-1-
كان يا مكان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان شيخ وزوجته لم يخرجا من الدنيا إلا بولد عوضهم الله به عن الفقر وقسوة الزمان فعاهدا نفسيهما أن يهباه للعلم والمعرفة مثله مثل أترابه.
مر يا زمان وتعال يا زمان.
كبر الولد وذهب إلى (الكتاب) وتعلم فيه يقرأ ويكتب حتّى جاء يوم اتفق فيه أصحابه أن يسافروا في أرض الله الواسعة.
رجع الشاب إلى أهله مهموماً وحزيناً- فالعين بصيرة واليد قصيرة- عرفت العجوز الحكاية وسألت زوجها عن الحل.
المهموم لا ينام الليل.
والفقر مر وكافر والمحتاج ذليل.
والنوم يجيء للبال المرتاح.
ومع الفجر قام الوالد يصلي وبعد الصلاة قال لزوجته:
– يا بنت الناس ما فيش غير أرهن نفسي عند جارنا اليهودي ليسافر ابننا وعندما يرجع يفرجها الله.
-2-
اتفق اليهودي مع العجوز على أن يمنحه فرساً لابنه وفي المقابل يعيش في خدمته حتّى يفك الابن رهن أبيه، وحاول الشيخ أن يقنع اليهودي بأنه يحتاج أيضاً إلى بدلة فارس وسيف، فلم يوافق اليهودي إلا بشرط أن تحضر العجوز وترهن نفسها هي الأخرى فوافق على ذلك.
-3-
أحس الابن بالألم وهو يرى أمه وأباه في الرهن عند الجار المرابي وحاول أن يثنيهما عن عزمهما ولكن الوالد والوالدة أصرا على موقفهما وقالا له:
أننا لا نستطيع أن نراك في وضع أقل من أصحابك.
توكل على الله وعندما ترجع من سفرك تفك رهننا.
والمكتوب على الجبين لازم تشوفه العين وهذا نصيبنا في الدنيا.
-4-
في يوم السفر لم يتخلف الابن عن بقية رفاقه وسار معهم يقطع الوديان والفيافي من مكان إلى آخر حتّى وجدوا أنفسهم في صحراء قاحلة، وبعد المسير تحت الشمس والتعب شعروا بعطش شديد.
لم يفكر أي واحد منهم في أن يطلب ماء من رفاقه لأنهم جميعاً قد استنفدوا ما معهم من الماء.
خطرت فكرة على بال ابن الشيخ العجوز.
فاندفع يجري بفرسه بسرعة قوية وعندما أحس بالفرس تقطر عرقاً نزل عنها ومسح بيده على جسدها وجمع العرق في وعاء وشرب منه. وهكذا فعل أصحابه.
وظلوا في سيرهم إلى أن وصلوا إلى مدينة عظيمة كبيرة أسواقها مزدحمة، دخلوا إليها وابتاعوا ما يحتاجونه وذهبوا يبحثون عن مكان للنوم والراحة.
ولقد اندهشوا صباح اليوم التالي عندما شاهدوا (السياف) ومعه شاب وسيم يقفان في وسط السوق ثم يقطع له رأسه ويأخذه في يده ليذهب به ناحية قصر الملك.
سألوا الناس عن حكاية الشاب الذي قطعت رأسه ولماذا؟ فأخبروهم أن السلطان له بنت جميلة اشترطت أن لا يتزوجها إلا من يستطيع أن يتغلب عليها في القدرة على التفكير وإذا عجز أمرت بقتله.
وهكذا كلما تقدم أحد بسؤال أو حكاية غريبة وعرفت ما حاول أن يخفيه تأمر بقطع رأسه.
-5-
في الصباح قال ابن الشيخ العجوز لأصحابه هل هناك من يرغب في التقدم إلى الأميرة؟
أجاب الجميع لا، إن الحياة غالية والمرء لا يفرط في عمره بسهولة ذهب الشاب وحده إلى القصر وقابل السلطان وقال له:
– لقد حضرت لكي أحاجج الأميرة يا مولاي.
نظر إليه السلطان فوجده شاباً مؤدباً طويلاً ووسيماً يتحدث بأدب وعلم، شعر نحوه بالشفقة.
فقال له:
– يا بني أنك لو نظرت وراء القصر لشاهدت الأميرة وقد أوشك عمالها وخدمها على بناء قصر برؤوس الذين حاجوها فكيف تعتقد أنك الشخص الذي سيفوز بها.
