المقالة

فاطمة عثمان: خرابين يا وطن

الكاتب مع الشاعرة فاطمة عثمان فى منزلها بهون - نوفمبر 2000. (توفيت الشاعرة بتاريخ 7 يونيو 2007) عن موقع ليبيا المستقبل
الكاتب مع الشاعرة فاطمة عثمان فى منزلها بهون – نوفمبر 2000. (توفيت الشاعرة بتاريخ 7 يونيو 2007)
عن موقع ليبيا المستقبل

ينصرم التاسع عشر… يرحل بعيدا.. ثم بداية القرن العشرين. الجفرة هناك فى الوسط بعيدا عن الساحل. ودان وهون وسوكنة وعلى البعد زلة والفقهه. صحراء وقيظ وحفيف نخل فى الظهيرة. شمس وقمر. وايقاع درابك. هون فى الوسط تماما. هون الحويله. سيدى اعمر. طرق القوافل وصدى الاغانى فى بعض الاعراس واغانى الشجن اْوقات الجباده. وفى الاطراف شعراء وكلمات تصدح بلا توقف.. جعجوع العكعوك وقنانه وعبدالمطلب. والحياة تسير.

فى البلدة القديمة.. اْزقة ودروب. اْقواس وقورة وبيوت واْسقف من جذوع النخل واطئه لكنها باردة فى الصيف دافئة فى الشتاء. سيدى جناح والبركة ورجال الله. وفاطمة عثمان بنت الحاج امحمد عثمان تستقبل الحياة فى تلك البيوت. مرحبا يالافيه. قدومك خير وعافية. وتحتفل الاسر وتبتهج بالمواليد والربيع.. والحياة التى تسير.

فاطمة عثمان والدتها عائشة.. شاعرة معروفة فى هون وماحولها. وشقيقتها خديجة عثمان شاعرة اْيضا وراوية للشعر الشعبى.. ملمة بتراث هون الاجتماعى.. تحفظ لقنانه ومحمد بن زيدان. قصائدها وقولها اكثر من فاطمة. كانت مقلة فى نظمها.

اسرة ضمت شواعر دون الشعراء. القول والفن. التراث والتاريخ. وهون مفعمة بوهج اللحن والكلمة والايقاع. جمعة عبدالجليل. عمر مسعود. عبدالسلام عبدالجليل. محمد تامر. العربى شنيبو. الحز والنخيخ والدبدبة والغناء والحنين. وقبل ذلك وامتدادا معه.. رقية العلوانى.. يسلم على من يسلم على. حبيب قاصده بالمحبة جفانى. جيتى موح عنى يامرادى. م المغرب تقوى ناره.. تراث كبير.. سرق واْسيىْ اليه من اخرين. لكن الحياة تسير.

وفى موسم الصيف. اللهب والقيظ. يرحل الشعراء الكبار. رحيلهم مثل الحر ساخن جدا. يفور ولايهداْ. احمد رفيق واحمد الشارف وطاغور ولوركا والبياتى وبدوى الجبل والاخطل الصغير ونازك الملائكة وسميح القاسم وحسين الحلافى وجيلانى طريبشان ومحمد عبدالسلام الشلمانى وعبدالله البردونى. وفاطمة عثمان رحلت ذات صيف منذ تسع سنوات. كلمات الشعراء بعضها رقيقة وعذبة واغلبها شديد الوهج والحرارة.. مثل النار.. مثل الصيف. مثل القيظ فى الهروج.

فاطمة عثمان. قالت خرابين ياوطن مافيك والى.. وصمتت. كانت اكثر وهجا من كل الكلمات.. كل القصائد فى حينها. اكثر حرارة. نطقت بالمرارة. جسدت الموقف وحكت عن الحادث الذى حدث. ظلت خرابين شاهدا على ظلم. على عذاب. على غدر. تسعة عشر رجل من هون علقوا على الاعواد. وفتاة كانت شاهدة. اطلت من الكوة الصغيرة فى بيتها. كانت على ميدان الاعدام. ضاعت الاثار. جرفتها المعاول الجاهلة. لكن الذكرى والقصيدة باتت فى النفوس وفى الضمائر. فى هون الصغيرة.. وباتساع ليبيا كلها.

