>
سالم الكبتي
>
” لأنني امتطيت شعري الطليق
عصرت للنسيم من فؤادي الرحيق
أعب من هواك العذب فوق ما أطيق
لأنني مللت وحشة الطريق “
محمد المطماطي
ما بين العام 1936 حيث ولد محمد محمد علي المطماطي في مدينة المرج المتكئة على أكتاف الجبل الأخضر ويوم استشهاده.. الثلاثاء 23 أغسطس 2011 إثر قصف طال بيته في بن عاشور بطرابلس تكمن حياة لشاعر ومثقف ومعلم ومذيع صاحب صوت جميل ارتبط به المستمعون في ليبيا على مدى فترة من الزمن منذ تأسيس دار الإذاعة الليبية عام 1957.
درس المطماطي المرحلة الابتدائية في المرج وواصل دراسته الثانوية في بنغازي الى الصف الثاني منها عام 1952 ثم نال دبلوم التعليم العام عام 1953 وقام بالتدريس في مدارس سلوق وضمه في سكن واحد هناك زميله في التدريس المؤرخ محمد مصطفى بازامة، وشارك المطماطي في تلك الفترة في عملية أول إحصاء للسكان في ليبيا عام 1954، ثم انتقل إلى التدريس في بنغازي بمدارس البركة والحميّضة والأمير، والمطماطي من جيل الثلاتينات في القرن العشرين الذي ولد بين الحربين العالميتين وفتح بصره على ايام الحاجة والجوع والمعاناة، هذا الجيل الذي سيسهم في خدمة وطنه عقب الاستقلال بمثقفيه ومعلميه وموظفيه ورياضييه وفنانيه وغيرهم، جيل نحت في الغالب تجربته بالأظافر والصبر والتضحيات.
المطماطي ايضاً من أوائل الشعراء الشباب في خمسينيات القرن الماضي الذين سيحاكون تجربة الشعر العربي المعاصر التي اطلقها بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبدالوهاب البياتي ونزار قباني ومحمد الفيتوري وغيرهم، وانطلق مع زملائه من الشعراء الليبيين : علي الرقيعي وحسن صالح وخالد زغبيه ومحمد السباعي وعبدالسلام قادربوه في محاولات تجديدهم للقصيدة الليبية الحديثة وفقاً للظروف الثقافية والفكرية السائدة خلال تلك الفترة، وأسهموا في مشروع التغيير والنهوض بالمجتمع الذي قاده بعض المثقفين الوطنيين وتأثروا بما يدور في المنطقة من أحداث : تأميم قناة السويس – معركة بورسعيد – ثورة الجزائر – حركات التحرر الأفريقية وما إلى ذلك قضايا وموضوعات.
نشر المطماطي اغلب قصائده في صحيفة العمل التي صدرت عام 1958 في بنغازي حيث أتاح مؤسسها الأستاذ احمد بوهدمه رحمه الله لكثير من الأقلام أن تلتقي في هذه الصحيفة الوطنية على شرف الحرف والكلمة وفي مقدمتهم : طالب الرويعي – يوسف الدلنسي – الصادق النيهوم.. وغيرهم، كما اشرف المطماطي على صفحة أسبوعية تخص نشاط المعلمين الوطنيين وتدافع عن حقوقهم.
