الهايكو فن شعري نشأ أول ما نشأ في اليابان القديمة فرضتهُ الطبيعة الرائِعة والجمال الفائض والخُضرة المتفاقِمة ولبى حاجات في أنفُس الشعراء والمنتمين إلى الطبقات البورجوازية من الأُسر الحاكمة والتُجار وأصحاب الأملاك خاصةً , ولئِن اقتصر في القديم على وصف الطبيعة والتغني بجمالها وإبرازها بالكلمات ووضع مُعادل لغوي لها حتى يتم تذوقها والاستمتاع بها بشكل كامل وحتى يتم تخليدها وجعلها حاضِرة كما ينبغي , لئِن اقتصر على هذه المهمة وكانت كافية حينها , فإنهُ تمدد في العصر الحديث وتجاوز ما كان مقتصرا عليه لتشمل اهتماماته كل أوجه الحياة , وهو لا يُحلق في سماء الخيال كما يتبادر إلى ذهن البعض بل يغوص في طين الواقع ويخوض في طمي الحياة ليلتقط العادي والغير مُلتفت إليه والعابر ليجعل مِنهُ مُختلفاً ومُدهشاً وباعث على الذُهول والأنبِهار , ليجعل مِنهُ فناً وأثراً باقياً من خِلال تخليده بالكلمات وتأبيده باللُغة , بعدَ تدوينه , والهايكو لا يُعول على المجاز وما وراء المرئي والغير محسوس بِقدر ما يتأمل في المادي والملموس والظاهر , وتبعاً لِذلك لا يعتقد الغير مُطلِع على نماذج كافية منهُ أن الهايكو فن سهل المنال ومُتاح للجميع فالمعاني مطروحة في الطريق كما يُقال ولكن ليس مُتاحاً للجميع العثور عليها أو التعثُر بِها , ففيما يمر عليها السواد الأعظم من الناس مرور الكِرام غير واعين بوجودها أصلاً لا منتبهين لها , ترصدها القِلة المرهفة الإحساس ويلتقطها البعض مِمن أوتوا ملَكة التأمُل والغوص في ما وراء الأشياء واستخلاص المُدهش والاستثنائي فيها , عبر اكتشاف التناقُضات والمُفارقات التي تنطوي عليها , ومن خلال اللغة يستطيع متعاطي قصيدة الهايكو أن يؤسس علائق جديدة بين الأشياء المُتأمل فيها وبِها ويستحدث أواصر فيما بينها عبر مُقارناته ومُقارباته لينتهي إلى وضع خُلاصة فنية جمالية كما في بقية أنواع الشعر , بل حتى وضع معاني جديدة ورسم صور غير مطروقة وتوسيع أفاق التأويل , ويستوي الهايكو كفن من فنون القول التي تستقطب الكثير من الذوائق , مع الحِكمة في كونها تتغيا الوصول إلى وضع خُلاصة وتأسيس قيمة أخلاقية في نهاية اجتهاداتها , فالهايكو هو الآخر يتغيا وضع قيمة , سوى أنَ قيمته التي يسعى إلى بلوغها ليست قيمة وعظيه إرشادي تناصحيه تزول مع الوقت , بل قيمة فنية جمالية قادِرة عل استنطاق الطبيعة والأشياء وتشريح الظواهر , وقول الحياة , وكل ذلك بِأقل قدر من المفردات فالهايكو أيضاً لا يحتمل ولا يقبل الإسهاب والاسترسال والإطالة والتوسع وإنما يكتفي من الكلام كله بِجُمل مبتسرة وكلمات يسيرة ومُعبِرة ومقاطع قصيرة تقول كل ما لديها في سرعة برقية خاطِفة وتضع حمولتها من الدهشة في ذائقة المتلقي قبل أن تُدير لهُ ظهرها وتُولي مدبِرة , فيما هوَ يُلاحِقها طالِباً المزيد من المبررات والشروح , أي أنَ هذِهِ القصيدة قد تُبذر الأسئِلة في تُربة متلقيها حينَ تمُد لهُ أنامِلها في تمنُع من بعيد , فيما هوَ لا يرضى بِأقل من أن احتضانها ومُعانقتِها واحتواءها كامِلة .