الى اليسار فى الطريق الى سوكنة.. عند عافية.. وهناك ابزينة.. التقى الجمعان. الوطن والعدو. الخيل والفرسان. الخونة والمناضلون. البنادق والبارود. صيحات الشجاعة.

هناك يوم السبت 31.10.1928…

ثم بعد اسبوعين تماما فى 15 نوفمبر.. تسعة عشر رجل يعلقون فى الحبال. يتاْرجحون على الاعواد ثاْرا لهزيمة عافية. ثاْرا لاْى شى. تنام هون والجفرة معها. ينام النخيل وهديل الحمام. ينام القمر. ينام الايقاع والغناء. ينام كل شى. والوطن فى انكسار وذل. لكن الشعر وحده لاينام. يستيقظ. يستنهض الجفرة والوديان والتلال صباحا ومساء. والمعارك فى ارجاء اخرى لاتتوقف. والتاريخ يسجل. وانت يافطمة عثمان الشاهد الوحيد على ذلك الخراب.. على القهر وتعليق الرجال على الاعواد. خرابين ياوطن مافيك والى. وارواح الرجال تهتف عبر تلك الارجاء والبطاح.. ولا اْحد يجيب. كانت هنا ذكرياتهم. وملاعبهم ومعيشتهم. الحز ومواسم التمر والفرح والترفاس والقرعون وحليب النخلة وقوافل الابل. والحياة تسير. هون اْرادها الطليان مقرا للقيادة العسكرية الجنوبية الممتدة من الكفرة الى غات. هناك الفورتى والفوار والمطار. هناك اْيضا يقدم رجال اْخر من الوطن.. من بنغازى والزاوية وطرابلس لتعليم الاجيال والعمل فى هون.. محمود ادريزه ومصطفى السراج ومحمد الهنقارى.. وفى هون يولد اْبنه مصطفى. بعد ذلك باْعوام يكتب ليبيا يانغما فى خاطرى.. تلتقى هون بهذه المدن.. يلتقى شعر فاطمة وتضحيات الرجال وصدى المعارك.. ليبيا يانغما فى خاطرى.. بعد خرابين ياوطن مافيك والى.. وذيلك جوالى.. والبعض فى المشنقة والقتالى. الهجرة الجلاء. النزوح والخوف من المجهول. موت الابتسامة. عانت منه هون بعد المعركة والشنق. يهجر السكان غصبا عنهم فى مسيرات تائهه وسط الغرود والرمال.. الرواغه والابطح وبونجيم والقداحية ثم الساحل. رائحة الشمال والبحر. يرمون بهم فى البويرات ومصراتة وتاجوراء فى اكواخ مثل الزرايب. اْبتعدت هون والذكريات. حتى القطط الاليفة هجرت ورحلت مع اْصحابها. لا يبقى شيئ يتنفس. لاشىْ يبقى مع العسف والغدر والظلام والرعب سوى الفورتى والعلم المثلث الالوان. تبتعد هون ومن بعيد يلوح سيدى عمر وسيدى جناح والقصير والغرابى وغبين. تذوب المرئيات وتتلاشى. والصوت.. صوتك. والقصيدة.. قصيدتك. خرابين ياوطن مافيك والى. هل يستمر هذا الصوت.. يعبر الابعاد. خرابين!!

كنت فى مقدمة بنات البلدة فى عيد الفطر اللواتى اْتين مع اْسرهن لمصافحة السيد احمد الشريف وتهنئته. كان فى هون. وصلى باْهلها العيد.. تكبيرات وتسابيح واْستغفار.

كان عمرك انذاك ستة عشر عاما. وبعدها غادر الى العقيلة ومنها الى تركيا. الوطن برجاله. الوطن يتوحش فيه الخراب حين يكثر المخربون ويغيب الرجال!!

… ويافاطمة عثمان. نفس التوحش. نفس القلق. نفس النزوح. نفس الرعب. نفس الظلام.

خرابين ياوطن مافيك والى !!

____________

نشر بموقع ليبيا المستقبل

مقالات ذات علاقة

الحاجات الإنسانية والاتزانية الاقتصادية

علي بوخريص

وَجَبَ التنبيه

مصطفى الطرابلسي

مقدمة كتاب للجرجاني

المشرف العام

اترك تعليق