الموسيقار علي ماهر… أغنياتٌ بصوته
كثيرة هي الألحان التي استأثر بها الموسيقار علي ماهر لنفسه واختار صوته للتغني بها، مؤمناً بإمكانيات حنجرته وعذوبة صوته في إبراز التركيبة اللحنية التي أبدعها لتلك النصوص الغنائية ربما بشكل أفضل من أي زميل آخر. ولا نجد في تلك الأغاني أية مواصفات خاصة سواء بشأن المفردة الغنائية، أو الموضوع العام، أو التركيبة اللحنية للجملة الموسيقية، قد تجعلها مميزة عن غيرها من ألحانه التي تغنى بها آخرون. ولكن إجمالاً يمكن تسجيل بعض الملاحظات التي أبرزها أن الموسيقار المطرب علي ماهر قد أدى أغاني باللهجة المحلية إلى جانب قصائد شعرية باللغة العربية الفصحى، كما أنه لحن وأدى مجموعة من الأغنيات الصباحية مثل (نور على نور، يا حلو ماشي صبّح، صباح النور) وربما يكون هو أكثر من اهتم بهذا اللون المحدود من الأغاني سواء على صعيد التلحين أو الأداء. ولكن تظل أبرز الملاحظات هي أن الموسيقار المطرب علي ماهر لم يغني من ألحان غيره من الملحنين طوال مسيرته الفنية كلها، ولذلك فقد ظلت مفاتيح خصوصيات اختيار أغانيه ومواصفاتها موصدة أمام محبي الأعمال الموسيقية والغنانية للفنان المطرب والموسيقار علي ماهر لمعرفة قصص أو أسباب اختياراته الخاصة وظروفها.
اخترتُ أن أستعرض بعض النماذج المتفاوتة من أغنياته (في آخر الليل، أحب الربيع، لما حبيتك، الحرمان) التي أضاف بها ومن خلالها حضوره كمطرب رقيق وبارع يؤدي بشكل متمكن ومميز عدة ألوان فنية من الأغاني تنوعت نصوصها بين التأليف بالعامية أو الفصحى، وذلك للتعريف بهذه الأعمال وبعذوبة صوت الموسيقار المطرب وهو يؤديها بدفقة مشاعر مضاعفة تجمع بين رقة وبلاغة الكلمة التي اختارها بكل عناية، واللحن الشجي الذي أبدعه ووزعه فارتقت كل أغانيه بصوته ولحنه سلم القبول والرضى والاستحسان ورفعت سقفه بين زملائه الفنانين.
1- أغنية (في آخر الليل) أو (يفوت الليل)
ربما تكون هي الأغنية الأولى على صعيد الأداء بالنسبة للموسيقار المطرب علي ماهر، أما بالنسبة للموسيقى فقد أظهرت بشكل واضح وصريح بأنها أغنية آلتي القيثار والأورج وهو ما قد يفسره البعض انحياز الموسيقار إلى آلته التي أتقنها وتخصص فيها وهي آلة القيثار، وكذلك يبين حرصه وينقل رغبته في تطوير التركيبة اللحنية والجملة الموسيقية للأغنية الليبية منذ بداية السبعينيات من القرن الماضي، وهي الفترة التي أبدع فيها الموسيقار علي ماهر لحن أغنيته (يفوت الليل) أو (في آخر الليل) كما تسمى في بعض تسجيلات أرشيف الأغاني الليبية.
ويستهل الموسيقار علي ماهر لحن هذه الأغنية بمقدمة موسيقية تؤديها مجموعة آلات الكمان بمفردها بدون إيقاع، مع ظهور خافت لنغمات تبعثها أوتار القيثار، التي سرعان ما تتصاعد لتنطلق مدوية مع مداعبات مفاتيح آلة الأورج الخفيفة، في فضاء إيقاعي متسارع تبعثه نقرات آلة (البونقز) كتمهيد أو ترحيب بصوت المطرب: (في آخر الليل روحنا زي كل الناس… وفوّت اليوم من عمري زي كل الناس… وطواه الليل)…
وفجأة تعلو الطبقة الصوتية للمطرب في براح متصاعد، وانبساط واسع، يكرر فيه المقطع عدة مرات، ثم يتراجع خافتاً إلى مستوى انطلاقته، معلناً نهاية هذا المقطع، ومفسحاً المجال لبداية المقطع التالي، لتبرز آلة القيثار في استهلال المقطع الثاني بشكل يهيمن كلياً على اللحن، تتبعها أصوات مجموعة الكمانات ثم نغمات الأورج في ارتفاع وتصاعد يتبعه انخفاض وخفوت شبه مطبق حتى يمزقه صوت المطرب: (ولّعت الشمعة في داري باش تونسني… وطرحت وسادي لرقادي والنوم نعسني).