وكغيرها من أنواع الشعر الأٌخرى , لا سيما الحديث منهُ , مجال تحرُك قصيدة الهايكو هوَ الحياة بِرُمتها أو بِكُل ما هوَ ظاهِراً منها في الحرب والسلم في البر والبحر في السماء والأرض في المدن والأرياف ومن كل ما يرى الشاعر وبقليل من التأمل والغوص في ما وراء الظواهر وبالكثير من الصبر والمُثابرة يستطيع أن يلتقط الاستثنائي والمُغاير ليعمد إلى صياغته فيما بعد في جُمل مقتضبة تُحيط بالرؤية المتشكِلة في ذهنه وتحتوي الفكرة كامِلة وتستنسخ الدهشة المتولدة من هذا الاجتهاد .
الكل يقف أمام البحر مستشعراً اتساعه مستحضراً عمقهُ متحسساً زرقته متأمِلاً أمواجه وهيَ تتدافع نحو الشاطئ الرملي أو الصخري قبل أن تتفتت وتتلاشي لتُعيد تشكيل نفسها من جديد هُنالِكَ في الأعماق وهكذا دواليك إلى ما شاءت لها طبيعة الأشياء وفيزياء المادة وتفاعلاتها , غيرَ أنَ القليلون هم الذين يجدون في هَذِهِ الحركة المتكررة والفعل الطبيعي ما هو غريباً ومدهشاً وباعث على الإثارة إذ يرون فِيِهِ ما لا يرى الآخرون وإلا لما قال أحدهم :-
الموجة المندفِعة نحو الصُخور
منحوتة هائِلة . .
لِلحظات .
وبينما ينشغل الآخرون بالقريب والمُتاح من المرئيات , يذهب شاعر الهايكو إلى ما هوَ أبعد من ذلك ويُحلل الأشياء وفقاً لمنطقِهِ الشعري فيقول بعدَ أن يُلقي بِنظرة هُنا ونظرة هُناك فيجد شيئين أو منظرين يُمكن الربط بينهما واستخلاص مُفاجَئة من خلال هذا الربط أو المواجَهة التي استحدثها وحبسها في كلمات مُعبِرة , فبينما الشاعر يتوجه إلى المقبرة للمُشاركة في دفن أحد المتوفين وهو يسير خلف النعش أو بموازاته يرى على جانب الطريق أرجوحة وطفل يلعب , لا ينتبه الآخرون لِهَذِهِ المُفارقة إذ يتجاور الموت والحياة , البداية والنهاية , وتبرق فكرة القصيدة في ذِهنِهِ ليُنشئ قائِلاً من وحي اللحظة المُعاشة اللحظة الفارِقة :-
في الطريق إلى المقبرة أرجوحة
الطفل يلعب
وموكب الجنازة المهيب يمُر .
ولربما استشعرَ البعض هذه المُفارقة عندَ مرورهم غيرَ أنَ الشاعر فقط هو من يستطيع أن يُعبر عنها بهذا الشكل الفني الجميل .
وها هوَ الشاعر يستلقي فوق سريره مسترخياً متأمِلاً وفي التفاتة خاطفة منهُ إلى نافِذة غرفته المُطِلة عل منظر جميل بسماء نقية وزُرقة ناصِعة تبرق في ذِهنِهِ فكرة القصيدة ويزورهُ الإلهام حينَ يتصور ان النافذة ليست مجرد نافِذة كما هوَ ظاهِراً بل هيَ أكثر من ذَلِك , هيَ لوحة فنية متكامِلة قادِرة على أن تبعث الأنشِراح في صدره وتمُدَهُ بِأسباب الحُبور .
نافِذتي المفتوحة
لوحة على جِدار غُرفتي
لم يرسمها أحد .
وبالانتقال خطوة أُخرى إلى الأمام نقرأ لأحد المتأملين قوله :-
شجرة السدر
تفتعل الخُضرة
بِغضّ النظر عن المُحيط الاجرد .
