ابتسام صفر
أصبحت المقدمة ذات أهمية في البحث العلمي، فهي ناصية البحث، وتاج رأسه، تضيء موضوعه، وتكشف محتواه، والمقدمة لها تاريخ عريق في الحضارة العربية ؛فقد أتحفتنا الكتب اللغوية والأدبية بمقدمات تدل على ثقافة أصحابها ووعيهم، وآراءهم حول الموضوع الذي يتحدثون فيه و هناك من غلبت جمال مقدمته على موضوعه فسمي الكتاب باسمها كمقدمة ابن خلدون، كذلك تعددت مسميات المقدمة مثل خطبة الكتاب في كتاب الحيوان للجاحط، وتسمى المقدمة بالتمهيد أو الملخص للبحث في الكتب الحديثة، والهدف من المقدمة هو التيسير للقارىء، وفتح أفاقاً جديدة نحو الموضوع، وقد اخترت موضوع مقدمة كتاب أسرار البلاغة للجرجاني، الكتاب يجمع اللغة والأدب، وهو لأبي بكر عبد القاهر الجرحاني، إمام عصره في علوم العربية، المتوفي سنة 471هجرية، وكتاب أسرار البلاغة طبع عدة طبعات متعددة سنة 1983م،1991م.
موضوع المقدمة:
مما يلفت الأنظار ويبهر الأسماع بدايات الجرجاني في مقدمته كقوله: أعلم أن الكلام هو الذي يعطي العلوم منازلها ويبين مراتبها، ويكشف عن صورها، ويجني صنوف ثمرها، ويدل على سرائرها)ويواصل الجرجاني حديثه عن الكلام وأثره في العلوم، ومكانته بين العقول، وكشفه عن الخواطر والسرائر في النفوس وقوله كذلك عن الكلام لولا الكلام (لبقيت القلوب مقفلة تتصون على ودائعها، والمعاني مسجونة في مواضعها ولصارت القرائح عن تصرفها معقولة، ولماعرف إساءة من إحسان، ولما ظهر فرق بين مدح وتزيين وذم وتهجيين )والملاحظ أن الجرجاني مهد لموضوعه، وشد قارئه متأثراً في مقدمة افتتاحية بالجاحظ الذي يرى (أن المعاني مطروحة في الطريق، ولا عبرة بها في البلاغة والجودة، وإنما العبرة عنده بالألفاظ وحسن السبك والتصوير) وقبل ختام الجرجاني كلامه عن الكلام ومنزلته بين أهل العلم يصل إلى حقيقة علمية متمثلة في قوله (ها هنا يتبين للمحصل، ويتقرر المتأمل كيف ينبغي أن يحكم في تفاضل الأقوال إذا أراد أن يقسم بينها حظوظها من الاستحسان، ويعدل القسمة بصائب القسطاس والميزان)،وفي هذا القول يضع أسس النقد العلمي ودور الناقد المتأمل، وكيفية حكمه بين قول وأخر، وإظهار وجه الاستحسان والقبح، وإثبات ما يقوله بحجة وعدل في قوله، والقاعدة التي يؤسس عليها الجرجاني قوله هي اللفظ والمعنى فيقول (إن الألفاظ لا تفيد ضربا ً خاصاً من التأليف، ويعمد بها إلى وجه دون وجه من التركيب والترتيب، ،وقد حدد الجرجاني في مقدمته الثمينة ثلاثة أركان في القول وهي: دقة التركيب، وسلامة اللفظ، وإفادة المعنى، وهذه الأركان هي التي تبرز النص وتوضح دلالته، وتكشف شخصية كاتبه، وقدراته النحوية والأسلوبية في هذا الميدان، وهذه الأركان تطورت ونضجت في كتابه (دلائل الإعجاز) بقضية النظم الذي قال فيها (النظم أن تضع كلامك الوضع الذي تقتضيه علوم النحو، وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجها التي نهجت، فلا يخل بشيء منها )،وللجرجاني رؤية تطبقية فهو لم يقف تجاه اللفظ والمعنى بشكل نظري بل تعداه إلى التطبيق العملي حول النصوص الشعرية والنثرية، وإبراز دلالة اللفظ النحوي مع تركيب المعاني، وبراعة ألأسلوب، وكان يفرق الجرجاني بين المتذوق والناقد كقوله: (فإذا رأيت البصير بجواهر الكلام يستحسن شعرا أو يستجيد مثراً، ثم يجعل الثناء عليه من حيث اللفظ فيقول: حلو رشيق، وحسن أنيق، وعذب سائغ، وخلوب رائع، فاعلم أنه ليس ينبئك عن أحوال ترجع إلى أجراس الحروف، وإلى ظاهر الوضع اللغوي بل إلى أمر يقع من المرء في فؤاده وفضل يقتديه العقل من زناده)، وهنا يفرق الجرجاني بين المتذوق للأدب والناقد ؛فالمتذوق لبيت من الشعر أو فصل خطاب قد يعجبه طريقة ترتيب الألفاظ، ووقع جرسها، وظاهر معناها دون النظر لدلالة اللفظ وطريقة تركيبه، وإبراز جمال المعنى، فهذا المتذوق محصوراً بظاهر اللفظ، وليس بأهل للصناعة في اللغة والأدب، والقضية التي يعرضها الجرجاني هي أن استحسان اللفظ من غير إشارة إلى المعنى هو استحسان ينقصه التذوق الجمالي للعبارة وأخيرا يرى أن (الفضيلة الوحيدة التي يعود فيها الفضل للألفاظ من غير مشاركة للمعنى، فهي أن تكون اللفظة متداولة بين الناس في استعمالاتهم )،ومنتشرة في أزمانهم، وليس في اللفظة وحشية تنفر السامع أو القارىء أو عامياً يخرج عن موضوع اللغة، وما أجمل ما كتبه الجرجاني في مقدمته المتعددة الأهداف في اللغة وكيفية تنظيم الفكرة، والتذوق الأدبي.ودور الناقد الأدبي.