قصة

جسر الرماد

دنوت من النافذة، فتحتها، لفحني الصهد الاستوائي، المعربد في وجه الماء، أغـلقـتها واستلقيت على السرير مستلذا بهواء التكييف البارد، قلمي بين أصابعي أدوّره، راصدا بقايا مـداد منحصر أسفـل أنبوب اليراع.. وقّاتتي الإلكترونية تقتطع بعض اهتمامي، فيما عيناي مسلطتان على أرقام الثواني المستحيلة إلى دقائق تطمر جـب المنتصف… دفعني القلق واحتساء الشراب بمفردي إلى مغادرة الغرفة، هبطت المصعد إلى آخـر درك، أمام الفندق عربات التوك توك*، استقللت واحدة إلى الباد بونغ *، ولجت المرقص، احتضنني الصخب، طفقت أرقص بجنون صحبة الهرج والمرج وموسيقى البوب، الفتيات البوذيات القصيرات يعج بهن المكان، الأنوار خافتة إلى أبعد حـد، خفت أن أتورط في ليدى بوي*، ضغطت زر الإضاءة، ما زالت الثواني تحث المسير تردم خانة المنتصف وتبدأ من جديد، أو لعلها تعود من حيث أتت ! أتجرع جرعة لا بأس بها، جرعة ملأ الفم، ماذا أفعل قـربة فمي واسعة من كثر الصياح !! لم أضيع الوقت، اتخذت وليفة مكتنزة في رشق، لا شيء ينم فيها على الذكورة، ناتئة من الخلف، ناهدة من الأمام، شعرها مسبسب طويل، شفتاها ممتلئتان، خصرها نحيل، فخذاها سيمزقان البنطلون، بشرتها ناعمة، صوتها رقيق، رائحتها ياسمين.. لم أعوّل على بصري وحدسي، جررتها إلى خارج المرقص، اشترينا علبة سجائر من بائع رصيف، وأدخلتها كشك هاتف عمومي لبرهة قصيرة، ثم قفلنا عائدين بعد أن تأكدت من نسبة الاستروجين بطريقة لمسية..! أتجرع باقي الكأس، تسكب لي آخر، أرشف منه ومن شفتيها ذات مـذاق الثوم.. أصعد ركح الرقص، أرقص بقوة، أقفز.. أنط.. أصرخ.. أجدب على طريقة الدراويش، أثناء الرقص يتلبسني جن الانطلاق، أنفث شحنات من مكبوتات أعماقي، أعيأ من الحركة، ينز عرقي مدرارا، تنشفه وليفتي بمنديل ورقي وتخرجني من ركح الرقص.. ننزوي في ركن قصي، أتجرع الكأس مجددا وفي دفعة واحدة، كأنني روسي مـحـبـط بردان، أطلب آخر وآخر.. بينما فـلـوتي تحتسي شوربة التوم يام * الحارة وتعمل عوديها في حبيبات الأرز.. يبتسم لنا بائع المكسرات الصغير، يملأ لنا صحنا من الفستق واللوز ويبيعنا عقدا من زهور الفل.. النادلة ترفع الأطباق، ووليفـتي تمسح شفتيها بمنديل وتعيد بعناية وضع أحمر الشفاه.. أشعلت سيجارتين، وامتصصنا.. وزفرنا.. وحشر كلانا سيجارته في مجرى المنفضة القريب منه، قطنتا السيجارتين خارج المنفضة، رأسا السيجارتين متلامستان داخلها، قبلة نارية تحترق..وتحترق.. التقت نظراتنا.. ابتسمنا.. ورفع كل منا سيجارته إلى فيه.. امتص.. وزفر.. امتص  وزفر.. وأعاد حشرها داخل الأخدود.. اسمها بدرية !! ليست بوذية كما ظننت، هي مسلمة من الجنوب التايلندى، اقترنت وفارقت بعد أن أنجبت طفلتين بعملية قيصرية.. رأسها متوسد صدري، ذراعها الأيسر يطوق عنقي، والأيمن أنامله تجوس في مناطقي السفلية، يميني حول خصرها، يساري أرفع بها بين حين وحين كأس الرشف… النشوة ستفجر دواخلي.. انتفضت فتزحزحت بدرية من الكرسي وأبعدت يمينها عن المكان بسرعة.. ابتسمنا.. وصدري يعلو ويهبط، وجمرتا السيجارتين تراجعتا، كلتاهما تقبعت بالرماد، رفعنا السيجارتين، وامتصصنا برهة قصيرة، فتوهجت الجمرتان مجددا والقطنتان فقدتا بعضا من بياضهما الناصع.. أعدنا السيجارتين إلى المجريين، الجمرتان متماستان، تفترسان بعضهما بنهم، مخلفتان هبو فضي مبقع بذريرات سوداء.. عاد رأسها إلى مرفئه وأذرعنا إلى مراعي حواسها، أمسكت خصلة من شعرها، لففتها حول أذني كحبل ميناء، عببت كأسا، وغيرت الوضع.. بوضع رأسي على وسادة صدرها الوثيرة.. ابتسمت لي وأمسكت بشعرة مني هامسة : حبالك قصيرة.. أين سأربطك يا وليفي ؟.. قد تجرفك مني الأمواج العاتية وقد تذروك الرياح العاصفة.. لم أجبها.. كنت منشغلا بسحب الدخان المنساقة إلى السقف حيث مروحة الطرد، كنت منشغلا بدقات قلبها الصاخبة.. -آه.. أجب.. ومسحت براحتها على صدري ووجهي وشعري.. وسادة حيّة ناعمة وعبق عطر بددا انشغالي وأجبراني على الكلام !! حكيت وحكت.. صارت كرة الخيبة بيننا لا تستقر، صدى موشوم يرفض التبدد أو الرحيل، كتلة هم وغم وضيق هائمة في الفضاء.. تقاسمتنا أوجاع الأمس وأحزان اليوم.. تعانقنا هنيهة وانـفـلت عويلنا الأسير.. فلفتنا النظر.. كانت موسيقى البوب الصاخبة قد توقفت واستبدلت بمعزوفة كلاسيكية هادئة، أوقفتنا نرقص متعانقين.. ظلت بدرية تهرش خدها المبلل على خشونة لحيتي الكثة فيما استسلمت أنا للذة ذاك الهرش الحميم !!.. انتهت وصلة الموسيقى وأكرمتنا بتجديد وانتهى التجديد.. وعدنا إلى طاولتنا بعد أن فض الإيقاع الصاخب لذّة الالتصاق.. تهالكنا فارغين خفيفين..كل منا يحملق في سيجارته المحشورة في الأخدود.. الجمرتان تحتضران على عتبتي القطنتين، الهواء بريء، القطنتان مائلتان إلى تحت، الجاذبية بريئة، بين الجمرتين جسر على هيئة أنبوب رماد.. وقفنا مشدوهين حذرين متجنبين لمس الطاولة، جسر الرماد مشيد من قبلة قد تقوضه أي هبّـة ولو كانت يسيرة.. خرجنا من المرقص متأبطين، نسيم الفجر عليل، ورذاذ مطر خفيف ينعش وجهينا المبللين.. والتوك توك ينهب لسان الإسفلت، ينعطف بشدة فنرتمي عكس الإتجاه ضاحكين.. السائق مرح يلتفت نحونا قائلا : مساج.. مساج.. تشيب.. تشيب.. تجيبه سبابتانا الرافضتان، وراحتا كل منا المتلاقيتان فوق الكتف وتحت الخد علامة للنوم !.. يصعد التوك توك جسرا ويهبط إلى منفذ فرعي يفضي إلى طريق غير ممهدة بمحاذاة مجرى تصريف، أعتقد أنه يختصر الطريق لتوفير رشفات من الوقود.. ينعطف بشدة، نرتمي عكس الاتجاه.. أيضا ضاحكين !! ويعيد المراودة كــّرة أخرى..