فَمِن المعروف أنَ هَذِهِ الشجرة قادِرة على أن تعيش في أقسى الظُروف البيئية من حرارة وسُخونة في الجو – دون ماء يُذكر – وتظل بعض الأحيان مُحافِظة على خَضرتها في قلب فصل الصيف في المناطق شديدة الحرارة بِعكس بعض الأشجار الأُخرى التي لن تلبث أن تجُف وتذبُل أو حتى تموت تحت درجات الحرارة المرتفِعة ولا يُضاهي هَذِهِ الشجرة في قدرتها على مقاومة وتحمُل تبدُلات الطقس وتقلبات المناخ إلا أمُنا النخلة , خُلاصة القول أن الشاعر الذي رأى الشجرة في الصحراء لم يمر عليه المنظر مرور الكِرام ورأى فيه بطولة أو ما شابه وتأمل فيه بروية وتأني حتى استوت القصيدة في نفسه الأمّارة بالشعر ومن خِلالها بعثَ برسائِل جمالية وفنية عديدة .
وليس من شروط كتابة قصيدة الهايكو أن يُشاهد قائلها الظواهر ليستخلص منها مادته الأولية ويستخرج ماءَ قصيدته من بِئرها , فالأمر لا يتوقف على المُشاهدة والمُعاينة والوقوف على الأشياء فبمكنة الشاعر ومن خلال مؤهلاته التي يكون قد تحصّل عليها وكوّنها بِمراكمته للمعارف المختلفة والقِراءات المتنوعة والمتعددة والمتتالية وقدرته على التخيل والسفر الافتراضيّ دون مغادرة المكان , بمكنته أن يتمثل المشهد أو المنظر أو الموقف والحادِثة والقصة ويعتصرها ليستخلص قصيدته الخاصة , إذ هذا ما دلتنا عليه التجربة وما أفصحت عنهُ المعايشة الطويلة للهايكو الذي قد يلتقي مع القصة الومضة في بعض الخصائص والوجوه , وهوَ بِلا مواربة وبحرية تامة يتحرك في منطقة النثر ولا يقبل بأي شكل من الأشكال الظُهور في أهاب الشكل التقليدي للقصيدة العربية القديمة ولا يستوي إذا ما اختار القافية طريقاً له أو اتخذ من الأوزان شكلاً يصل من خلاله إلى المتلقي , والهايكو كفن قولي في غير حاجة لعنوان أو عتبة لتقديمه للقارئ وإنما يُقدم تقريباً في حالته الأولى دون تهيئة , ويستطيع المتلقي أن يضع للقصيدة عنوانه الخاص , ولكن ليس قبل قراءة النص .
التجاعيد في وجه العجوز
وقد حفرتها السنون
خريطة قادتهُ إلى كنز الحِكمة .
وها أنَ الشاعر لا يرى في الأخاديد المرسومة على مُحيا الرجُل العجوز محضُ تجاعيد وضعها الزمن وحفرتها السنون حينَ يرى أنها ضرورية لبلوغ الحِكمة والرزانة إذ يُصوِرها لنا على أنها خريطة أو تخطيطات من خِلالها استطاع العجوز العُثور على كنزه الشخصي والعبور إلى المنطقة الآمِنة , وهل ثمةَ ما هو أغلى وأثمن من حُسن التصرف والحِكمة التي من أوتيها يكون قد أوتيَ خيراً كثيرا .
وفقط عين الشاعر باستطاعتها أن ترصُد هَذِهِ البداهة العجيبة وهَذِهِ العدالة التي تُجريها الطبيعة على كائِناتها فاللكُل نصيبه وحصته حتى من الجمال والبهاء إذ .
كباقي اللوز
تُزهِرُ اللوزة المُرّة .
ووحدهُ الهايكو يقدِر أن يكتشف هَذا التناقض الصارخ ويُقدمهُ في جُمل طفيفة ورشيقة من خلال هذا المشهد إذ يقول الشاعر :-
تحت الشمس الحارِقة
يتصبب عرقاً
بائع المُثلجات .
ولنا أن نتصوره وهوَ مُحاطاً بالأطفال ومنشَغِلاً تماماً بتلبية طلباتِهم والعرق ينز من مسام جسده وهو ملتحِفاً برداء العرق .
وحارس المقبرة الذي طالما حرسَ المقبرة وسَهرَ على هدوئها وراحة سكانها وحرَصَ على عدم إزعاجهم , صارَ من سكانِها وبالتالي احتاج إلى من يحرسه – لا أعرِف مِمن ولا من ماذا – هوَ الذي أضحى من أصحاب القبور وأهل التُراب .
ترقية داخلية
من حارس إلى محروس
حارس المقبرة .
______________
نشر بموقع الزيتونة