قصة

المربوعة

كلما التقيه يحرص على أن يضيّفني في مربوعتهم العتيقة ذات البلاط الأبيض والقرمزي الشبيه برقعة شطرنج.. والتي قبل تحويرها إلى مربوعة كانت مقهى شعبي من رواده بعض فتية بنغازي، المهمومين بالثقافة والأدب كصادق النيهوم وحسين مخلوف وخليفة الفاخري.. كان ذلك حقبة الخمسينات والستينات عندما كان ميدان سوق الحشيش حاضرة برقة ومركزها التجاري، العامر يومياً بالباعة والشراة القادمين من سلوق وقمينس والأبيار والرجمة، وحتى من الجبل الاخضر وفزان وجالو.. جالبين منتجاتهم من عسل وحبوب وبقول وصوف وتمور.. وغيرها..

كان مقهى سي عمر يقدم القهوة والشاي والمشروبات الغازية.. وفي فصل الشتاء يضيف سحلب القصب الساخن المرشوش بالقرفة والحرارات.. بعد أن نتناشد و نجمع ما في جيوبنا.. يخرج لزمنية قصيرة ويعود بكيس نافخه الماء.. يثقب طرفه بعضـّـة ليصبّه داخل القنينة الفارغة.. نبتسم.. وتدور الكؤوس بيننا.. تصحبها ملاعق زبادي غوط السلطان وحبيبات الزيتون المالحة..

في قطيرات الخمر تتجرأ المحاكي..

والأحاسيس الظامئة تزهر الانتعاش ..

والهم والغم مذبوحان في رقصة مارحة..

والأحذية الدائسة مأزق وجودنا.. تسكر.. تترنح..

تنحلّ عُـقد خيوطها لتنثني أبوازها إلى تحت..

والفناء المرئي يرحل بعيدا عنـّـا.. وإن عاد فببطيء.. حتى نكاد لا نحس دخوله..

أي بقاء فان يرانا و لا نراه..!!

بعد خمسة أدوار يضيء الجو.. والمزاج يرتقي سلالم الابتهاج.. والتجلي يشير إلى الدرج القريب.. يجلب منه أوراقه و أقلامه ويغوص متنفساً في عميق عوالمه..

نجيب.. من مواليد سوق الحشيش بداية الخمسينات.. متوسط القامة.. هادئ الطبع والملامح.. شعره جيّره الزمان.. عيناه محمرتان.. أغلب الأحايين تخالهما تذرفان.. على جبينه مسحة حنين.. وفي رأسه ذاكرة ضجيجة بالأحاديث والحوادث.. مكنة.. شخوص.. أزمنة مفرحة ومحزنة.. ينشر حكاياته في جريدة أخبار بنغازي.. تناول العديد من الشخصيات.. علي بازامة فنان الكاركوز.. الدرويش بوسعدية.. الملاكم جقرم.. صاحب المطعم قريتشة.. وكثير.. كثير..

مختصر يومه كمختصر ماضيه.. لا جديد تحت الشمس ولا قديم فوق السماء.. يخرج ويعود.. يستيقظ وينام.. بندول رتيب يعيشه.. يجلس على مصطبة بيتهم.. خلفه حوض لاونطا.. تظلله عريشة لبلاب.. أمامه بشر تمرّ.. ينظر يمينه.. يستحضر الكرمة.. كرمة عيت مخلوف.. هي مجتثة الآن.. خيالها باق.. ظلها المفترض.. رائحتها.. يقعي حيث كانت.. يحفن من التراب.. يشمّه ويعيده برفق.. لا ينفض راحته.. لا يمسحها بمنديل يُـمسّـح بها على جبهته ويهمس لذاته:

– لماذا عمر الكروم قصير؟!..

يقطع ميدان سوق الحشيش.. القصير طوله وعرضه.. تقوده قدماه إلى شارع الشريف.. يتبوأ منتصفه.. ظهره لأطلال ضريح عمر المختار.. ووجهه لمنارة سيدى خريبيش.. لا يعبأ لأبواق السيارات.. ما أجمل الغروب.. الغروب هروب.. والشروق هبوب لرياح النور.. الشمس تغوص.. المنارة تومض.. والنجوم تضيء ليل برنيق.. ليل الملح المضيء.. الليل الشفيف الذي لا يبتلعنا..