حاول أن تترك هذا الموضوع وتنجو برأسك يا ولدي.
أصر الشاب على طلبه.
بعد قليل حضرت الأميرة وكانت آية في الجمال.
تحدثت مع الشاب ثم سألته أن يقول ما عنده من أمور عجيبة لا تخطر على بال إنسان.
فقال لها:
يا أنا يا أنا
ركبت أمي
ولبست بوي
وشربت ماء
لا هو من الأرض
ولا هو من السماء
فكرت الأميرة في الحكاية العجيبة التي سمعتها ثم طلبت منه أن يحضر اليوم التالي في نفس الموعد لتقول له ما معنى حكايته والسر الخفي فيها.
ذهب الشاب إلى أصدقائه.
أما الأميرة فقد بقيت تفكر طوال اليوم في المعنى الخفي لكلمات الشاب ولكنها لم تستطع أن تعرف اللغز.
كان يعذبها شعورها بالعجز لأول مرة، ومع الليل طلبت من جاريتها أن تعرف لها المكان الذي يتواجد فيه الشاب.
-6-
حضرت الجارية بعد فترة من الوقت لتخبر مولاتها بأن الشاب وأصدقاءه يستمعون إلى الغناء في نزل قريب من السوق.
تنكرت الأميرة في ثياب رجل وذهبت إلى المكان الذي وصفته لها خادمتها.
عندما شاهدت الشاب اقتربت من مجلسه وحيته بالسلام هو وأصدقاءه وجلست قريبة منه ومع الليل والسمر والقمر ازدادت الألفة بين الجميع وخاصة عندما عرفوا أنّ رفيق السهرة الجديد يعزف على العود ويعرف الكثير من أخبار الدنيا.
طلبوا من الضيف أن يبدد وحشة غربتهم بأنغامه وأغانيه.
استمرت الأميرة المتنكرة في العزف والحكايات لهم حتّى سكر الجميع بالأنغام والخمرة وأصبح كل واحد يتحدث عما في نفسه دون حرج وبذكاء وجهت الأميرة سؤالها للشاب عن الحكاية العجيبة التي يحكي أنه قالها في القصر.
أخبر الشاب أصدقاءه بأن ما سمعته منه الأميرة سوف يعجزها معرفة جوابه.
سأل الضيف رفيق السهرة هل بالإمكان أن يعرف بشكل خاص معنى الحكاية خاصة وأنه لا يتمنى أن تقطع رأس الإنسان الذي كسب معرفته.
ومع الفجر تسلل الضيف المتنكر بعد أن عرف السر الذي عذبه طوال اليوم السابق.
-7-
ذهب الشاب في الموعد إلى القصر وحضرت الأميرة والسلطان والوزراء وبقية الحاشية.
طلبت الأميرة من الشاب أن يعيد على سمعهم أحجيته.
بعد أن استمعوا إليه وقفت الأميرة أمام الجميع بشموخ لتقول لهم أن هذا الشاب كان يتحدث عن سر خاص بحياته فظروف الفقر جعلته يرهن أمه مقابل فرس يركبها في رحلته ويرهن أباه مقابل ملابسه وهذا معنى:
يا أنا يا أنا
ركبت أمي
ولبست أبي
أما الماء الذي شربه وهو ليس من الأرض ولا من السماء فهو عرق فرسه عندما اشتد عليه العطش في الصحراء.
تعجب الجميع من قدرة الأميرة على معرفة المعنى الخفي في حكاية الشاب وأمر السلطان بأن تقطع رأسه ولكن الشاب ضحك بصوت عال وأخرج من جيبه منديلا وعرضه على السلطان قائلاً:
يا مولاي
الطير الذي جانا
وعرف معنانا
ترك ريشة
من ريشاته معانا
-8-
عرف الجميع أن الأميرة عجزت عن الوصول إلى المعنى الخفي لحكاية الشاب وأنها لجأت إلى الحيلة حتّى تعرف معنى الأحجية التي لم تصل إلى حلها بجهودها.
واعترفت لهم بذلك.
فأمر السلطان بأن يُوهب نصف مملكته للشاب وأن يتزوج بالأميرة لأنه استطاع أن يكسبها في رهانها.
وبعد أن حقق الشاب أحلاما ما كانت تخطر على باله أرسل في طلب أمه وأبيه بعد أن فك رهنهما فعاشوا في ثبات ونبات.
صنعاء: 8-3-1981 م.