كتب الكثير من الأدباء قصائدهم وقصصهم ورواياتهم انطلاقًا من حبهم لطرابلس وعشقهم الكبير لها، الذي جعلهم يتّتبعون تاريخها وماضيها، صاغوا حبهم وعشقهم في هيئة قصص وقصائد وروايات ذهب الكثير منها، ولم يتبق إلَّا الراسخ والصادق والمقنع، فالقراء حتى اليوم لا شك يتذكّرون قصص الأديب والقاص كامل المقهور، التي كانت طرابلس بأزقتها وحواريها وساحاتها مسرحًا لها، وكذلك قصص وروايات الراحل خليفة حسين مصطفى التي تألّقت فيها الأمكنة الطرابلسية أيما تألق، وأشعار على صدقي عبدالقادر الرهيفة، وقصائد مفتاح العمّاري، ومحمد الفقيه صالح وغيرهم الكثير من الشعراء الذين ما زالت قصائدهم في البال بعد مرور زمن طويل على كتابتها، والذين خلّدتهم طرابلس ونقشتهم في ذاكرتها كما خلّدوها، هذا بالإضافة إلى ما كتبه شعراء الأغنية وما تغنى به فنانونا الكبار، وأشار بعض الشعراء إلى طرابلس في قصائدهم مباشرةً، بينما تناولها البعض الآخر في سياق قصائدهم الإنسانية وألمح إلى بعض أمكنتها وبراحاتها المعروفة.
1
– طرابلس أم المدائن
فها هو الشاعر محمد الفقيه صالح يكتب قصيدة كاملة في حب مدينة طرابلس كونه أحد أبنائها المخلصين، يقول في أكثر مواضعها عشقًا وهيامًا بطرابلس، حب حقيقي يرتقي بها من كونها مجرد مدينة كسائر المدن إلى أيقونة ومعشوقة، حتى إنّه ليختلط علينا الأمر حينما نعتقد أنَّ الشاعر يتغزَّل بمحبوبته أو امرأة غير مسماة، لا بمدينته في قصيدته التي هيمن ومنذ بداياتها على مقاطعها الإيقاع والموسيقى، على الرغم من ميلها الواضح إلى النثر، فمفردات توّجت الجُمل الشعرية مثل، مفتون والعيون والسكون، والصخر والفقر، غيوب هبوب وغيرها، خلقت حالة من الانسجام السمعي ونوعًا من الوقع الصوتي الذي هيأ القارئ للولوج إلى القصيدة الطويلة التي استنفدت طاقة الشاعر أو استنفد من خلالها دفقة حبه لطرابلس، وقال عبرها ما أراد قوله في معشوقته، المدينة “المرأة، المدينة” الحلم، كون الشاعر أيضًا يتحدّث عن مدينته بلسان الماضي بلسان الحنين متجاوزًا حاضرها المتأزِّم لائذًا ببهائها الناجز في ذاكرته واكتمالها في الماضي، المدينة التي يصطفي الشاعر.
من بين المرايا
وجهها ويسيل درب من رُبى قلبي إلى ميعادها
في ساحة للحلم أبّان الهطول.
إلى أنْ يقول بنبرة واثقة
هاهنا انشقت غيوب عن هبوب
فانجلى عن كل عين حاجب
وعن كل قلب ليله
هنا أزدهى في نبضك الدافئ
أريج من صهيل الحلم
وانداحت سهول خصيبة
فهفت إلى النبع الطفولي الرهيف رصانة الأحجار
2
سبحان من خلق النساء وأضرم الإيقاع في أجسادهن.
هكذا في شعرية خالصة لا يخالطها كدر ولا يشوبها حشو ولغو زائد، عامرة بالإيقاع والرقص فوق حبل الكلمات المموسقة.
