قصة

عمي جميل

إنها محاولة لرصد ملامحه بعد هذه السنوات.. وجه أبيض ناعم قليل الشعر، تميزه ابتسامة باهتة، ربما السبب في ذلك العيون التي لا ترى هذا العالم، والتي تتفق مع الجفون على حماية آلة التصوير من الأتربة وتقلبات الزمن، فيكون انشداد الجفن سبباً في هذه الملامح التي يكتسبها الوجه البعيد عن الخشونة.

ويؤكد ذلك الصوت النسائي الناعم، والحركات التي لا تتوقف من اليدين مع ضرب كف بأخرى إضافة إلى تحريك الجسم وخاصة القاعدة والحاجبين، واستعمال قاموس خاص لا يتوفر على جملة واحدة عربية صحيحة بالكامل.. ليس هذا فحسب بل إضافة توابل للحديث متمثلة في أصوات لا معنى لها تطعم الجمل المشحونة بعبارات قدحية، هذه الملامح تتلاءم معها الملابس النسائية.

إن عمي جميل يحب النساء ويتحدث بصوتهن الناعم وينحاز إلى عالمهن على مستوى المضمون كما يحرص على ذلك شكلا.. يرتدي الكمجة والقفطان والحولي (الرداء)* ويترك زنوده عارية تسبح في بياضها إنه يستريح مع الأقمشة الملونة البراقة والشفافة مع الحرص على الحزام حول وسطه مثلما يحرص ألا تندلق على الأرض قطرة واحدة من الماء الذي يحمله من الحنفية العامة إلى البيوت. كانت (تنكات) مستطيلة من الألمونيوم قد تم تجهيزها بعد أن نفذ ما جلب فيها من وراء البحر وتم فتحها بالكامل من أعلى وثبتت لها قطعة خشب على شكل ما تحمل منها.

في العادة يضع قطعة الخشب على كتفه ويتدلى منها على مستوى الطرفين حبل ينتهي بخطاف حديدي. عندما يحني عمي جميل جذعه يعلق طرف الخطاف في يد سطل الماء ويتم ذلك بعد أن يشارك النساء في أحاديثهن التي لا تنتهي بجوار الحنفية حتى يأتي دوره. لم يكن يحب عالم الرجال، راحته كانت مع ثرثرة النسوة، يتمتع بالحديث مع استعمال الأيدي واللمس بها، وحين تنطلق ضحكته الناعمة يخيل للسامع إنه يستمع إلى فتاة بكر بخجلها، عندما كان لا يزال موجوداً في ذلك الزمن البعيد.

لم أسمع نبرات صوتية تشبه (صباح خيره) عندما يوزعه على الجيران.

كان يدخل البيوت ويجد متعته مع عالم الحريم، ولأنه بصير فلا أحد يهتم بحديثه مع النسوة.

أتذكره في مناطق معينة، عند حنفية مدرسة سيدي الحطاب القرآنية، وفي شارع سوق الحرّارة، أو عند جامع محمود وقوس المفتي، وكوشة الصفار، أحيانا يقترب من الأربع عرصات، ولكنها مرات نادرة التي عرج فيها على باب البحر. كان حضوره مرتبطاً بأغنية جميلة، نبتعد عنه قليلاً، ونصدح بها خاصة عندما نكون مجموعة، ننغمها ونغيظه بها، فتأتي شتائمه لتتداخل مع الكلمات:

جميل جميل… جميل يـبـي مرا

يبيها يبيها… ما يخدم غير عليها

هذا ما كنا نتغنى به، ولم نقف يومها لنسأل أنفسنا مثلما أسألها اليوم.

هل حقا عمي جميل كان يريد امرأة؟

هل كان يريدها للحد الذي لا يعمل إلا من أجل الحصول عليها؟

الحقيقة لم يكن يعرفها إلا عمي جميل.

هل حقق في شخصية الواحد اتحاد، الأنثى والذكر؟

هل…..؟

جميل جميل… جميل يبي مرا

يبيها يبيها… ما يخدم غير عليها

وتضيف ابنتي الآن عندما تتردد كلمات الأغنية

يبيها يبيها… ما يفكر إلا فيها.

_______________________________________

 * من أجزاء الثياب النسائية في ليبيا.

مقالات ذات علاقة

عنف تحت المجهر

حسام الدين الثني

المرابط

إبراهيم دنقو

شوارع الضياع

محمد المغبوب

اترك تعليق