ذات يوم لم نجمع ما في جيوبنا.. كان حزينا.. صامتا.. يدخن بشراهة.. سيجارة يشعلها من أختها.. ظللنا جالسين على المصطبة.. الظل يتأخر.. وآذان الظهر يرتفع من جامع سيدي محمد الفقي.. دخلنا المربوعة.. قدمت لنا أخته أسمهان مكرونة جارية حارة.. وأعقبتها بدورين شاي مكشكش.. نجيب مازال في غيّه صامتا.. لم أتجرأ على اقتحام عزلته.. من حق الإنسان أن يسكر صمتاً.. تجرعت مثله زجاجة صمت.. غرقت في قراءة (أن تعيش لتحكي) لماركيز.. بينما هو غارق في سُـحب سجائره.. الصمت ليس عزلة.. يحاورني بعينيه.. بهزهزة رأس خفيفة.. بدمعتين حرّتين.. بطول وقصر سحب سيجارته.. بطريقة نفثه.. بكيفية سحقه للأعقاب.. السيجارة حياة.. والحياة سيجارة.. والجمرة هي الروح.. وأعواد الثقاب قدحة قدر بائسة..

كانت حالته غير مستقرة.. صخب.. هدوء.. أحاسيس متشابكة.. ربما تلسعه سياط ذكريات أليمة.. ألم  يختبئ في طيَّات نسيان.. يتحين فرصته ليطفو.. لا يريد أن يموت دائماً.. من حق الألم أن ينجو.. أن يعيش حياته.. أن ينتصر على حقن التخدير وشرائط المسكنات.. الإنسان لا يجترّ من ماضيه غير الحزن.. وإن اجترّ الفرح ففرح الحاضر أكبر أناني.. وفرح المستقبل أقتم أنانية.. مسكين تاريخ مشاعرنا !!

انتابتني نوبة سعال بسبب الدخان.. أسعفني نجيب بفتح النافذة.. المطلّة على سوق الحشيش.. ناداني بفرح طفولي.. جئته مسرعا أشاركه التأمل.. كانت قادمة.. هريرة ناضجة متباطئة.. قصيرة مكتنزة.. ترتدي إزاراً سماوي وسترة فضفاضة تميل للون البنفسجي.. يفصلهما حزام من قماش كقماط.. تتهادى مقتربة وشعرها منسدل في سالفين على صدرها.. تصلنا فرقعات صندلها على الأسفلت.. تك.. تك.. تك.. وشوشني : إنها سعاد أسعودتي.

هممت أن أخرج.. فسعاد على وشك الوصول.. لكنه أمسك بيدي بشدة

– والله ما تنكتب علينا.. النيهوم والفاخري ما علمونيش استبدال الأصدقاء بالصديقات..

– لا يمكنني البقاء.. أشعر بالخجل إن حشرت نفسي بين عاشقين !

– باهى.. باهى.. ساهل..

رن جرس البيت فقادني إلى وراء باب المربوعة..

سعاد ونجيب جالسان في صمت صاخب.. أخته أسمهان تقدم لهما العصير والكعك والغريبة والمقروض.. كان قد استنفد سجائره فاستأذن سعاد وجاءني خلف الباب.. سحب من جيبي علبة السجائر تاركاً مكانها كعكة وطرف مقروض.. ومع أولى نفثاته الجديدة ساد المربوعة مناخ رومانسي يتواطأ مع الأيروسية.. حديث هامس.. آهات مسروقة من صمت محروس.. ضحكات مكبوتة.. محاورة بصر وبصيرة.. جسد وروح.. عصافير.. فراشات.. شموع تتذاوب.. ورود تنبت في الجدران.. البلاط القرمزى ورّد البلاط الأبيض.. اللونان يتداخلان.. يلهثان في امتزاج ألوان الطيف.. رقعة الشطرنج تورمت.. السقف دار..هدد بتسريب ماء المطر .. أخيرا استأذنت سعاد للذهاب.. صحبها نجيب إلى شارع عمرو بن العاص عبر شارع عثمان ابحيح.. عند حلواني بوعشرين أوقف لها سيارة أجرة.. ولوّح لها بحرارة.. كنت أرقبه من النافذة وهو عائد يهرول بقفزات تزغرد.. خرجت لملاقاته على المصطبة .. عانقني وجرّني بإلحاح إلى مكان الكرمة..!

مقالات ذات علاقة

الصّقيع…

أحمد يوسف عقيلة

زمن الهواجس

رمضان أبوخيط

حمّام تركي

هدى القرقني

اترك تعليق