كان المطماطي من الأصوات الإذاعية المثقفة الذين شهدت استوديوهات دار الإذاعة الليبية في راس اعبيده ببنغازي ثم في طرابلس نشاطهم الإعلامي الممتاز وشارك مع جيل الرواد من المذيعين الوطنيين مثل : ابوالقاسم بن دادو – عبدالله عبدالمولى اطوير – فرج الشريف – عيسى بالخير – عبداللطيف عيد – المبروك بن خيال – فتحي بوهادي – ناصر عبدالسميع – محمد السفاقسي – محمد التركي – محمد المصراتي – امينة الوداني – عائشه اخريّف – حميدة بن عامر – خديجة الجهمي…وغيرهم في تشكيل مدرسه إذاعية ليبية تقدم رسالة يومية للمواطن تعتمد على المهنية وصدق الكلمة رغم قلة الإمكانيات والوسائل، وكان لبرنامج المطماطي الشهير وغير المسبوق ” من بلادي “، الذي جال فيه بالميكرفون اغلب ربوع ليبيا مابين عامي 1965-1966، أصداء طيبة لدى المستمعين الذين كانوا ينتظرون هذا البرنامج أسبوعياً الذي عرّف فيه المطماطي بتلك المناطق ونقل فيه ألحانها وتراثها وتاريخها ومشاكلها، وكانت هناك حلقات مميزة عن غات والطوارق وجبل كاف الجنون وصيد الغزال والأساطير الشعبية، وكذا عن سلوق وطبرق التي التقى فيها شاعرها المشهور هاشم بوالخطابية وكان له الفضل في تسجيل ملاحمه الشعرية المطولة عن ” السن ” و” البير ” وسواهما، وامتاز المطماطي أيضاً بسلامة لغته وجمال الإلقاء في النشرات الإخبارية على مدار اليوم، وكان قضى فترة في ألمانيا الغربية في المدة مابين العام 1961 – 1964 وعاد منها بدبلوم في الإخراج والإعلام.
عقب سبتمبر 1969 نقل إلى وزارة الخارجية وعين سفيرا في ألمانيا الشرقية وهناك سجل شريطا وثائقياً بعنوان ” وداعاً هويلس ” بعيداً عن الإسفاف والنفاق الإعلامي الرخيص، ثم سفيراً في بولندا إلى تقاعده في أوآخر تسعينيات القرن الماضي، ورغم كثرة قصائده ومشاركته في الأمسيات الشعرية والملتقيات الأدبية، لم يقم بتجميع نتاجه الجميل ونشره في ديوان، وانقطع عن الحياة الأدبية ولم يلتفت إليه مرتزقة الأدب من التافهين بتكريمه أو ذكره في أي من المناسبات باعتباره من رواد الحركة الثقافية في ليبيا منذ منتصف الخمسينيات، وتلك من سمات فترة الجحود والإهمال والتنكر لكل الكفاءات الوطنية الصادقة ومحاولة تهمشيها من نظام الملازم وأتباعه من صبيان الثقافة وكل مدع دجال.
يشاء القدر أن يستشهد محمد محمد المطماطي الشاعر والمثقف والمذيع والمعلم في العشر الآواخر من رمضان الكريم وفي معارك تحرير طرابلس حيث تعرض منزله للقصف من قبل كتائب الملازم وفي اللحظات الأخيرة التي تفصل الشعب الليبي بكامله عن قرب تحقيق الانتصار ضد ذلك الملازم المعتوه.
وهذه قصيدة للمطماطي بعنوان ” سيذهب الغول ” نظمها عام 1959 ونشرها في صحيفة العمل في بنغازي وكأنه يستشرف بها ما يدور في هذه الأيام :
عندما ترقص شمعة !!
ترسل النور إحتضارات بليدة
عندما تولد في الأعماق دمعة..
تصنع الأحزان في الروح الشريدة
تبعث الإصرار يجتاح المآقي،
وبجسمي ألف إنسان يصيح :
” قد مضى الركب ولازالت قيودك
حيث كانت..!!
صلبة مثل الصخور
والجماهير المريضة..
لم تزل في الرمس يخشاها الضياء !
قد مضى الركب مع الحادي يغني
والجماهير المريضة..
دائما تبكي على خاوي المصير،
ثم لا آمال في القلب الكئيب !
لم تزل تلك الطواحين الشنيعة
تأكل الأحلام كالموت الفظيع
قد بدت – يا ويحها – الأنفاس حيرى
ليس تجديها زواياها الحقيرة
تنطوي فيها من الغول الكبير…”
***
كلها كانت تعاويذ قديمة..
كلها زيف وأفكار سقيمة..
لن يموت الشعب!!
مهما عذبت آماله أصوات قيده
سوف لن يفنى وان طال الطريق
إن في عينيه نوراً لن يغيب..
لن يموت الشعب
حتى .. لو خبت في قلبه نار الكفاح
ستجيء الريح كي تذرو الرماد
ولهيب النار يقسو من جديد !
ونشيد الثأر في عرس النضال
ويضيع الرمس..
والطاحون، والغول الكبير.
***
سلام على المطماطي، حياً وشهيداً، ولا نامت أعين التافهين !