مثل إدغار الان بو وكافكا وإلى حدٍ ما ماركيز ، لا يرحم القاص والروائي الألماني باتريك زوسكند أبطاله ويمارس عليهم الكثير من الضغوطات حينَ ينتقيهم من الواقع أو يخترعهم من مخيلته ويجعلهم مأزومين غير منتمين للوسط الذي يحيون به ، والأمرّ من ذلك هو مقدار الألم الذي يصيبهم بهِ جراء وضعهم في ظروف نفسية قاسية أنتهت بواحد منهم إلى الموت انتحاراً بشكل مادي مباشر ، وأدت بالآخرين إلى الانتحار المعنوي المضمر عن طريق الانسحاب والعزلة والهروب الفردي ، ليس اختياراً في الأغلب ولكن كنتيجة حتمية للأزمة النفسية والمعاناة الشديدة التي يمرون بها والضغوطات التي يرزحون تحتها.
حياة تتداعى
في مجموعته القصصية الموسومة بـ ” ثلاث حكايات وملاحظة تأملية ” تتضح بجلاء تفاصيل هذا الخط الذي انتهجه الكاتب ، حيثُ تسير حياة الفنانة التشكيلية الشابة على أحسن ما يرام في القصة الأولى المعنونة بـ ” بحثاً عن العمق ” إلى أن تُقيم معرضاً تشكيلياً لأعمالها الفنية تدعو إليه الجمهور والمختصين وبعد الافتتاح يوجه لها أحد النُقاد التشكيليين ملاحظة عابرة مفادها أن أعمالها الفنية جيدة ولكنها تفتقر إلى العمق لتقضي الفنانة بقية حياتها وهي تبحث أو تحاول الوصول إلى فهم العمق الذي قصدهُ الناقد وفي سبيلها لذلك تهمل فنها وتهمل حياتها وتنسحب إلى داخلها وتهرب من المجتمع والناس وتتطور أزمتها النفسية الحادة التي وُضِعت بها جراء ملاحظة صغيرة قالها ناقد عابث وبلا أدنى شعور بالمسؤولية وذهب لحال سبيله ، وبعد معاناة قاسية وصراع نفسي مزقها من الداخل شر ممزق وضياع لا يُرجى الشفاء منهُ تُنهي البطلة حياتها منتحرة قفزاً من بناءا عالٍ لتنتهي حياتها نهاية تراجيدية سوداء وليعود الناقد نفسه في مناسبة تشكيلية أُخرى بعد مماتها ويسبغ على تجربتها حكمهُ بأنها بحث جاد عن العمق أي أن الحكم النقدي الأول الذي راحت البطلة ضحية بسببه والقاضي بالافتقار للعمق لم يكن صائباً، وأنهُ في احسن الأحوال لا يمكن الاطمئنان إلى آراء النقاد لأنها متلونة وقابلة للدحض والتفنيد ليس من قبل نقاد آخرين وإنما ممن أطلقها نفسه وهنا تكمن المفارقة أو الكارثة .
على هذا المنوال من الرعب والشقاء النفسي والتأزم والاستسلام للأوهام والوساوس والهواجس القاتلة والإحساس بالفراغ الروحي ولا جدوى العيش تتكرر الشخصيات الرئيسية من قصة إلى أُخرى ومن رواية إلى أُخرى في روايات ” الحمامة ” و ” العطر ” لزوسكند .
أبطال زوسكند في المجمل لا مبالون متوترون قلقون على الدوام وحتى مجرمون ومنكفئون على ذواتهم ميالون للعزلة ومغادرة العالم حساسون للغاية في التعاطي مع الحياة والمُحيط والمؤلم في الأمر أنهم لا يدركون أنهم غير أسوياء وأصحاب شخصيات غير متزنة إلا بعد فوات الأوان أو لا يدركون ذلك بالمرة .