وبعد تكرار هذا المقطع تتبدل درجة الإيقاع في نقلة مختلفة كلياً تمنح فيها مساحة أكبر للطرب والانتشاء والسلطنة تتوسطها حالة قرار وجواب متكررة ثم تتهادى تدريجباً لمستوى استهلالها:
(حلمت بروحي سافرت بعيد
بجروحي لمكان بعيد
خشيت بحور …. وغرور
وأنا في مكاني … حابسني سور
مفيش جديد في حياتي غير التنهيد
ماشي في حلمة … ما أجملها حلمة
في آخر الليل روحنا زي كل الناس)
يختتم الموسيقار المطرب علي ماهر هذه الأغنية بالمقطع الثالث الذي ينطلق مستحضراً الإيقاع الفلكلوري الشعبي السريع (دوم .. تيك … دوم … تيك) وموسيقي متعالية صاخبة تتشارك فيها أوتار القيثار مع مجموعة من الكمانات بالإضافة إلى ظهور قصير وبسيط لصوت الناي بشكل خاطف:
(نسمع في سواقي… وعيون تزغرد… بالسر تبوح
وربيع بيضحك… ضحكاته من بعد تفوح… وترد الروح
وغادي م الوادي… غالي بينادي
مديت ايديا بنسلم… شديت وسادي
مفيش جديد في حياتي غير التنهيد
تمنيت الليل مازال طويل
في آخر الليل روحنا زي كل الناس)
2- أغنية (أحب الربيع)
كتبت هذه الأغنية باللغة الفصحى البسيطة فجاء تكوين الجملة في أبيات قصيرة تبوح بالمشاعر نحو الربيع واطلالته، وربط جماله وتنوعه الطبيعي بجمال الحبيبة ومحبتها، من خلال تشبيهات عديدة تراوحت بين الزهر والأوتار والنسيم والعنادل وغيرها. وقد انطلق اللحن منذ مقدمته الموسيقية بهيجاً يعكس حالة السرور والفرح والانبساط، وضمّن الموسيقار علي ماهر هذا اللحن ترديد المجموعة الصوتية “الكمبارس” في إيحاء أو إشارة للمشاركة والاحتفال الجماعي بهذا الفرح محافظاً على إيقاعه المميز بتدرج الانتقال من درجة إلى أخرى ثم العودة إلى المستوى الأول في دورة موسيقية متكاملة وظف فيها الموسيقار المطرب العديد من الآلات الموسيقية لإثراء اللحن بالعديد من الأنغام المتنوعة.
أحبُّ الربيعَ وزهرَ الربيع… لأنَّ خدودك مثلُ الزهـْر
أحبُّ العنادلَ إنْ غـردت… وصوتك أحلى وأغلى وترْ
أحبُّ النسيمَ إذا ما سرى… فداعب فيكِ جميلَ الشعرْ
أحبُّ المنايا إذا قورنت… ببعدك عني وشاءَ القدرْ
يبدأ المقطع الثاني مباشرة بدخول صوت المطرب في طبقة عالية مع خلفية موسيقية خافتة بنفس الجملة اللحنية الظاهرة في المقطع السابق لتعبر عن الترابط المتجانس بين المقطعين:
فأنتِ حياتي التي أرتضي… وأنتِ منايا التي أنتظرْ
وأنتِ يميني وأنتِ الشمال… وأنتِ لساني وأنتِ البـصرْ
سيرعاك قلب رواه العذاب… فأنبت فيه قلوبٌ أخرْ
وأراك أمامي أنى نظرت… فيبدو جميلاً قبيح الصورْ
ولكن في المقطع الثالث تتغير درجة الإيقاع اللحني بشكل مختلف تماماً ليكون هادئاً ورحباً واسعاً، يتيح لآلتي السكسفون والكمان بأن تبوح بجمل عميقة تحمل الكثير من التعبير والدلالة في ظهور منفرد قصير لهما، بينما يختار الموسيقار المطرب علي ماهر أن تكون خاتمة المقطع الأخير بالرجوع إلى بداية الأغنية واستحضار قفلتها الجميلة:
يقولون ارفق بنفس تفانت… وذوّبت فيها الشقاء والسهــْر
وأعجزُ عن نزع شعرة حبِّ… فكيف به نمى وكبرْ؟
إذا كان حبك بخور… فإني أقول بزهو ألفت الخورْ
إذا كان كل المحبين مثلي… لأنكرت أنّ حبيباً غدرْ
خطاكِ تبدو كقطرة لـيل… وهل تلك تخفي سناء القمرْ؟
3- أغنية (لما حبيتك)