وكان لابد أنْ تطغى النبرة الذاتية ويتسلل الشخصي وينعكس سواء اختار الشاعر ذلك أو لم يختر وعي أو لم يع، وها هي محنة الشاعر ترتسم وتنعكس حين يستحضر تجربة الاعتقال المريرة في قوله:
وسبحان الذي لا يكتئب
قال السجين
وقد تلفع بالحنين والنسب
وتهاطلت من القلب جدران الأزقة والحواري والقباب
وتقاطر الصُناع
أينعت المطارق في الأكف
فأزهر الإيقاع
في إشارة جلية إلى أزقة وحواري وقباب مدينة طرابلس القديمة وهو لا يذهب بعيدًا حين يستخلص الشعر من تصويره لإيقاع الحياة اليومي، من تقاطر للصناع أو العمال المهرة عليها وعلى دروبها ومحلاتها الحرفية والصناعية، فهنا تورق المطارق في الأكف في إيماء تحديدًا إلى عمال سوق القزدارة، أو سوق النحاس والقصدير وصناعة الأواني والتحف من هاتين المادتين، والجملة التي تحيل إلى هذا المعنى وهي أينعت المطارق في الأكف، صورة شعرية غير مسبوقة وقد اكتمل فيها المعنى واستوت قيمتها الفنية، هنا يدخل الفقيه طرابلس من باب محنته الشخصية ويبعثها حيةً في أشعاره الندية حد أنَّ المدينة تستحيل إلى أُنثى والأُنثى إلى مدينة، ويضيع الموصوف في زحمة العشق ولا يبقى إلا الوصف شاهدًا على عمق الوله واحتدام المشاعر واضطرامها في قلب الشاعر.
ويمضي الشاعر قائلاً:
لمدينتي يتهدّج الحرف العنيد
وبطيبة الفقراء والصُناع يختلج النشيد
3
وفقط من لمسة حانية من مدينته الأثيرة، تنفتح سماوات وتنداح أطياف وتتقاطر إلى القلب مسراته حين يهتف الشاعر.
مسّت يدي في الصبح خاصرة المدينة
فاستفاقت في المواعيد الندية ((كوشة الصفار))
وارتحلت بي الصبوات
حين تفتقت في ((زنقة العربي)) شمس طفلة
وانشق باب عن قوام عامر بالخوخ والنوار
كما لو أنه عابر للتاريخ وشاهد على أحداثه التي ارتسمت في الأمكنة؛ حيث يقف الشاعر ويغيب في انعطافاته وتأخذه تعرجاته إلى حد القول:
أزمنة تطل وتختفي في كل منعطف ودار
حد أن
فتحت صدري – عبر باب البحر – للريح التي تنحلّ
فوق الشاطئ الصخري
تذوب في الزبد الكثيف
البحر حين تخضه الأشواق
والصياد حين يؤوب
محتدمان إلى حد النزيف
أمضي
تسير بجانبي الطرقات والأقواس والدور العتيقة
يحتويني المساء بقامة المشموم والأطفال
إذ آوي إلى باب البحر
ومثلما أن كل شيء يحتفي بالشاعر، الشاعر يحتفي بكل تفصيل من تفاصيل مدينته حتى وإنْ كان دقيقًا ومهملاً، وما لا يلفت انتباه أحد يلفت انتباه الشاعر بل يشده إلى جماله المخبوء ويأسر ذائقته المرهفة فيصوغهُ شعرًا ويُجيره لقصيدته بلا تردد.
طويلة هي القصيدة ونتردد في أنْ نغادرها قبل أن نفيها حقها من العرض، ولو ترك لي الأمر لأوردتها كاملة غير أنه لا مناص من انتقاء بعض مقاطعها وجملها المعبرة وصورها الشفيفة لضيق الوقت والمساحة، حتى نلم بجمالياتها ونقف على تجربة الشاعر الذي أراد لقصيدته أنْ تُحلِّق في منطقة وسط ما بين الغموض والوضوح وتجنب الرمز والإيحاء المُغرق في تخفيه, فالموضوع لا يحتمل المراوغة والسياق غير مواتٍ للجوء إلى الإبهام، فالأمر حين يتعلَّق بالمحبوبة والمعشوقة لا يحتمل الكلام أنْ يكون مُغلقًا ومبهمًا، وهذا ما تعبر عنه القصيدة حين تقول:
ويعصمني – وهي الكلمة التي تحيل مباشرة إلى المتن القرآني –
ويعصمني من الإغراق في الرمز
اشتعال علاقة ما بين قهوتها وظفيرتها
وتجعلنا هذه الجملة المقتضبة نتساءل هل هي امرأة أم مدينة التي يتحدث عنها الفقيه أم يتحدث عن كليهما؟
أما قول الشاعر، فيما يشبه الأبيات الشعرية المقفاة:
إنَّ البيوت كثيرة والسقف واحد
والأمنيات جريحة والقلب صامد
فهي إشارة إلى تراصّ بيوت المدينة العتيقة وتلاصقها، وبالتالي تلاحم سكانها وتعاضدهم ووقوفهم مع بعضهم البعض في السراء والضراء، وعلى الرغم من وقع الحياة القاسي، فالأمنيات تظل مجرد أمنيات غير متحقّقة لقلة ذات اليد وانعدام الحيلة, ولكن القلب يظل صامدًا مؤمنًا بقدره متعلقًا بالأمل حتى آخر نبضة.