بداية الذبول
في قصة ” الصراع ” ثاني قصص المجموعة ينفذ القاص إلى دخيلة بطله العجوز لاعب الشطرنج الأقوى في حديقة لكسمبورج الباريسية وبعد أن ينتزع الاعتراف بمهارته وبتفوقه على الجميع تخذله مهارته وقدرته فهو الأقوى والأهم في لعب الشطرنج حتى يأتي ذلك الغريب والمجهول الهوية الذي يتغلب عليه أمام رفاقه الذين طالما هزمهم بذكائه الشطرنجي الحاد ويمرغ سمعته الشطرنجية في التراب ، هذا الغريب الذي أتى من المجهول فقط ليكسر هذه الأسطورة ويحطم هذا الكبرياء ويُنهي ملحمة التفوق بنقلات رشيقة ومحسوبة بدقة وحين ينتهي من أداء مهمته يغادر كما جاء إلى حيث لا أحد يعلم تاركاً البطل يصارع هواجسه ووساوسه ويلوك هزيمته ليقرر عقب هذه الخسارة النكراء اعتزال لعب الشطرنج والاكتفاء بلعب لعبة ” البولة ” التي لا تحتاج إلى كثير عناء نفسي ولا ينتج عن لعبها ضغوطات نفسية هائلة وقبل أن تتأزم حياته أكثر يقرر البطل العجوز التوقف حفاظاً على توازنه النفسي الذي اجتهد القاص في تشريحه عبر الغوص عميقاً في نفس شخصية البطل الذي لم يتقبل حقيقة هزيمته ، وما كان هذا ليتم بالصورة الصحيحة لو لم يهيئنا القاص ويصف بطله من الخارج ، بكلمات طفيفة أفلح المترجم في نقل طاقتها التعبيرية فهو الرجل الضئيل القبيح الذميم الذي يبلغ من العمر حوالي السبعين عاماً يرتدي بزة المتقاعد الفرنسي ذات البنطال الأزرق والصديري الصوفي والملوثة ببقايا الطعام وعلى يديه المرتعشتين تظهر علامات الشيخوخة ، شعره خفيف وأنفهُ خمري وعروق وجهه بنفسجية طليق الدقن ويمج سيجارته بعصبية ، يهز رأسه بلا انقطاع متفكِّراً ويتململ في كرسيه باستمرار ، وهذه الصفات مناقضة تماماً لصفات غريمه الشاب الممتلئ حيوية والمتوقد الذكاء ، وهذه الصفات الشخصية للبطل من إيرادها بهذا الشكل وكأنَ المؤلف ابتغى لقارئه أن يكون على علم بعمق أزمة بطله وشدة معاناته النفسية قبل كل شيء ، قبل وأثناء وبعد القصة ولم تأتِ هذه الهزيمة ربما إلا لتتوج حياة من الإحباط يحياها العجوز من قبل ولم تكن إلا فرصة للهروب والانزواء من شيء لا يدركه سواه .
واقع كابوسي
ثالث قصص المجموعة واطولها أسماها كاتبها ” وصية المعلم موسارد ” وكما في روايته الشهيرة ” العطر ” أطَّرَ حكايته بزمن منقضي إذ تدور أحداثها في القرن الخامس عشر .
وأما شخصية البطل هنا فأنها ليست مأزومة نفسياً فقط ولزمن محدود بل هي شخصية مجنونة بكل معنى الكلمة وتعيش في عالم لا واقعي اخترعته وملأتهُ بالرعب والخوف والذعر والأوهام والهلاوس على طول الخط ، إذ يفترض البطل وعبر شرحه لنظرية يعتقد أنهُ اكتشفها دون سائر البشر ، أنَ العالم يسير نحو التصدف ، أو بمعنى آخر نحو التحجر وأن الحجر سيغزو العالم لتكون نهاية الأرض ومن عليها في شكل صدفة كبيرة أو حجرة واحدة ، وهو ما جعله ينفق آخر أيامه في شرح وتوثيق هذا الاكتشاف المذهل الذي ذهب في الإيمان به إلى أن يتحجر جسده هو شخصياً بعد مماته ولم يستطع أحد تمديد الجسد الذي تصلب وتخشب في هيئة الجلوس مما اضطر الأحياء الذين تكفلوا بدفنه إلى صنع تابوت قائم الزاوية ليتناسب مع وضعية الجسد ، ولإيمانه بهذه الفكرة الجنونية الشيطانية التي خطرت بباله بعد حياة حافلة بالنجاحات المادية والمعنوية وتكوين ثروة معتبرة ، اجتهد في تقديمها وشرحها بإسهاب في وصيته الأخيرة التي جاءت كصرخة تحذير للعالم حتى يتفادى المصير المحتوم بالتصدف والتحجر أو التحول إلى صدفة كبيرة ويستحيل العيش وسطه لأن كل شيء حينذاك سيتحول بدوره إلى حالة التصدف المرعبة.