– مساج.. مساج.. قود مساج قود ليدى.. فيرى تشيب.. شو.. شو !!

– نو.. نو.. هوتيل.. إن ذا روم مساج توقـذر..!!

ويقهقه البوذي معيدا مطوية المساج الدعائية إلى جيب الباب.. يفاجئه قطيع كلاب يقطع الطريق، يتحاشاه صادما مصطبة الرصيف.. صرخت بدرية وضحكت أنا بينما لعن السائق الكلاب وأدار المقود إلى المسار القويم..! في الغرفة خلعت القميص، عـلـقـته على المشجب، وأعددت الشاي الليبي الثقيل، وعاء الشاي يفور، اصطكاك غطائه على محيط فتحته أسمعه بوضوح، بعض البخار يشق طريقه إلى فضاء الغرفة عن طريق خرطوم الصب، أتتبعه وهو يخالط هواء التكييف البارد.. بدرية منهمكة في إصلاح زينتها التي أفسدها البكاء وطول الهرش، صببت كأسين شاي، قدمت لها واحدا.. شكرتني بهزة رأس واستمرت في رسم وتظليل عينيها المشرقتين !! أنفخ كأسي راشفا مختلسا النظر إلى جسدها المكتنز وهي تجلس أمام المرآة.. شعرت بحملقاتي فأنهت زينتها والتفتت ناحيتي في فرح.. اقتربت وهي تنزع عنها بلوزتها، ولاح مشد صدرها شفافا كأنه لم يكن، يظهر بوضوح نفور حلمتيها البنيتين.. آه.. آه.. نهيد داخل نهد.. سيجارتان مطمورتا الجمرتان لفم واحد.. ماما لماذا فطمتيني قبل الأوان حرام عليك؟؟!!.. دار رأسي بلذة، نكسته قليلا.. أثر لجرح طولي هابط من تحت سرتها ليغيب تحت حزام البنطلون.. حملقت في جسدي بفضول.. وسألتني بهدوء..

– محمد ما هذا الكي المنتشر في بطنك وصدرك وجنبيك ؟؟!!

– لاشيء.. لا شيء.. طب عـرب.. طب عـرب.فقط..!!

– حمودى.. كيف طب عرب لم أفهم..!!

– حدث ذلك وأنا صغير.. أخبرتني أمي عن خالتي عن جدتي أنه لولاه لـمـت..!! بدرية لولا هذا الكي لما كنت معك الآن..!…. وتهارش الكي بالجرح والخدان باللحية الكثة، وأطلقنا العنان لكل النتوءات لتختبئ من أوجاع الأمس وأحزان الآن، وتعبر جسر الرمــــــاد الذي تـكـلـس !!

 __________________________________

هوامش :

• التوك توك : دراجة نارية ملحق بها عربة لنقل الركاب.

• الباد بونغ : شارع مكتظ بالمراقص ودور اللهو.

• ليدي بوي : تعني شاب مخنث.

• الاستروجين : هرمون الأنوثة.

• التوم يام : أكلة تايلندية شهيرة.

• المساج : نادي للتدليك واللهو.

مقالات ذات علاقة

الخرساء

أحمد يوسف عقيلة

الهروب

المشرف العام

غربة

الصادق النيهوم

اترك تعليق