوا؟) التي يرددها الأصدقاء بين الحين والآخر أثناء التوقف عن القراءة المسترسلة لوقت طويل، اقتناصاً لبعض الراحة أو لشرب الشاي!

أيضا، الرواية كاللوحة التشكيلية في أحد الجوانب، حيث تكتسب خاصيتها مما يصلك منها فقط، لأن ما يصلك منها فهو لك، وما لا تتوفق في الوصول إليه، فربما يكون لغيرك، ولا غضاضة في ذلك على أية حال.   و الفارق هنا، هو أن اللوحة قد يشاهدها آخرون معك في نفس الوقت، لكن الرواية في أغلب الأحيان تجبرك على العزلة، وكأنك صوفي اعتراه الوجد، فهام في عوالم ليست من صنعه، لكنها في تلك اللحظات له هو وحده .

الرواية (معمار) متكامل يسع كل شيء، فهي لغة بكل مستوياتها وتشكلاتها، وهي فلسفة واجتماع وتاريخ وعلم نفس وعلم جريمة واقتصاد وسياسة، وكل هذا وأكثر قد يبقى مجرد (إخبار) جاف لا قيمة له إلا قيمة المعلومة التي يحملها، ما لم ينصهر في بوتقة الفن النبيل، التي تحيل كل ذلك إلى حياة، تنتقل تفاعلاتها من موقف إلى آخر، عن طريق السرد أو الحوار أو المنولوج، أو أية أداة أخرى من أدوات التعبير الفني. ومن خلال ذلك ينبجس التوتر الخلاق، الذي يصنع اللحظة ويطلق إضاءاتها المبهرة في فضاء العمل الروائي!

رواية قصيل، هذه الرواية الجميلة، اللغة تحمل نصيباً جيداً من التجاوز للصياغات المتداولة، والأسلوب يصارع نفسه بين ترك الشخصيات الروائية تعبر عن نفسها بتلقائية بحكم تكوينها، وبين تدخلات الكاتب وفرض آرائه وتصوراته عليها أحيانا. ومع ذلك، ففي أكثر من موقف فإن التوتر الفني، أي تصاعد الحدث، وصل إلى ذرا عالية، وهذا ما أثارني أكثر من أي شيء آخر في هذه الرواية!

هذا التوتر الخلاق، تصاعد بالتدريج و بهدوء و تمهّل، ووصل أعلى مستوياته في آخر صفحات الرواية، حتى بلغ مدى  فجّر كل الالتباسات التي يثيرها عادة أي عمل فني خلاّق، ونثر أسئلته الوجودية، بعد أن طرح كافة أسئلته الاجتماعية والسياسية وحتى الاقتصادية، وأعطى الفرصة في نهاية المطاف لالتقاط الأنفاس بعد جهد لا شك فيه، للانصهار في محراب الفن والإبداع، محراب الرواية!

رواية قصيل، قدمت جمالياتها من خلال سرد بديع، يحتفي بالمكان من خلال موجوداته !حدثتنا عن (قصيل) ولحظات من حياته، متوترة أو مبهجة أو كئيبة. وما يتصارع في ذاكرته من أفكار مقتنع بها من الأساس، أو فرضت عليه بحكم الظرف الاجتماعي المتجذّر، وأعطتنا الكثير عن الواقع الاجتماعي ومكوناته الثقافية العفية والصادمة.

الرواية أزاحت الحوار جانبا، وجعلته يتوارى عن المشهد، ونادراً ما يظهر على السطح، وكأنه تعبير عن الصمت الاجتماعي القامع، الذي يأبى أن ينزاح عن كاهل الحياة اليومية. واستعاضت عنه بالسرد والمنولوج  كبراح آخر من خلاله تستمر الحياة رغم قسوتها وإحباطاتها.

هذه الرواية، هل تقول لنا أن من تخلّى أو فقد تاريخه، حتما سيضيع؟! أم أنها تشير لك بحدة و قناعة، وتقول (أنت تاريخك)؟! هل تقول لنا، في لحظة ما أن الإنسان قد يفقد القدرة على المقاومة؟! أم أن المقاومة قد تنهار، في أي لحظة غريبة ولا عقلانية؟! هل تقول لنا أن روح الحياة قد تضيع أيضا، وبصلف غريب.. روح التاريخ والمجتمع، بل والحضارة ذاتها، وبأي مستوى كانت؟!

لا أريد أن أقول أن هذا العمل الروائي كامل أو متكامل حتى، فمثل هذا القول لن يفيد الرواية أو الروائية بشيء، فالهنّات الفنية ستظل دائما موجودة في أي عمل فني، وإنما أقول أنه لا يوجد عمل كامل أو متكامل، بل توجد تجربة مستمرة لا تتوقف، فهناك فقط عمل إبداعي يقدم نفسه كخطوة على درب الإبداع الذي لا نهاية له، خطوة على درب طويل، درب لعله شائك، لكن الدروب الشائكة تقود حتما وفي نهاية المطاف، إلى سهول خضراء، تحلّق في سمائها وبراحاتها، الكثير من الفراشات!

________________

نشر بموقع ليبيا المستقبل

مقالات ذات علاقة

رواية آلهة الشدائد للكاتب الجزائري ياسمينة خضرا (محمد مولسهول)

المشرف العام

رواية العقيد.. جدلية الثوريين والثوار

رأفت بالخير

طرابلس أيقونة الشعر الليبي

ناصر سالم المقرحي

اترك تعليق