ألحان الموسيقار علي ماهر… بأصوات عربية
الموسيقى والأغاني تعد صفحة من صفحات التاريخ الإنساني الزاخر بالعطاء المتراكم الذي يشكل الإرث الحضاري الكبير للبشرية جمعاء. وفي جزء من هذا التراث الموسيقي يذكر المؤرخ اليوناني “إيثناوس” في كتابه (موائد الفلاسفة) أن الناي مصنوع من شجرة اللوتس التي تنمو في الأراضي الليبية، وكان يسميه الشعراء في ذاك الزمن “الناي الليبي”، كما يعتبر هذا الباحث التاريخي بأن الليبي “سيريتيس” هو أولُ عازف على الناي، صنع بدفقات الهواء ونفخات أنفاسه، وحركات أصابعه على فتحات القصبة، أولَ لحن في دنيا الموسيقى.
ولا شك فإن هذه المعلومة الموثقة بكتب التاريخ تؤكد ما أشار إليه المؤرخ الاغريقي (أبو التاريخ) “هيرودت” حين قال بأنه (من ليبيا يأتي الجديد)، وبالتالي فليس غريباً أن يكون الفنان الراحل “بشير فهمي فحيمة” هو أول من أسس شركة فنية باسم “فهيمون” أثناء استقراره في تونس لطباعة أغانيه ونشر موسيقاه المتميزة آنذاك في منتصف العشرينيات من القرن الماضي، وليس غريباً كذلك بأن تفوز أغنية “مربوع الطول” للفنان الراحل سلام قدري بالجائزة الأولى في “مهرجان الأغنية المغاربية” خلال ستينيات القرن الماضي. وليس غريباً أن تنطلق الأغنية العربية في ثوبها العصري الجديد في بداية عقد السبعينيات من القرن الماضي على أيدي الفنان “هاشم الهوني”، والفنان “ناصر المزداوي” الذي نال جائزة الاسطوانة البلاتينية من شركة فيليبس عن ألبومه الغنائي “الغربة” عام 1973 مع فرقته “النسور” في سن مبكرة جعلته أصغر مطرب عربي يتحصل على تلك الجائزة، وكذلك الفنان “أحمد فكرون” الذي اختيرت اسطوانته سنة 1977 في مهرجان مدينة (كان) الفرنسية كأول اسطوانة على مستوى أوروبا وجنوب أمريكا، وأيضاً الفنان “حميد الشاعري” الذي أبدع لوناً جديداً في فن الطرب الشبابي الخفيف وسجل ريادة وشهرة فنية واسعة على امتداد الساحة الفنية العربية من المحيط إلى الخليج.
إذاً طالما أن الموسيقى والأغنية الليبية لها كل هذا الإرث المجيد والحضور التاريخي المشرف، فلابد أن تنال ألحان أحد مبدعيها الفنان الموسيقار علي ماهر اهتمامات المطربين والمطربات في الوطن العربي، وسعيهم لأداء بعض أعماله الموسيقية الجميلة، ولا يمكن أن تظل مقتصرة على أصوات المطربين الليبيين وحدهم، وفعلاً حظي عدد من المطربين والمطربات في المشرق والمغرب العربي على حد سواء بألحان الموسيقار علي ماهر. وأبرز هؤلاء المطربين الفنان الكبير وديع الصافي من لبنان، والفنانة الكبيرة فايزة أحمد من مصر، والفنانة نازك من لبنان، والفنانة عُلية من تونس، والفنان فهد بلان من سوريا، والفنان الكبير عبدالهادي بلخياط من المغرب، والفنانة ميادة الحناوي من سوريا، والفنانة أصالة نصري من سوريا، والفنانة سعاد محمد من لبنان.