وسط هذه الأوهام والهلاوس والأخيلة يشكل القاص شخصية بطله ويفصلها بحسب هلاوسها وليختار لها نهاية تليق بجنونها ولا معقوليتها مازِجاً في هذه القصة وغيرها من القصص المعقول باللا معقول والواقعي بالمتخيل والحقيقة بالأوهام على طريقة الواقعية السحرية أو أبعد ، إذ لا يكتفي بوضع إطار واقعي لمسروداته حين يضخ في جنباتها بعض الجنون واللا معقول والما فوق واقعي فاسحا المجال للخيال لقول كلمته ولوضع بصمته على العمل القصصي ، ولا شك في أن لهذا التوجه كبير أثر على التأسيس لجاذبية يتطلبها أي مشروع سردي.
عالم هش
بينما يعاني بطل القصة الأخيرة ” ملاحظة تأملية ” من فقدان ذاكرة مؤقت وجزئي أو فقدان للذاكرة الأدبية تحديداً إذ يكتشف ذلك اثناء قراءته لكتاب معين ينتقيه من مكتبته ومن خلال الحواشي المكتوبة على هوامش الصفحات والخطوط الموضوعة بعناية تحت الجُمل والكلمات ، يعتقد أن قارئاً آخرا وضع هذه الخطوط والإشارات وحين يستغرق في فعل القراءة وينفعل لبعض الجُمل النثرية والأفكار وتشده صياغاتها ويهم بتدوين بعض الملاحظات حولها في الحواشي يكتشف أن هذه الملاحظات موجودة بالفعل أو وضعها القارئ السابق الذي أحس أنه يرتبط معه بأخوة روحية والذي لم يكن في واقع الأمر إلا البطل ذاته الذي دوَّنَ الملاحظات في قراءة سابقة ثمً نسيَ ذلك .
وتبلغ معاناة البطل ذروتها عندما يكتشف أن كل الوقت الذي أمضاه في قراءة الكتب وهو القارئ النهم الذي لا يفوت فرصة للمطالعة ، لم يكن إلا ضرباً من العبث ونوعاً من اللاجدوى حين لا يتذكر شيئاً من الذي قرأهُ واستمتع بقراءته سابقاً فها هو يستعرض ظهر الكتب المصفوفة بمكتبته ولا يتذكر من تفاصيلها شيئاً فهو الآن نسيَ ما قرأ في كتب جان جاك روسو وكتب شكسبير ودوستوفسكي وغيرهم الكثيرون ، فما فائدة أن يستمر وما فائدة أن يقرأ ما دامَ كل ما سيقرأه سيندثر ويتبخر من ذاكرته كما اندثرت الكتب السابقة تحت وطأة مرضه الذي أسماه فقدان الذاكرة الأدبية ولن يعود بإمكانه استحضار شيئ منهُ والاستفادة مما قرأه، وغني عن القول أن شخصية البطل هنا وكما في كل القصص تقريباً متوترة وقلقة مع أنها قد لا تعي وضعها وتعاني من الضعف والتشتت واللا استقرار النفسي وتتمحور حول نفسها وتعيش وحدة رهيبة وعزلة قاتلة ، وهذه الحالة المضطربة قابلة للتطور والتفاقم إلى حيث لا أحد يعلم حتى المؤلف نفسه ، ورغم أن كل الشخصيات التي اضطلعت بدور البطولة هنا بالغة وراشدة إلا أن القاص لا يذكر شيئا عن حياتها الأسرية الأمر الذي يفاقم من وِحدتها ويرخي عليها هالة من الكآبة في نظر القارئ الذي لن يتردد في النظر إليها بشفقة ويتعاطف معها في محنتها السرية في الأغلب والتي وشى بها المؤلف حين جعل منها هدفاً لقصصه .