يوسف القويري
من خلال الفتحة الضيئلة المواربة في حذر كان في إمكانها أن ترى الشارع كله .. بدكاكينه , و عرباته و حشود الناس المهرولة فوق الرصيف .. و أن تسمع الابواق الغليظة و طرقعة السياط في الهواء , و الكركرة , و الاحتكاك و الصفير الكئيب الذي يشبه الخوارمن سفن البحر القريبة … و أن تسمع الشتائم و النداءات و أصوات هادئة ممدودة مشحونة بالأسى تسوق جياداً متهالكة . في خفوت : – هيــــ ..ـــــه
و يتلاشى الصوت و يضعف و يتبدد كالدخان .. و كل شيء في الشارع حولها يزعق حتى الألوان . و اللافتات العريضة بحروفها الواسعة تبدو في نظرها وقحة تعرض نفسها لأكثر من اللازم , إنها تحب الأشياء الصغيرة , تلك التي تجد صعوبة في رؤيتها عن بعد , الأشياء التي لا تمنح نفسها من أول مرة و هي لا تدري سبباً واضحاً لذلك , و لا تفكر في إيجاد سبب ..
و أحياناً يدفعها الفضول إلى أن تبعد طرف “الفراشية” عن الطرف الآخر و تجعل الفتحة الضئيلة متسعة قليلاً .
و قبل أن تصنع ذلك تستعد للأمر , و ترسل عينها الواحدة في رحلة ذعر قصيرة عبر الشارع , تفتشه , و تدخل عرباته و تقرأ وجوهه بسرعة و توتر , و في لحظات نادرة تتجمد نظراتها على شيء في الطريق , و سرعان ما تذوب نظرتها و تتحرك من جديد بعدما تتحقق منه ثم تعاود بحثها المضني , و تظل عينها الواحدة تعبث و تفتش و تقلب حتى تطمئن حينذاك تمتد يدها إلى خصرها محدثة خلف “الفراشية” موجات متكسرة , و تضطرب انحناءات الفراشية و تتماوج حتى تصبح دقاته هي الصوت الوحيد الذي تسمعه يدق و يدق فيعود صداه قوياً فاضحاً و كأنه وضع في ردهة واسعة من المرمر .
و رويداً رويداً .. تشد الطرف الذي يحجب عينها الأخرى , تشده بكل أعصابها , و قبضة باردة تعصر رئتيها, و تتلاحق أنفساها .. و الطرف ينحسر بمهل و الشارع كأنه جواسيس .. كلهم ينظرون إليها .. حتى عيون العربات .. حتى اللافتات الوقحة ذات الحروف الواسعة التي تمنح نفسها من اول مرة ..
و يسقط طرف الفراشية عن عينها .. و تبدو جبهتها الرقيقة مبللة بقطرات العرق . و صدرها لا تتضح منه إلا اختلاجاته و اضطرابه الخائف ..إن صدرها يكشف أمرها ..و هو لا يكف عن الهبوط و الإرتفاع و الشارع لا يبدو جميلاً في عينيها .. إنه قاسِ و مؤلم .. و الناس , كأن كل الناس قد تجمدوا فجأة و توقفوا يحدجونها يالعيون , عيون فيها شرر الغضب ..
و تحس أنها مهزوزة و وحيدة .تغمرها تعاسة ثقيلة تفتت في أعماقها شيئاً عزيزاص .. شيئاً كالشجاعة و يكوي جوانبها من الداخل ضعف و يتصاعد إلى فمها فتحس مراراته كالحنظل .. إنها ضعيفة .. ضعيفة كريشة , و العيون القانية البشعة تطلق هواءٍ لاسعاً .
و في فيض مشاعرها .. في فيض الغرابة و الاضطراب تشتد الحملقة .. و تتركز .. و تتقارب .. و تتلاصق حتى يصبح الشارع كله وجهاً كبيراً .. وجه رجل مخيف له عيون أبيها .. و تذوب ملامح الوجه , تختفي , و تضيع … و تكبر العيون .. تكبر و تندغم و تتداخل و تختلط و تنصهر و يحملق فيها الشارع بشدة , بغضب , بعين واحدة واسعة بعرض الطريق , بطوله , بارتفاعه .