وهنا نستعرض بعضاً من هذه الألحان الليبية الجميلة كنماذج أبدعها الموسيقار علي ماهر تفردت باحتوائها على جملة لحنية من التراث الموسيقي الليبي الشعبي الفلكلوري بقصد طبعها بالهوية الليبية المميزة لتكون بصمة شاهدة على قدرة الفنان الليبي الإبداعية على الإضافة للتراث الفني الإنساني كافة.
• أولاً: الفنان المغربي الكبير عبدالهادي بلخياط
يمثل الفنان المغربي الكبير عبدالهادي بلخياط ركناً أساسياً في بناء الأغنية المغربية تلحيناً وأداءً، حيث ظل يتربع على عرشها مع زميله الفنان عبدالوهاب الدوكالي لمدة قاربت نصف قرن من الزمن. وقد بدأ التعاون الثنائي الوثيق بين الفنان المغربي عبدالهادي بلخياط والموسيقار علي ماهر في فترة مبكرة منذ أواخر الستينيات، مما جعل الفنان عبدالهادي بلخياط يحظى بمجموعة ألحان جميلة ورائعة تنوعت بين القصيدة الفصحى والأغنية المكتوبة بالعامية المصرية والمتمثلة في أغنية شارد في الليل، ونشيد عيد التحرير وهما من تأليف الشاعر حسين السيد وهو من أكبر شعراء الأغنية في مصر. ولكن تظل أبرز ألحان الموسيقار علي ماهر التي تغنى بها الفنان المغربي عبدالهادي بلخياط هي أغنية “ارحميني” التي كتبها الشاعر نوري ضو وحققت انتشاراً عربياً كبيراً، ويعتبرها الكثيرون بأنها شكلت تطوراً كبيراً في مجال التأليف الموسيقي الحديث للأغنية الليبية:
(… نظرتُ عمرك لعذابي
ولهواكِ أنا نظرتُ
فيا عذابي من عذابك
ومن هوايا وما كتمتُ
فارحمي عقلي وعيني
وارحمي قلبي ارحميني
إنني منكِ أستجيرُ إليكِ أنتِ…)
والأغنية الأخرى التي لحنها الموسيقار علي ماهر وأداها المطرب المغربي عبدالهادي بلخياط هي قصيدة شعرية باللغة الفصحى بعنوان “غنّي لي الليلة غنّي لي” ألفها الراحل الدكتور علي فهمي خشيم، وأظهر فيها الموسيقار علي ماهر إبداعاً لافتاً في تنويع اللحن وتوظيف طبقات الملكة الصوتية للفنان المغربي عبدالهادي بلخياط فظلت أنغامها مدوية تطرب النفس وتبهج الروح وتحلق بها في سماوات رحبة شاسعة:
(… يا همسَ الليل المتلاحق عند الأسحار
يا فوحَ العطرِ المتناثر عبر النوار
ما أبهى النظرَ إلى عينيك الواسعتين
ما أحلى اللمسة من كفيك الدافئتين
ما أروعَ أن يجرفني معك التيار
غنّي ليّ الليلة غنّي ليّ
من عُمقِ القلب
ضميني يا دفءَ حياتي
بدثار الحبْ
مُدِّي عينيك الساحرتين إلى عينيّ
وضَعي كفيك الدافئتين على كفيّ
ودَعيني أتلو صلاوتي لمقام الحب
غنّي ليّ الليلة غنّي ليّ
من عُمقِ القلب …)
• ثانياً: الفنان العربي الكبير (وديع الصافي)
