متابعات

معرض انعكاس . . روئ متداخلة

معرض انعكاس
دار الفنون – طرابلس.

أنعكاس , هو عنوان المعرض التشكيلي الذي أقامته دار الفنون بطرابلس مؤخرا , بمناسبة الذكرى الرابعة والعشرون لتأسيسها , المعرض الفوتوغرافي أحتوى على عدد ثمانية وثلاثون صورة وشارك فيه أربع مصورين بأعمالهم التي تراوحت ما بين الواقعية والتعبيرية المفاهيمية والشاعرية , وعبَّرَ عن وجود أو بروز تيار فني حديث له رواده ومتذوقيه في ليبيا , حيث الصورة أو الخطاب البصري لم يعد يحفل بالواقعي والتشخيصي والتوثيقي والمتفق عليه إلا فيما ندر بل يذهب إلى إنتاج معنى وسوق مفهوم إلى جانب محمولاته الفنية .
الفوتوغرافية جميلة الوحيدي عرضت ثمانية صور أخضعتها لتقنيات الحاسوب بحيث بدت وكأنها لوحات تجريدية , برموزها وظلالها وخطوطها وألوانها , وابتغت من خلال هذه التقنية والأسلوب إلى جانب وضع مُنجز فني وجمالي خاصين بها , أبتغت بث رسائل مشفرة في محاولة منها لدفع المتلقي نحو تفكيك العمل الفني للوصول إلى فحوى الرسالة والفكرة الثاوية بداخله , سيما وأنها استثمرت تقنية جعلت من بعض الصور غير واضحة المعالم كما لو أنها تسبح وسط غمامة من الضباب , وبشيء من الأجتهاد في قراءة الأعمال سيظفر المتلقي بالمعنى الذي سيسبغ على الألوان والخطوط والظلال وحتى الموسيقى الخفية المتماوجة فيها نوعا من الجدوى وسيزيد من زخم العمل ويجعله متناغما كشكل وكمضمون .


ومن جانبها اشتغلت الفنانة هند شلابي في أعمالها الأربعة عشرة تقريبا على فكرة الأضطهاد الرمزي الذي تعاني منه المرأة في المجتمعات المتأخرة حضاريا , إذ هذا ما تراءى لي وهذه بالطبع قراءتي الخاصة للأعمال وتأويل من التأويلات العديدة التي من الممكن ان يضعها المتلقون لأن الفنانة لم تشتغل على صور جاهزة وسهلة التناول وفي ذلك دعوة للأجتهاد والتأويل فالفنانة عمدت إلى دمج بعض العناصر بواسطة التقنيات الحاسوبية ووضعت صورا للمرأة في هيئة ظِلال ووجوه نسائية مختفية وراء قطع أقمشة وبشكل عصابة على العينين وفي إطار داخل الإطار الأصلي للصورة وسط حدودها الأربعة , بحيثُ سرَّبت من خلال أعمالها تلك , الفكرة التي ترفض على الأرجح تنميط المرأة وتهميشها , وهي دعوة في ذات الوقت لرفع القيود عنها ومنحها مساحة أوسع من الحرية وعدم اختزالها في أدوار محددة لأن امكانياتها أكبر من أن يتم اختصارها في بضع وظائف بيولوجية كالإنجاب والرضاعة وهي رؤية مختلفة للرؤية السائدة في مجتمع ذكوري حتى النخاع. إذاً هذا بعضاً مما تشي به الأعمال الغير مباشرة للفوتوغرافية هند شلابي .
في حين قدمت المصورة الفنانة رانيا الدلالي عدد تسع صور , ثمانية منها بالأبيض والأسود وفي أغلبها حاولت استحضار حالات شعرية وسعت إلى رسم أجواء شاعرية بصورها الواقعية أو القريبة من الواقعية , ودائما عبر الأبيض والأسود ومن خلال الجماليات الغامرة التي يتيحها هذين اللونين منفردين اللذين إن حضرا في صورة ما فإنهما سيحيلان إلى الكثير من التفاصيل المدهشة وسيحركان الكثير من المشاعر الخامدة لدى المتلقي , كونهما يُشيران في الأساس إلى الحنين للماضي وإلى البساطة المفتقدة في مقابل التعقيد الذي يحياه الناس اليوم وبالطبع تحياه ملتقطة الصور ويحيلان إلى الأجواء الحميمية التي كانت سائدة , وغيرها من الإحالات النفسية بحسب كل متلقي , إذ لا بد أن يجد كل متلقي ما يخصه في هكذا صور تكتفي بالأبيض والأسود ألواناً لها أو تكتفي فقط باللازم من الألوان وتتخلص من كل لون ما عداهما , في الوقت الذي تستطيع فيه تسخير كل الألوان ولكنها لا تفعل وتختار هذين اللونين لينوبا عن البقية في قول كل شيء في جعبة الفنانة .