ثم يتطرَّق إلى هجرة سكان المدينة القديمة لمدينتهم تلبية لنداء الأسمنت وغول الاستهلاك الهائل الذي جاء مع بزوغ النفط في أرض ليبيا، فيقول فيما يحاكي التحسر على زمنٍ جميلٍ آخذٍ في الاضمحلال والأُفول, ليحل محله زمن المصالح وتقلص الحميمية إلى مساحات مقلقة يقول:
والكادحون تناهبتهم غابة الأسمنت
غول هائل
والنفط لو أدركت شاهد
فأرقص ما شئت أنْ يبقى الهوى حيًا
على إيقاعه الصاعد
إنَّ المدى واعد
إنَّ المدى واعد
وجميل أنْ تنغلق القصيدة على هذا الأمل الذي يراود النفوس ويدغدغ القلوب حقًا إنَّ المستقبل مع كل التحديات يعد بالخير ويبشر بالأفضل، هذا واعتبر الكثير من النقاد والقراء قصيدة ((طرابلس الغرب)) للشاعر محمد الفقيه صالح من عيون الشعر الليبي الحديث والمعاصر إلى جانب روائع كل من العمّاري ((رجل بأسره يمشي وحيدًا)) وبلد الطيوب لعلي صدقي عبدالقادر ووقف عليها الحب لخليقة التليسي.
– الشعر حين يصفو
أما المختلف، علي صدقي عبدالقادر، السوريالي الأخير وصاحب الاسم الحركي للوردة الذي أحبّ طرابلس حتى النخاع فبادلته حبًا بحب، وعشقًا بعشق, فيكاد يقصر شعره عليها لا سيّما أواخر حياته وهو غزير الإنتاج الذي أصبح كطفل كبير وأضحى الشعر لعبته المفضّلة، فقد وضع الكثير من القصائد التي إنْ لم تشر إلى طرابلس صراحة فهي تلمح إلى أجوائها التي يعرفها تمامًا وعادات أهلها بل حتى طيبتهم وتسامحهم وبساطتهم وجمال تقاليدهم.
فالشاعر وهو الذي ولد بطرابلس وترعرع في جنباتها ودرس فيها وتعرّف إلى رجالاتها وعاصر نخبتها المتنوّرة ودُفن في ترابها أخيرًا، لم يدّخر جهدًا أو شعرًا في الاحتفاء بمدينته الأثيرة على قلبه والتغني بفضائلها عليه وعلى أهلها، بل حتى حجارتها وبراحاتها لم تسلما من احتفائه الباذخ، فأسبغ عليها من جميل شعره ووصفه وأوجد لها معادلاً لغويًا شعريًا يُضاهي جمالها المادي والمعنوي، فها هو ذا وهو المُتيم يقول عن حبيبته طرابلس ذات تجلي أو ذات انتشاء بجمالها المكنون الذي لا يدركه ولا يحس به ألا الشعراء، يقول بلغة هي أقرب من القُرب وأبسط من البساطة عينها وببراعة آسرة لا تخلو من سذاجة الطفولة وبراءتها ولا تعتد كثيرًا باللحن والغنائية وتتنكب النثر وفي نفس سردي متصل يقول شاعر الوردة:
إنْ رأيتموني ماشيًا
خدعكم نظركم
أنا أركب فرسي
أوصاني أبي، أُطعم فرسك السُكر لتكتشف طرابلس
يمر بي فرسي بشارع الصفار، يريني طفولتي
ألعب الكرة
مرة أُدحرجها، مرة أقذفها مع حذائي في الهواء
يقف فرسي
أما النخل، فيقول هذي الوطن بلل وجهك ببلحها, وأسأل أٌمي أسمك فاطمة, أسمي علي، فما اسم طرابلس؟!
ضحكت أمي أنسيت اسمها ((طرابلس الحب))؟!