يمثل الفنان اللبناني الكبير وديع الصافي قامة فنية عربية كبيرة وخبرة متراكمة لعقود طويلة في مجال الموسيقى والغناء والتلحين. وأثناء زيارته إلى ليبيا لأحياء بعض الحفلات ولقاء الفنانين والتعرف على المشهد الغنائي الليبي وخلال حوارات تواصلت مع الفنانين الليبيين استمع فيها للكثير من الأعمال الغنائية الليبية، أطلق هذا الفنان الكبير لقب (موسيقار ليبيا الأول) على الفنان الموسيقار علي ماهر، وهي شهادة كبيرة ومستحقة من أحد عمالقة الفن العربي الأصيل، والملحنين الكبار في الوطن العربي. واعترافاً بمستوى الفنان الموسيقار علي ماهر وعلو كعبه في المجال الفني، قرر الفنان الكبير وديع الصافي أن يغني عملاً بعنوان (الوطن) من ألحان الفنان الموسيقار علي ماهر. وقد جاء هذا اللحن طويلاً في أكثر من عشرين دقيقة، صاغ الموسيقار علي ماهر جمله الموسيقية بالقياس وفق الطبقة الصوتية العالية للفنان الكبير وديع الصافي، الذي بدوره أداه بكل ما يملك من تراكم فني في مسيرته الغنائية الثرية فظل منتشياً يتمايل مع أنغام اللحن الجميل بكل سلطنة الطرب الحقيقي، وهو يتناغم صعوداً ونزولاً بحنجرته المدوية ويصدح هائماً:
(الوطن يا لصحاب عند الوفي ماهوش غير تراب
وماهوش بس كلام بين الناس
وماهوش غير أشعار وسط كتاب
حب الوطن يبدأ بحب الناس
إحساس عايش فيه عالي الراس
أنا الوطن عندي رايته الحرية
أجمل مباديء غالية وثورية
في حبها هايم بغير إحساس
من يوم فجر النصر علّم ضيه
منها عشقت الوطن
يا لحباب “يا لصحاب”…)
• ثالثاً: الفنانة ميادة الحناوي (سوريا)
غنت الفنانة ميادة الحناوي حين كانت في قمة عطائها الغنائي وشهرتها الفنية لحنين رائعين من ألحان الموسيقار الفنان علي ماهر كان أبرزهما لحنه للقصيدة الغنائية (غنيّتُ لك .. ولك أغني) التي كتب كلماتها الشاعر نوري ضو وأدتها الفنانة ميادة الحناوي، والذي شكل مع الموسيقار علي ماهر ثنائياً فنياً أثمر تعاوناً وإنتاجاً لعدد كبير من الأغنيات الجميلة التي توزعت بين مطربين ومطربات من ليبيا وخارجها:
(…القلبُ لولا أنْ وجدتك…. لرميته
والحبُّ لولا أنْ عرفتك…. لنسيته
أعدتَ لي ما ضاعَ مني… فكيف ألقاه… أعنِّي
غنيتُ لك… ولكَ أغني
رقصتْ جدرانُ قلبي
فرحتْ آهاتُ حزني
غنّيتُ لك.. ولكَ أغني..)
• رابعاً: الفنانة سعاد محمد (لبنان)
المطربة اللبنانية الكبيرة سعاد محمد تعد من الأصوات العربية الجميلة والقوية في كل من سوريا ومصر ولبنان، وقد سطع نجمها الفني في مجال الأغنية بداية من فترة الخمسينيات من القرن الماضي، ووصفت في مدينة “حلب” السورية بأنها أجمل صوت نسائي عرفته المدينة.