و تدوي في كيانها صرخة تكاد تخلعه .. و تشعر كأن عظامها قد تهشمت .. و أنها تتراجع متساقطة . جاثية بكل قطعة في بدنها للعين الكبيرة .
و عادت توارب الفتحة و تجعلها ضئيلة كما كانت .. أرادت أن تعود بعين واحدة .. فهذه المخاوف , هذه المعاناة قد أشعرتها بمدى طمأنينة العين الواحدة , و مدى هدوء الرضوخ و الاستنامة للأشياء التي اتفق على أن تكون دائماً كذلك . و أوشكت أن تفعل .. بيد أن شيئاً جديداً كان يستيقظ في نفسها و يولد مطلاً برأسه من خلال المعاناة و الألم . شيء من نزيف الجراح .. شيء من الشجاعة .
و أحست بتجربة خوفها تصنع لها من الداخل جداراً صلداً , و أن ارتعاشاتها و تفتتها يلتحمان في طبقة رقيقة متماسكة , و أن جوانبها التي اكتوت تشع دفئاً غريباً يسري في كيانها كله و يعطيه ترابطاً .
و في أعماق نفسها كانت بقايا خوف ..كان ثمة شيء يشدها للخلف و هي تقاومه ..
و ومضت في رأسها صورة امها .. و البيت .. و رائحة البخور و دغدغة لذيذة .. و امتدت في خيالها مئذنة سامقة فوقها شيخ يؤذن .. و تحتها ناس يركعون و يعبدون الله .. و كاد رأسها ينفجر و مئات الأصوات بداخله تقول لها كلاماً كثيراً عن لأخلاق البنت و عن الأدب و الحشمة .
و عادت المئذنة السامقة تستطيل في ذهنا و تتأرجح و تهتز .. و الناس يركعون بتلاحق , و صراخ الشيخ يعلو و يعلو .. و أطفال الحارة يتحدثون عن الكافرات , الوجوه العارية ..و تتكاثف حلقات الأطفال في رأسها , و يتزايد لغطهم عن الكافرات .. و الأصوات الكثيرة تنفجر في دماغها . و تنفخه . أحست بالتورم .. و حاولت أن تخففه فاضربطت خطواتها , و استضاء ذهنها بصورة أمها .. بالتدريج .. صورة مكبرة لوجه ودود فيه حب ..
و رأته كمن يساعدها . و كان صوت الأب يزاحم معاني الود في رأسها , بيد أنها كانت مفتونة به .. بجرأته .. و قوته .. و نبرات صوته الغاضبة ..
و رغم ذلك كانت تشعر بأنها قد اكتست مناعة , و أن بقايا خوفها عاجزة عن جذبها للخلف و حجب رؤيتها الجديدة . حينئذ شملها فتور , سريان بطيء , يلطف توترها .. و أحست أنها كانت داخل نفسها , و أن ضجة الشارع ما زالت عالية , و العربات تمرق كالسهام , و الشتائم تنبعث من الأركان و الزوايا .. و صفير السفن القريبة يخور في كأبة .. و يعوي .. و النداءات متعاقبة .. و الجياد المتهالكة تخبط الأرض بوهن , و السياط تطرقع في الهواء .. و الناس تمشي مهرولة صدئة العيون . ذهلة تفكر في نفسها ..و في مشاكلها الصغيرة .. و أنها ليست وحيدة .. و ليست مهمة .. و بثقة خفيفة تركت طرفا فراشيتها يتباعدان اكثر فأكثر , و الفتحة الضئيلة تفرج عن وجهها , و عادت ثانية تحدج اللافتات الكبيرة بعينيها معاً .. بوجهها كله . إن حروفها ليست وقحة كما كانت تراها من قبل , و هي لا تمنح نفسها من أول مرة , بل تزهو بوضوحها .. و شملها ارتياح لم تدر من أين اتى . عندئذ ابتسمت .. لنفسها .
و في الشارع الواسع المزدحم , وسط مئات الأقدام المسرعة , و الغبار .. غابت البنت و ابتلعها الميدان الكبير .
________________
*تم نشرها في جريدة “المساء” عام 1959