جاء لحن هذه الأغنية منحازاً إلى الآلآت الموسيقية الكهربائية بشكل كبير، وآلتي القيثار والأورج بشكل محدد وصريح، مع مشاركة قصيرة لألة الاوكورديون وبقية الآلات الأخرى التي تكمل اللوحة الموسيقية العامة. ويبدأ اللحن بمقدمة تعزفها دقات إيقاعية تختلط فيها أوتار القيثار ونغمات الأورج بشكل صادح قوي تستمر لفترة متنوعة ثم تتراجع تديرجياً حتى يشدو المطرب بحس فياض ومليء بحرارة الانتشاء والطرب، تجسده خاتمة المقطع الطربية التي يردد فيها كلمة (لما حبـــــــــيتك) بتكرارٍ متراقصٍ، وامتدادٍ، ونفسٍ طويلٍ رائع، يحلق به في فضاء اللحن الجميل، وقد جعلها مستنسخة لازمة ختامية في كل مقاطع الأغنية التالية:
(لما حبّيتك ماسألتش حد
كل اللي درته
إني حطيتك في كف اليد
وغلقت صباعي)
يبدأ المقطع الثاني بجملة إيقاعية عالية تبعثها مفاتيح الأورج وأوتار القيثارة، وهي وإن كانت قصيرة إلا أن تكرارها بمصاحبة نقرات الدف أو الطار الخفيفة المتوارية خلف سلسلة الكمانات في شكل يشبه التشابك السيمفوني، يعطيها زخماً حسياً كبيراً متدفقاً بالانبساط والحماس الوجداني الرفيع:
(خفت على وجودك يتحول
نسمة يأخذها الريح
خفتك لتمشي وتسهّر رمشي
والفرحة تريح
حوّلت وجودك في موّال كبير
ما سمعه حد
موّال حفرته في كف اليد
وغلقت صباعي)
ويحافظ الموسيقار المطرب علي ماهر في المقطعين الثالث والرابع من رائعته (لما حبيتك) على نفس نسقه الإبداعي الجميل، فظهر كل مقطع وكأنه نسخة متماثلة مما سبقه في نمط ودرجة الإيقاع وجمله الموسيقية الخفيفة، ولم يشهدا أي تغيير إلا في نص مفردات كل مقطع من الأغنية حتى نهايتها:
(كل اللي درته من خوفي… حميتك من كل ظنون
ونقشتك ثاني داخل وجداني… نبّيك تكون
عمر تمنيته… عشت وراجيته ما عاشه حد
سجلت أيامه… في كف اليد… وغلقت صباعي)
لقد ظل المقطع الرابع والأخير صورة شبيهة بشكل متطابق في إيقاعه وتركيبة جملته الموسيقية المنسوخة عن المقطع الثالث الذي سبقه، إلا أنه بشكل استثنائي احتوى على خاتمة صوتية وموسيقية صارمة نسجتها جملة حاسمة وقاطعة لإنهاء الأغنية الجميلة:
(كل اللي درته
في زحمه لقيتك ووقفت حداك
واختارك قلبي غناية حبي
وسرحت معاك
ولقيت في حبك أحلام كثيرة
ما زارت حد
حبي حولته دبله في اليد
وغلقت صباعي)
4- أغنية (الحرمان)
من الممكن جداً وصف هذا اللحن بأنه نوع من التراجيديا الموسيقية، لأنه وبجدارة ظل طوال زمن الأغنية شجناً عميقاً وهو يرسم قصته التعبيرية الخيالية، غارقاً في عوالمها المتشحة بالقتامة والحزن والآسى والأمنيات العطشى الضائعة. ومنذ مقدمة هذا اللحن التي انطلقت موسيقاه بنداء حزين مفرد استعرضته آلة الأورج، امتزج فيها بنغمات جماعية قدمتها آلات الكمان بشكل جماعي، وعزف مفرد تبادلت فيه درجات الصعود والنزل بمعدل يقترب من البطء أو السكون الآسر في أنين الكمانات الذي يتبعه بالتوازي الإيقاع المسترسل لآلة (البونجز) في فضاء يخلو من كل موسيقى سواها، عبر تناسق جماعي أو عزف انفرادي، حتى استرجاع صوت الكمانات الذي يتلوه طلوع الناي الحزين في طبقتين مختلفتين تتفاوتان موسيقياً بين الرقة المرهفة والضخامة القاسية، وتدريجياً يعود صوت الأورج ليفرش البساط أمام صوت المطرب وهو يسرد بوحه الشجي:
(بتفرقي الشربات على الغير في ليلة عيدك
وقلبي أنا الملهوف
محتاج لشربة تبل الريق من ايدك
قلبي أنا الملهوف
ولا شاف منك ود ولا رحمة
بيكلمك لكن عماه الخوف
وما لقاش فيك طريق م الزحمة
بيكلمك لكن عماه الخوف
عطشان يستنى