ولولا جملة ((يريني طفولتي)) التي وردت بالقصيدة والتي تفيد بأنَّ كاتبها كبير السن ولولا أننا نعرف أن هذه القصيدة لعلي صدقي عبدالقادر، لاعتقدنا حقًا أن كاتبها طفل صغير, ولعلنا لا نخطئ إنْ اعتقدنا ذلك فعلي صدقي عبدالقادر كان طفلاً في شعره وعشقه كبيرًا في جسده كما لو أنه يطل على الحياة بكل اتساعها ويراها بعيني طفل.
وبذات اللهجة العابرة للطفولة والدهشة يجدل كل من طرابلس وأمه والشمس في قصيدة واحدة دون أن يظهر بين عناصرها أي تفاوت أو تعارض أو تنافر وتضاد، لما لا وهي ضربة شاعر, ففي نص ((صفير البواخر)) الذي لا يحتمل أنْ نجزئهُ أيضًا يقول:
من مثلي
حفظتُ وجه أُمي وخبزها عن ظهر قلب؟
وذقت كبرياء بلدي حتى والعاصفة تقصف
وآنسني صفير سفن ميناء طرابلس
في مرضي!
من مثلي
أنا أملك نصف النجوم لأنَّ فاطمة تحبني
من مثلي أنا وفاطمة
والشمس وطرابلس في فراش واحد
وأنا أتهجى حليب أمي
نخلة طرابلس
حب
والتفاؤل هو ما كان يطبع هذه الروح المرحة التي لا تنسى أنْ تشيع الأمل فيما حولها وفي القصائد، أليس هو من يختتم قصائده بعبارة, يحيا الحب أو سنلتقي بعد مليون عام وهو الذي يؤمن بالخلود وبالمعاد وبالسلام وبالحياة، إذ طالما تغنى بكل هذه القيم والمثل الروحية الرفيعة.
شاعرنا فيما كتب من أشعار وأثناء انهماكه في الآتيف الشعري, لا ينتبه إلى طول أو قصر الجملة الشعرية، وإنما جل تركيزه يكون على اقتناص الدفقة الشعرية التي قد تنتهي في سطر طويل أو في كلمتين أو في مقطع متوسط الطول إذْ هذا ما يخبرنا به رسم قصائده وطريقة عرضها على البياض.
والقصائد الطرابلسية لعلي صدقي إنْ جاز التعبير أكثر من أنْ تُعد وتحصى ونكتفي بالمتاح منها، كإشارة إلى هذا الملمح في شعره على أنْ يعود من يريد الاستزادة إلى دواوينه المطبوعة وإلى الشبكة المعلوماتية.
– ديك الجن الطرابلسي
أما الاستثنائي – الشاعر مفتاح العمّاري – فقد انتقل إلى مدينة طرابلس من شرق ليبا واستقر فيها مبكرًا, وكغيره من الشعراء كان لابد أنْ يظهر المكان وتأثيراته في شعره سواء أحبه أم أبغضه, والعمّاري بالتأكيد أحب مدينته وارتبط بها ارتباطًا روحيًا وثيقًا إلى الحد الذي جعله يقول وببساطة فادحة في قصيدته ((قبعة أبي)) في ديوان نثر المستيقظ.
أُحب أُمي وأطفالي وزوجتي وإخوتي وجيراني
أُحب طرابلس والجبل الأخضر
أُحب زنقة القزدارة والماجوري وخبز تنور جارتنا الحاجة شمسية
أُحب أصدقائي الحالمين والميتين والعربيدين والحمقى
وأُحب السفر والكتب والموسيقى
هكذا بتقريرية صارمة يشفع لها تقريريتها مقام الحب الذي استحضره الشاعر ورسمه بكلمات لا تراوغ، وإنما تذهب إلى المعنى قدمًا عارية من كل شيء إلّا من وضوحها القاتل وحمولتها من الصدق والعمق.
وفي قصيدة أخرى عنوانها ((وصية)) ضمنها ديوانه جنازة باذخة يتناول العمّاري طرابلس في شعره بطريقة مغايرة حين يهبها أغلى ما يملك ومالا يملك حتى تظهر بالمظهر الذي يحب أنْ يراها عليه وهو المشغول بحبها المفتون بها موظفًا خياله الجامح في وصفها وانتقاء ما سيهبها إياه عن طيب خاطر إذ ينشد.