ويتضح اجتهاد الفنانة في استحضار هذه الاجواء من خلال أعمالها الأربعة الأولى التي التقطت فيها لحظات شاعرية واقتطعتها من سياق الحياة العام كما لو أن الحياة هنا توقفت لهنيهة لترينا بساطتها وجمالها المخبوء أو لتقترح علينا محطات هادئة وآمنة وسط هذا الصخب والضجيج المتنامي , إذ صوَّرت شاطئ خالي إلا من امرأة وحيدة في حالة مرح وحبور وانطلاق , والتقطت أيضا لحظة جلوس طفلة في حالة سهو وسكون على عتبة باب بيت عتيق وصوَّرت امرأة في زيها التقليدي على كرسي حديقة عامة , كما صورت طفلا من زاوية نادرة وهو يحاول كسب لقمة عيشه بالعزف على آلة الأكورديون في الشارع , وصوَّرت بعد ذلك ردهة أحد المطارات وصالة محطة القطارات وأخضعت الصور لتقنية حاسوبية جعلت من هذه الامكنة غير واضحة وضبابية لتعزيز رؤيتها الشعرية الشاعرية كما لو انها تريد أن تقول أن هذه الأماكن هي مجرد أماكن عبور وتقاطع للبشر رغم كل ما يحدث فيها من قصص ووقائع ورغم ما يكتنف أجواءها من انتظارات ويتخلل فضاءاتها من أشواق وتلهف واحتراق وحتى دموع وعناق , فكل هذه الأشواق المضطرمة ومشاعر اللقاء العاصفة بالنفس ولحظات الوداع مريرة الوقع , والدموع والمناديل الملوحة وغيرها من المظاهر التي تشف فيها النفس وتترقق معها الأحاسيس , هذه المظاهر التي تختص بها الأماكن البرزخية أو تلك التي تفصل ما بين عالمين ووجودين وحضارتين , بعضا مما تقوله الصور المعروضة للفنانة رانيا الدلالي , إن لم يخونني التأويل .


ويؤخذ على الفنانة المجتهدة في نحت أسلوبها الشاعري ذي الرؤية الرومانسية أنها عرضت صورا ملتقطة خارج ليبيا , وكان الأفضل لو أنها اعتمدت في مشروعها على البيئة المحلية الزاخرة بكل ما هو جميل ومُعبر وشاعري .
وعبر تقنية الفوتوشوب أيضا تلاعب الفنان المصور أنس سعد في أعماله السبعة التي اقترحها علينا في المعرض بالقمر وجعل منه مجرد كرة مضيئة يمكن وضعها داخل إحدى الحقائب أو حتى رميها وتطييرها عاليا ككرة من قِبل أحد اللاعبين أو تقديمها كهدية من شخص لآخر وكان لابد من أن تكون الخلفية معتمة وليست مظلة تماما ليتمكن المصور في صوره المُعدلة حاسوبيا من إبراز الكرة المشتعلة وفي ذات الوقت إظهار الأجساد المكملة للمشاهد التي كان فيها القمر قاسما مشتركا , ولئن كان الأسلوب الذي اشتغل به الفنان هنا متداولا بكثرة وموجودا على الدوام في الفضاء الإلكتروني إلا أن الفنان حاول جاهدا أن يقدم الجديد وينتحي ركنا خاصا به يتحرك بداخلة باختياره للقمر كبطل لأعماله , ولعل التنويع عل تيمة القمر في هذه الأعمال بهذا الشكل الإبداعي أبان عن بعض امكانيات الفنان التي بالإمكان استثمارها جيدا في المستقبل , ويلعب الخيال هنا دورا رئيسيا في تقديم الجديد في كل مرة وعدم الوقوع في مطب التكرار .


ومن المهم التذكير هنا بأن الصور المعروضة جاءت في مقاس واحد وهو ال 20 × 300 سم تقريبا , وساهم عدم إعطاء أسماء للصور المعروضة في المعرض في فتح باب التأويل على مصراعيه وحث المتلقي على وضع قراءته الشخصية للأعمال ودفعه للتفاعل مع المادة المطروحة .
ويجيء هذا المعرض في وقت تشهد فيه الحركة التشكيلية في ليبيا عموما وفي طرابلس خاصة نوعا من الركود , يجيء المعرض ليبث في أوصالها نفسا منعشا ويمدها بجرعة من النشاط والحيوية لعلها تستعيد بعضا من الألق الذي افتقدته , لا سيما بعد رحيل اثنين من عناصرها النشطين مؤخرا وهما الفنان يوسف معتوق والفنان الطاهر المغربي .

مقالات ذات علاقة

تكريم الروائية الليبية” نجوى بن شتوان” في الرابطة الثقافية طرابلس

المشرف العام

اختتام دورة القراءة الذكية ببنغازي

المشرف العام

إذاعة طرابلس تحتفي بسيرة ألم جمعة عتيِّقة

مهنّد سليمان

اترك تعليق