قصة

حمّام تركي

من أعمال التشكيلي عمران بشنة
من أعمال التشكيلي عمران بشنة

 كان على “نعيمة” في هذا اليوم الحضور باكرًا؛ ولكن تعطّل (الميكروباص) وطلب منهم صاحبه النزول لينتظروا، وقد كان عليها أن تأخذ ثلاث مواصلات حتى تصل إلى وجهتها. وقفت تنتظر وقد تأخّرت عن دوامها أكثر من السّاعة، ومن حظّها أنّها لم تتلقَّ التأنيب من المشرفة، وربّما لم تنتبه لتأخيرها، مع كلّ هذا الزّحام الشّديد، فقد كان هناك عروستان قامتا بحجز الحمّام مع صديقاتهن، وأقاربهن يصدحن بالزّغاريد والأغاني والأهازيج الشعبية.

 عملت نعيمة منذ نعومة أضافرها مع والدتها في الحمّام، كانت تأتي معها، تساعدها في تنظيف المكان وتجهيزه لاستقبال الزبائن، وكانت كلّما كبرت؛ تتمنّى أن يأتي اليوم التى تكون فيه زبونة، ويكون هناك من يقوم بخدمتها، ودعك جسدها الهزيل المتعب. كانت تنظر إلى هؤلاء النسوة نظرة غيرة، ودائمًا تقول في نفسها:”لماذا حظّهن أفضل مني ؟ ما الاختلاف بيني وبينهن؟” وأحياناً كثيرة تجد نفسها تترجم هذه الأفكار، وهذا الإحساس بالظّلم، بأن تدعك بقوّة إحدى الزّبونات حتى تألمها، وتسمع صراخها ويظهر الاحمرار على جسدها. وصار حلمًا أن يكون لها بيت وأولاد، وأن هناك رجل في حياتها، يغنيها عن العمل والخروج والشقاء.

 يبتعد عنها رويدًا رويدًا، وذلك بعد مرض أمها وقيامها هي بمهامها؛ لتعول أسرتهم الكبيرة، وحاولت أن تقنع نفسها، أنّه يجب عليها فقط أن تعمل، لا أن تحلم أبدًا..

 كان البخار كثيفًا وقد تصبّب العرق من الأجساد البيضاء والسّمراء، وأصبحن كأنّهن تماثيل رومانية تساقط عليها الندى ، كانت واقفة تنتظر أن تطلب منها العروس أن تبدأ في عملها، وقد فاحت رائحة اللافندر والليمون من فقاعات الصابون العالقة بين يديها: ….

 أنتِ ما اسمك؟ انتبهت إلى صوتها وهي تناديها. –

– اسمي نعيمة. –

– تعالي يا نعيمة ادعكي لي ظهري، حتى يبدو شديد البياض، لامعًا كمرآة مصقولة. تعرفين أنّني عروس وغداً يوم زفافي، وانفجرت ضاحكة مردّدة: نعم، سأجعله كذلك….

 شعرت بأن ضحكتها مستفزّة، وكأنها تتباهى عليها وتحتقرها، وشعرت بشيء ما ينهش قلبها، فأخذت جردل الماء، وشرعت تصبّ الماء على رأس العروس وعلى جسدها بطريقة متتابعة، حتى صرخت وقالت لها:

توقّفي أكاد أختنق؟ وتابعت وهي تلتقط أنفاسها: –

– لماذا فعلتِ ذلك؟ أتريدين قتلي؟

 أطرقت رأسها ولم تجب، وتساءلت في داخلها:

” لماذا فعلت ما فعلت؟

هل أنا فعللًا أردت قتلها؟

هل وصل بي الحقد والشعور بالظلم الى هذا الحد؟”

 شعرت بالارتباك والهوان عندما صرخت في وجهها، وطردتها وقالت لها: “اخرجي من هنا أيّتها الغبية الحاقدة..”

 خرجت مطرقة الرأس تشعر بغليان في صدرها، فلم ينعتها أحد من قبل بهذه الصفة. شعرت بدموع ساخنة على خدّيْها المبلّلتين بالماء والعرق، كان البخار يحجب الرؤية عندما ارتطمت بمديرة الحمّام، وسمعت صوتها الأجشّ يناديها:

– لقد تأخّرتِ اليوم عن دوامك، وسأخصم من راتبك. هل ظننتِ أنّي غفلت عنكِ.

– يا لهذا اليوم السّيّئ وهذه الحياة التي تدير لي وجهها، سأخرج من هنا ولن أعود أبدًا. رمت قطعة الصابون التي بيدها بقوّة، وبخطوات سريعة كانت أمام الباب الخارجي، ودلفت إلى الشارع وهي بملابسها المبلّلة، تخللتها قشعريرة عندما لفحها الهواء في الخارج. اجتازت الشوارع الضيّقة حتى وجدت نفسها في محطّة الحافلة؛ لكنّها لم تنتظرها، ظلّت تمشي على غير هدى، وهي تسمع خلفها ضجيج السيارات وأبواقها، ولم تنتبه وهي تقطع الشارع، بأن هناك سيارة مسرعة، التقطتها ورمت بها على الأسفلت…

كانت تسمع أصوات وتمتمات من التفوا حولها

لقد شعرت بكل هذه الدّماء التي نزفت من أنفها وفمها، كانت تشعر بتلك الأيادي التي تحملها، وأخذتها إلى هناك حيث النّهاية. وضعوها على قطعة رخام طويلة ليست دافئة، كتلك التي في الحمّام التركي، إنّها باردة كالثلج، و كان هناك من سيغسل جسدها الذي انتظرته كثيرًا، ويجعله مصقولًا كالمرآة.

مقالات ذات علاقة

جثث خارج الطوفان

محمد دربي

تـجربة

الصادق النيهوم

طريق رصاصة

محمد عبدالله

اترك تعليق