مشغولاً بك يا طرابلس
أُعطيك الكلمة الفتية
التي تتمزق وتنحرف عن مدارات المعاجم
التي عين الشك
وفم شجرة تقطع وقبضة العاصفة
مشغول بك
أترك لك اللمعان قويًا كالصراخ
بين صمت الصحراء الأبيض
الأبيض الكثيف
والماء عرشك الدائم
أترك القصيدة مأهولة بك
بأحلامك وهي تنمو بصلابة الحليب
بأصابعك نساجة أُلفة
وخزافة متع
لك يا هبة الله
أُضيف فمي حاضرًا
وغائبًا أُضيف ملحًا للشوارع
وأُعطيك الملامح السخية التي يرسمها طفل
ظله يطوق نظر المسافات
ويمشي بين البساتين خجولاً
وما يخبئه الشاعر من حب لطرابلس أكثر مما باح به وأظهره الشعر عليه.
– باب الحنين –
وفي قصيدته التي ألّفها من أجل عيني طرابلس وأسماها ((باب على البحر وأبواب على الصحراء)) ولم يقصد غيرها، يستعرض الشاعر عمر الكدي تاريخ المدينة بأسلوب شعري شفيف وسلس حين يورد من تعاقب عليها من الغزاة والطامعين فمن الفينيقيين إلى الرومان إلى العرب الذين منحوها هويتهم إلى الأميركيين إلى الإسبان إلى الأتراك إلى الإيطاليين إلى الإنجليز والذي ترك كل منهم بصمته على جسدها الغض إلى أنْ وصلها الشاعر وهي ترفل في ثوبها الباذخ مكتملة وناجزة.
ومن باب المدح اختار أنْ يدخل قبل أنْ يسرد علينا شعريًا، وإنْ كان يميل إلى المباشرة والبساطة ولعلها تكون البساطة الفادحة التي يتولد عنها الشعر عارمًا ويتفجّر مكتسحًا أسباب الرداءة، وبعيدًا عن الأسلوب العلمي الجاف والصارم، يسرد تاريخها الزاخر بالأحداث والشخصيات حيث يقول:
طرابلس زهرة الصبار
حورية عند البحر تستريح
طرابلس تنهيدة الوداع
ونورس يُقبل من بعيد
أما أكثر أجزاء القصيدة جمالاً فهو المتعلق باكتشاف الشاعر نفسه لمدينة طرابلس عند دخوله إليها للمرة الأولى صغيرًا ورؤيته لها من فوق كتف أبيه قادمًا إليها من قريته البعيدة؛ حيث يقول بلهجة طفولية مرحة:
دخلتها في الثالثة من عمري
ورأيتها لأول مرة من فوق كتف أبي
لابد أننا دخلناها في الربيع
كانت الأشجار مزهرة
تُغرد فوقها ألف الطيور
وخرير الماء
لا يتوقف أبدًا في حنفيات الشوارع
مررنا تحت أقواس مهيبة وعالية
ولأول مرة أرى القرميد الأحمر والشرفات
وأمام المستشفى المركزي رأيت الموز والتفاح والكمثرى
ورأيت الخبز يخرج من المخابز ذهبيًا شهيًا وساخنًا
ومنذ أنْ رأيت الخيول تقف في الإشارة الحمراء
نسيت قريتي البعيدة والتصقت بشارعي الجديد
وهكذا بنفس سردي بسيط لا يخدشه شيء من المجاز ولا التورية ولا الرمز يضعنا الكدي في قلب انبهاره ودهشته الطفولية الغامرة وتجربته الحارة، وهو يصف كنزه الثمين الذي اكتشفه وسبّب له ما يشبه الصدمة الحضارية وجعله هكذا يحشد انبهاره في هيئة جمل متتابعة ويرص دهشته في شكل بوح متدفق، قبل أن يستنفده الشعر.
وبقفزة واحدة وعلى أبواب المنفى الذي قرر الكدي أنْ يخوضه وهو يلج عامه الأربعين ينقلنا مرة أخرى إلى مدينته الأثيرة التي تشكّل وعيه بل كل كيانه فيها، حيث يراها هذه المرة بعين أخرى غير تلك التي رآها بها بالأمس بعد أن جفت ينابيع الدهشة وحل محلها الحنين الدافق وبعد أن استوطنتها فلول البدو وسكنتها العادات السيئة والسلوكيات السمجة وأذعنت لأمر جنرالها الجديد حين قال لها من ميدان الشهداء: إلى الوراء قليلاً، وقد رآها تتقدّم بخطى واثقة للأمام.