غنت المطربة العربية الكبيرة سعاد محمد عملاً واحداً للفنان الموسيقار علي ماهر حين لحن لها قصيدة (قد كفاني) التي أقتبس الملحن موسيقاها من أجواء الأدوار الشرقية والقصائد الشعرية التقليدية فجاء اللحن هادئاً ومطرزاً برنات الطار على حساب الآلات الكهربائية الصاخبة التي توارت كلياً في هذا العمل الإبداعي للموسيقار علي ماهر:
(.. قد كفاني أن تزلفتُ بعطفي وحناني
وصنعتُ القيد من أحلامي الحمقاءِ عمداً
قد كفاني
لعبةٌ كنتُ ذليلاً
ذقتُ في حُمقٍ ذليلاَ
أزرعُ الوردَ فأجني شوكَ زرعي
قد كفاني
أمنحُ الودَ وأسخو بالعطايا
بعد نبعي سُوحت أنهارُ ربعي
قد كفاني
مِتُ غماً
مِتُ في أعماقِ ذاتي ألفَ مرة
إنني قد كنتُ غِــرَا
قد كفاني…)
• خامساً: الفنانة عليه (تونس)
تعتبر المطربة التونسية عليه من أبرز الأصوات الغنائية النسائية على مستوى المغرب العربي بعد أن تربعت على عرشها الفني في منتصف الستينيات من القرن الماضي. وقد غنّت الفنانة الراحلة علية التونسية عدة أعمال ليبية من بينها أغنية ( لا القلب قلبي) التي لحنها الفنان الموسيقار علي ماهر ونالت الإعجاب والقبول من الجمهور العربي في ليبيا وتونس ولازالت هذه الأغنية حية في وجدان عشاق الطرب العربي الأصيل:
(.. وهيه يا نفسي… ترجيت نفسي عالمواجع تصبر
حاولت ننساهم… وننسى نفكر
لقيت قلبي في هواه يذكر
من حين تشرقي يا شمس لين تغيبي
لا القلب قلبي
ولا حبيبه حبيبي
أنا رميتهم يا شمس وين تغيبي..)
• سادساً: الفنانة أصالة نصري (سوريا)
غنّت الفنانة السورية أصالة نصري في بداية مشوارها الفني عملين من ألحان الفنان الموسيقار علي ماهر هما (ما شي من ذكراكم) و(شط الحنان). وقد تميز اللحن الموسيقي لأغنية (ما شي من ذكراكم) باستخدم آلة البزق الشائع استعمالها في موسيقى وألحان فناني المشرق العربي خاصة في بلاد الشام المتأثرة بالموسيقى التركية مثل فلسطين وسوريا ولبنان. كما أن كلمات الأغنية نفسها عزفت لحن إيقاعها النصي الرشيق، فتراقصت المفردة الرقيقة مع اللحن الشجي بالصوت الناعم للفنانة أصالة نصري:
(مـا شــي مــن ذكـراكـم
من جرحكم ولا زهـاي معاكـم الايام تاهت في سنيـن غلاكـم
حتى بعد غبتوا سنيـن مشيتـوا ما قـلـت حـتــى شـــي
أصـلاً خــلاص نسيتـكـم
وحتى على غفلة بعد مـا جيتكـم
لا والنبي ما تقول عمري ريتكم
لا عـنـدي شـعـور أهـتـز
لا قلبي رقص للشوق من جيتكم
يالـلـي ديار العز
عنكم تهاوى طاح مـن سيتكـم
ما تقول كنتـوا غالييـن عليّـا شهد المحبـة الزاهـرة النقيـة
وشمعة وحيدة في خلا مضوية في ليـل دامـس مـا انطفـت…)
• خاتمة:
إلى جانب هذه الأسماء المهمة في الوسط الفني العربي لحن الفنان الموسيقار علي ماهر عدة ألحان أخرى لفنانين وفنانات من أقطار المشرق والمغرب العربي مثل أغنية (ياللا معانا) للفنانة العربية الكبيرة فايزة أحمد، وكذلك أغنية (تكرام) للفنان العربي الكبير الراحل فهد بلان وغير ذلك كثير. ولا شك بأن هذا الرصيد الموسيقي والغنائي الكبير للفنان الموسيقار علي ماهر، ومسيرة التواصل العريق مع الوسط الفني عربياً يجعله جديراً بأن يكون سفير الموسيقى الليبية في الوطن العربي، لما يملكه من موهبة فطرية إبداعية، وقدرة على الاستمرارية في تقديم الجديد والمتجدد لإثراء الأغنية الليبية المعاصرة الحديثة.
_______________
نشر بموقع ليبيا المستقبل