فرحـــــان يتمنى
في شربة تبل الريق من ايدك
قلبي أنا الملهوف)
تفتتح آلات الكمان بداية المقطع الثاني بجملة صاخبة يتوسطها وصلة لآلة الكمان منفردة ثم وصلة إيقاعية منفردة كذلك تسايرها أوتار القيثارة الخافتة تتراجع تدريجياً حتى يهمس الموسيقار المطرب بكل رقة:
(ملهوف عليك
لهفة مشتاق لولاده… في نهار العيد
ومتشوق ليك
شوق المتغرب عن أهله وبلاده … في بر بعيد
ولا صبر نفعني لا
ولا حد ردعني لا
أنا قلبي في الحب عنيد
عطشان يستنى
فرحان يتمنى
في شربة تبل الريق من ايدك)
يستهل الموسيقار المطرب علي ماهر المقطع الأخير بدرجة إيقاع وسرعة مغايرة ومختلفة كلياً عنها في الأجواء السابقة للأغنية تجسدها آلتي الكمان والأورج في تناغم جميل تزيده دقات الإيقاع الخفيفة ورنينها الرشيق روعة ورقة وجاذبية في دعوة لا يمكن رفضها للتجلي والاستمتاع مع مفرداتها وموسيقاها:
(عيشي لنفسك وتهني وأنا ليا الله
يكفيني الحب اللي عشته ومازلت معاه
وأنا قلبي كبير يتحمل ويسامح دوم
وأنا حبك عندي بيزيد يوم ورا يوم
وانتِ اللي زيك مهناش….. وينه مفيش
ما تحني شوية يا روحي…. خليني نعيش
ومن أغلى منك قوليلي من أغلى مين
ومن أجمل منك قوليلي من أجمل مين)
وبعد تكرار موفق لمزيد من الامتاع والانبساط يوقف الموسيقار والمطرب في منتصف هذا المقطع بشكل مفاجيء كل الآلات الموسيقية، للوقوف لحظة صمت تامة، لبرهة قصيرة من الزمن وكأنها تأملية أو تدبرية أو توقعية لما بعدها من إبداع ليظهر صوت المطرب عميقاً وسابحاً في تجلياته الحزينة ليختتم الأغنية بكل هدوء:
(ولو ضاق بيك الدهر وتعدي
نفديك بحياتي إن كان احتجت
ويسقيك من عمره إن كان عطشت
قلبي أنا الملهوف)
5- خاتمة:
من خلال استعراض هذه النماذج القليلة من الأغاني التي لحنها الموسيقار الفنان علي ماهر، وأداها شخصياً بصوته يمكننا أن نرصد بعض الملاحظات التي أهمها أن الجمل الموسيقية لمعظم هذه الألحان قد جاءت تركيبتها بكل وضوح من جنس أو نوعية النفس القصير، بمعنى أنها تستجيب تماماً لمساحة الطبقة الصوتية للموسيقار الفنان علي ماهر، الذي يبدو، أنه لا يطرح نفسه مطرباً محترفاً، بل أحياناً يلجأ إلى الغناء كنوع من التأكيد على وجوده في الساحة الفنية، بأسلوب ظل متفرداً بقدرته على التعبير الرومانسي الجميل وبعث كل الدفء والعذوبة والرقة والكثير من الشجن والآسى في المتلقي. كما أن الموسيقار الفنان علي ماهر كان بارعاً وذكياً في اختيار الايقاع الذي يتوافق مع قدرات نفسه الصوتية وصاغ ألحانه وفقاً لطبقاته، تاركاً براحاً لنفسه ظل ينتقل إليه ويتصاعد به موسيقياً في المساحات الصامتة عبر آلات عديدة أغليها كهربائية أو إيقاعية قبل أو بعد التغني بالكلمات.
لقد نجح الموسيقار المطرب علي ماهر في تسجيل بصمة مميزة لصوته الغنائي الدافيء والمفعم بروح زاخرة بالإحاسيس المرهفة، والمشاعر الفياضة التي لا يمكن مقاومة تأثيرها في المتلقى حين سماعها، ولا بعد ذلك، لأنها تمكنت من توطيد وتعميق العلاقة معه، ونيل شهادة الجميع واتفاقهم على أن الأغنية الليبية مثلما كسبت ملحناً مبدعاً أثرى المشهد الغنائي بالعديد من الابداعات الموسيقية، فإنها كسبت كذلك صوتاً عذباً رقيقاً نال إعجاب واحترام الجميع وتقديرهم، ورفع أكفهم وأيديهم بالتصفيق له بكل حرارة ومحبة وامتنان.
__________________
نشر بموقع ليبيا المستقبل