أراد الشاعر أنْ يتزوّد من طرابلس بما يعينه على حياة المنفى المُرتقب فلم يغادر قبل أنْ يجوس دروبها ويستذكر أماكنه الأليفة قبل أن يستنشق المدينة دفعة واحدة ويحتفظ بها في صدره ويذرف دمعة واحدة حارة اختزلت شجنه وحزنه ويعطيها بظهره ولا تواتيه الجرأة على أنْ يلتفت إليها بعد ذلك، إذْ يقول الشاعر بلغة ملؤها الحرقة والألم مخاطبًا طرابلس التي يعرفها وتعرفه.
نظرت إلى بحرك الأزرق وتذكرت البيوت التي سكنتها
والعتبات التي تخطيتها
غرف الفنادق وزوايا مقاهي المفضّلة
المدارس والمطاعم والمكاتب والمكتبات
رفاق عمري ونساءك المستحيلات
شارع الزاوية، مدرسة الفنون والصنائع، باب بن غشير
غرفة مجاهد
مربوعة نصري، مسرح الكشاف
طريق السور، الشيخة راضية
مطعم البُرعي، أجنحة الشاطئ
وهكذا تتحوّل الأماكن من مجرد أماكن إلى أرواح مرفرفة وكائنات حميمية تتفاعل مع الكلمة وتسكن الشعر فقط بفضل الناس الذين مروا بها والذكريات التي تشكَّلت في ربوعها، ومن هنا تكتسب أهميتها كأماكن أثيرة وإلا لكانت محض أماكن كغيرها من الأماكن لا شيء يميِّزها عن غيرها.
– لطرابلس الشعر كله –
ولم يحدث أنْ وضع أحدهم ديوان شعر كاملاً في مدينة طرابلس – بحسب اطلاعي المتواضع – عدا الشاعر والقاص محمد المغبوب الذي فعل, حين أصدر ديوانه ((فيض من عسل الوطن)) الذي احتوى على إحدى وثلاثين قصيدة تتغزّل كلها بجمال المدينة، وحتى وإنْ غلبت هنا العاطفة على الشعر إلا أن هذا الأخير، ترجم إلى حد بعيد قصة عشق الشاعر للمدينة التي أوقعته في حبائل حبها كغيره من الشعراء وليرد بعضًا من دينها عليه، حاول أنْ يصوغ هذا الحب في قصائد وصور شعرية معبرة، وقد أفلح في ذلك إلى حد بعيد لما اختار النثر شكلاً لقوله مع اتكائه على الإيقاع بين الحين والحين، وفي بوح متتابع تحاور مع أمكنة كثيرة في طرابلس فهو الذي يقول ولا يقصد إلا طرابلس:
أيتها الماجدة نحبك كما أنت هكذا
جداول فرح تسري هائمة
حمامات بأغانينا عازفة
محبة في حشاشة القلب ساكنة
إلى أنْ يقول في قصيدة لاحقة:
إليها أمضي
أبعد مما أرى
ألج النهارات
من نافذة صباحاتها والمساءات
أدخلها منتشيًا بلون الشفق
أمضي أبعد مما أرى
أنقش على سماء البلاد
كلامًا من عسل
وحين يستسلم الشاعر للإيقاع يقول:
بسمة من القلب
وضحكة حالمة
زمن مضى يا ولهي
وأنت هنا في القلب ساكنة
يا مدينة الأحلام
والآمال المقبلة
ويختتم ديوانه الصادر عام 2002 بهذه الجملة المستلة من صميم الشعر:
طرابلس
فيض من عسل الوطن
– طرابلس الجريحة
هذا عن طرابلس زمن السلم، أما طرابلس في زمن الحرب فتلك قصة أُخرى تُحكى, فقد مرت العاصمة بأيام عصيبة إبّان الثورة المجيدة واشتدت قبضة التتار حول معصمها الرقيق, حين تقلّصت فيها فرص العيش الكريم بعد أنْ صار الرعب والهم والخوف يسكن دروبها، والوحشة سمة غالبة على إيقاعها اليومي وجفل منها الأمن واستسلمت لحرب عابرة، حين غادرها الكثيرون من أهلها إلى حيث الطمأنينة والأمان وتكدّست في براحاتها العطرة، القمامة وانطفأت أضواؤها وما عاد الماء يسري في عروقها وصار البنزين والغاز سلعًا مفتقدة.
