عندما كنتُ أستمع لأغنية (بين البِركة وسيدي حسين)، وباعتبار أنني لا أعرف بنغازي، فقد كنت أظن أن الشُقة بعيدة والجَوْبة واسعة بينهما، فكنت أشفق على ذلك العاشق الذي لا ليله ليل ولا نهاره نهار، يُمذرح جيئة وذهاباً، قاطعاً كل تلك المسافة في عز القائلة، وفي أنصاف الليالي، عابراً تلك البركة المتخيلة سباحةً أو على ظهر قارب، عله يظفر بنظرةٍ ولو خاطفة من محبوبته!.
في الطريق الفاصل بين البركة وسيدي حسين أشار سائق التاكسي بيده وقال: هذه البركة، وهذه سيدي حسين!
لبرهة من الوقت أُسقط في يدي، وظننت أن كل تعاطفي مع ذلك العاشق المسكين، طيلة تلك السنين، قد ذهب أدراج الرياح.
لكنني تداركت الأمر، ولكي لا أخسر رهاني، ولا أندم على انحيازي التام وتضامني معه، وجدت تبريراً كافياً للعاشق.. ولي أنا!
فالعاشق لديه زمنه الخاص، وقياساته الخاصة، فهو لا يقيس الزمن بالدقائق والثواني، ولا يحسب المسافات بالأمتار، وإنما يقيس الزمن بحجم الشوق، ويحسب المسافات بمقدار النوى والجفاء.
فالزمن بالنسبة للعاشق هو الفترة الممتدة ما بين كل لقاء ولقاء.
والمسافة عنده هي الخط المستقيم الممتد ما بين نقطة الوصل ونقطة الهجران!
وبهذا التبرير تمكنتُ من استعادة تعاطفي وتضامني مع ذلك المتيم الولهان!
إنه لا يُمكن عقلنة العشق، لأن العشق حالة وجدانية لا تخضع لمقاييس الفيزياء ومعادلات الرياضيات، بل لها قياساتها وحساباتها الخاصة التي لا يمكن تلقينها وتعليمها، ولا يصح شرحها وتفسيرها، فكما يقول أهل التصوف: “من ذاق عرف”!
ثمة شيءٌ آخر، وهو أن المسافة بين البركة وسيدي حسين لدى العاشق ليست مسافة ثابتة، فأحياناً تكون بضعة إنشات، وأحياناً تُصبح سنوات ضوئية، وبين هذا وذاك درجات ودركات، لا يعرفها إلا من ذاق، ولا يشعر بها إلا من عرف!
وبالرغم من أن الناس رددوا بعده: “يا ليل يا عين.. بين البركة وسيدي حسين”، لكن لا أحد من الناس، ولا حتى من سكان البركة وسيدي حسين كان يدري عن مرارة الحرمان، وقسوة الجفاء، وألم الفراق، وقلة الحيلة، ورقادة الريح، التي كان يعانيها ويقاسيها ذلك المسكين!
ولا أحد من سكان البركة وسيدي حسين كان يُحس بنار الشوق، وشغف اللقاء، ولوعة الكبد، وحُرقة الحزن، كما كان يُحسها ذلك المغرم الهائم!
ولا أحد من سكان البركة وسيدي حسين كان يعرف شيئاً عن استبداد المحبوب، وهجرانه وإعراضه وتجافيه وابتعاده وصدوده، كما عرفه ذلك الصَبِّ المحروم!
لكن الطريق الفاصل بين بيت العاشق وبيت المعشوق كان الشاهد الوحيد على كل الوجع والآهات والأنين والدموع، وعلى رحلة السعي المضنية بين البركة وسيدي حسين!.