في هذه الأجواء المشحونة بالخوف والترقب، كتب الشاعر سالم الصغير الذي لم يغادرها في أحلك أوقاتها، وفي أسوأ ظروفها قصيدته التي شخصت حالها تحت الحصار في ظل القمع الذي طال أهلها قبل أنْ تتحرر وتعود إلى حضن الوطن ظافرة، وتبتسم من جديد بعد أنْ ظن أهلها أن عبوس وجهها الطلق لن يزحزحه فرح مهما تعاظم وأن مآسيها لن تمحوها المسرات مهما تتالت بعد ما رأته لأنَّ ما مر عليها أثقل من أنْ تزول تأثيراته سريعًا وأكبر من أن تنساه، غير أنها نهضت ككل مرة من عثرتها لتستأنف مسيرتها الواثقة، فقد رأت طرابلس الكثير واحتضنت الكثير وما هي بالمدينة التي تستسلم لهكذا كبوة عابرة رأت مثلها الكثير في تاريخها المليء بالإغارات، حيث يقول بلغته التي يشوبها الفقد والحزن وتصبغها الكآبة بألوانها الرمادية كسماء خريفية يقول:
من وجع تلبسها
من هم تقمصها
كئيبة وحزينة
طرابلس
هذا المساء
حد البكاء
حد النشيج
فارغة أفئدة الأمهات المكلومات
على فلداتهن صاروا وقودًا لحرب عابرة
لا ناقة ولا جمل لهم فيها
حربًا تنشب أظافرها المقيتة
في لحمهن العاري
المتنقل في أرض الله الواسعة
بلا سند
سوى أدعيتهن الحارة وتضرعاتهن الدفينة
يرفعنها بلا كلل
الأمهات الحزانى
إلى أنْ يقول:
مُذ فارقتها العصافير والألوان
ورنين الضحكات
والصباحات الاستثنائية
وذبلت في أغصانها الزهور
وجفت في دروبها الخطى
وصار الهواء لزجًا
ومثقلاً بروائح الموت
وأخبار الفجائع
صخب الأطفال صار شاحبًا
فيها خمدت الأغنيات
وسكت نشيد الفرح
تلعثمت الألحان
وهي تعبر سماءها الواجمة
وينشد في قصيدة تالية قائلاً:
طرابلس
وجهك هذا
أم هو الغسق
قبل أوانه حلّ
ومالي لا أرى فتيتك
آل يملؤون عينيك زهوًا
ويدحرجون إلى حضنك الدافئ
أحلامهم الغضة
أي ألق أضاع الطريق إليك
وأي بريق أخطأ عينيك الليلة
طرابلس
وأي هولاكو اختطف ضحكتك
فصرتي بلا فرح
إذن هذه طرابلس التي تكسرت على صخرتها الصلبة كل السفن الغازية وانكفأت كل الجيوش الطامعة ومن لم ترده ردًا جميلاً، لقنته درسًا في البطولة والصبر، وتجاوز المحن والنهوض من الرماد، فذهب غير مأسوف عليه، طرابلس التي هي أكبر من أن تستسلم لعابر أو طارئ على التاريخ هي الراسخة، وأكبر من أن تتنازل عن اجتراح الفتنة والإغواء كل مرة في قلوب عاشقيها ومريديها، أولئك الذين تزيّنت بهم وتزيّنوا بها عبر الحقب من الشعراء والفنانين والصناع المهرة والبنائين والبحارة والتجار، ومن كل أبنائها الذين تنضح الطيبة من وجوههم وتستدرجك ملامحهم الأليفة.
ويُعد الشعراء الذين أوردنا نماذج من أشعارهم في طرابلس من أبرز من تغنوا بها، وهذا لا يعني أنه ليس هنالك شعراء آخرون تناولوها في قصائدهم المختلفة، ونحن هنا لسنا بصدد حصر كل من تغنى بطرابلس شعرًا، وإنما كان هدفنا منذ البداية هو تناول هذا الملمح والعنصر في الشعر الليبي والتركيز عليه وإبرازه ومحاولة توثيقه.
ولئن قلنا ببداية المقال، طرابلس في ميزان الشعر، لابد أننا اكتشفنا معًا بعد هذا الاستعراض أنَّ طرابلس تساوي ذهبًا في ميزان الشعر.
_________________