من أعمال التشكيلي الليبي .. الطاهر المغربي (السيدة والحمامة)
قصة

البنت

يوسف القويري

من أعمال التشكيلي الليبي .. الطاهر المغربي (السيدة والحمامة)
من أعمال التشكيلي الليبي .. الطاهر المغربي (السيدة والحمامة)

من خلال الفتحة الضيئلة المواربة في حذر كان في إمكانها أن ترى الشارع كله .. بدكاكينه , و عرباته و حشود الناس المهرولة فوق الرصيف .. و أن تسمع الابواق الغليظة و طرقعة السياط في الهواء , و الكركرة , و الاحتكاك و الصفير الكئيب الذي يشبه الخوارمن سفن البحر القريبة … و أن تسمع الشتائم و النداءات و أصوات هادئة ممدودة مشحونة بالأسى تسوق جياداً  متهالكة . في خفوت : – هيــــ ..ـــــه
و يتلاشى الصوت و يضعف و يتبدد كالدخان .. و كل شيء في الشارع حولها يزعق حتى الألوان . و اللافتات العريضة بحروفها الواسعة تبدو في نظرها وقحة تعرض نفسها لأكثر من اللازم , إنها تحب الأشياء الصغيرة , تلك التي تجد صعوبة في رؤيتها عن بعد , الأشياء التي لا تمنح نفسها من أول مرة و هي لا تدري سبباً واضحاً لذلك , و لا تفكر في إيجاد سبب ..
و أحياناً يدفعها الفضول إلى أن تبعد طرف “الفراشية” عن الطرف الآخر و تجعل الفتحة الضئيلة متسعة قليلاً .
و قبل أن تصنع ذلك تستعد للأمر , و ترسل عينها الواحدة في رحلة ذعر قصيرة عبر الشارع , تفتشه , و تدخل عرباته و تقرأ وجوهه بسرعة و توتر , و في لحظات نادرة تتجمد نظراتها على شيء في الطريق , و سرعان ما تذوب نظرتها و تتحرك من جديد بعدما تتحقق منه ثم تعاود بحثها المضني , و تظل عينها الواحدة تعبث و تفتش و تقلب حتى تطمئن حينذاك تمتد يدها إلى خصرها محدثة خلف “الفراشية” موجات متكسرة , و تضطرب انحناءات الفراشية و تتماوج حتى تصبح دقاته هي الصوت الوحيد الذي تسمعه يدق و يدق فيعود صداه قوياً فاضحاً و كأنه وضع في ردهة واسعة من المرمر .
و رويداً رويداً .. تشد الطرف الذي يحجب عينها الأخرى , تشده بكل أعصابها , و قبضة باردة تعصر رئتيها, و تتلاحق أنفساها .. و الطرف ينحسر بمهل و الشارع كأنه جواسيس .. كلهم ينظرون إليها .. حتى عيون العربات .. حتى اللافتات الوقحة ذات الحروف الواسعة التي تمنح نفسها من اول مرة ..
و يسقط طرف الفراشية عن عينها .. و تبدو جبهتها الرقيقة مبللة بقطرات العرق . و صدرها لا تتضح منه إلا اختلاجاته و اضطرابه الخائف ..إن صدرها يكشف أمرها ..و هو لا يكف عن الهبوط و الإرتفاع و الشارع لا يبدو جميلاً في عينيها .. إنه قاسِ و مؤلم .. و الناس , كأن كل الناس قد تجمدوا فجأة و توقفوا يحدجونها يالعيون , عيون فيها شرر الغضب ..

و تحس أنها مهزوزة و وحيدة .تغمرها تعاسة ثقيلة تفتت في أعماقها شيئاً عزيزاص .. شيئاً كالشجاعة و يكوي جوانبها من الداخل ضعف و يتصاعد إلى فمها فتحس مراراته كالحنظل .. إنها ضعيفة .. ضعيفة كريشة , و العيون القانية البشعة تطلق هواءٍ لاسعاً .
و في فيض مشاعرها .. في فيض الغرابة و الاضطراب تشتد الحملقة .. و تتركز .. و تتقارب .. و تتلاصق حتى يصبح الشارع كله وجهاً كبيراً .. وجه رجل مخيف له عيون أبيها .. و تذوب ملامح الوجه , تختفي , و تضيع … و تكبر العيون .. تكبر و تندغم و تتداخل و تختلط و تنصهر و يحملق فيها الشارع بشدة , بغضب , بعين واحدة واسعة بعرض الطريق , بطوله , بارتفاعه .
و تدوي في كيانها صرخة تكاد تخلعه .. و تشعر كأن عظامها قد تهشمت .. و أنها تتراجع متساقطة . جاثية بكل قطعة في بدنها للعين الكبيرة .
و عادت توارب الفتحة و تجعلها ضئيلة كما كانت .. أرادت أن تعود بعين واحدة .. فهذه المخاوف , هذه المعاناة  قد أشعرتها بمدى طمأنينة العين الواحدة , و مدى هدوء الرضوخ و الاستنامة للأشياء التي اتفق على أن تكون دائماً كذلك . و أوشكت أن تفعل .. بيد أن شيئاً جديداً كان يستيقظ في نفسها و يولد مطلاً برأسه من خلال المعاناة و الألم . شيء من نزيف الجراح .. شيء من الشجاعة .
و أحست بتجربة خوفها تصنع لها من الداخل جداراً صلداً , و أن ارتعاشاتها و تفتتها يلتحمان في طبقة رقيقة متماسكة , و أن جوانبها التي اكتوت تشع دفئاً غريباً يسري في كيانها كله و يعطيه ترابطاً .
و في أعماق نفسها كانت بقايا خوف ..كان ثمة شيء يشدها للخلف و هي تقاومه ..
و ومضت في رأسها صورة امها .. و البيت .. و رائحة البخور و دغدغة لذيذة .. و امتدت في خيالها مئذنة سامقة فوقها شيخ يؤذن .. و تحتها ناس يركعون و يعبدون الله .. و كاد رأسها ينفجر و مئات الأصوات بداخله تقول لها كلاماً كثيراً عن لأخلاق البنت و عن الأدب و الحشمة .
و عادت المئذنة السامقة تستطيل في ذهنا و تتأرجح و تهتز .. و الناس يركعون بتلاحق , و صراخ الشيخ يعلو و يعلو .. و أطفال الحارة يتحدثون عن الكافرات , الوجوه العارية ..و تتكاثف حلقات الأطفال في رأسها , و يتزايد لغطهم عن الكافرات .. و الأصوات الكثيرة تنفجر في دماغها . و تنفخه . أحست بالتورم .. و حاولت أن تخففه فاضربطت خطواتها , و استضاء ذهنها بصورة أمها .. بالتدريج .. صورة مكبرة لوجه ودود فيه حب ..
و رأته كمن يساعدها . و كان صوت الأب  يزاحم معاني الود في رأسها , بيد أنها كانت مفتونة به .. بجرأته .. و قوته .. و نبرات صوته الغاضبة ..

و رغم ذلك كانت تشعر بأنها قد اكتست مناعة , و أن بقايا خوفها عاجزة عن جذبها للخلف و حجب رؤيتها الجديدة . حينئذ شملها فتور , سريان بطيء , يلطف توترها .. و أحست أنها كانت داخل نفسها , و أن ضجة الشارع ما زالت عالية , و العربات تمرق كالسهام , و الشتائم تنبعث من الأركان و الزوايا .. و صفير السفن القريبة يخور في كأبة .. و يعوي .. و النداءات متعاقبة .. و الجياد المتهالكة تخبط الأرض بوهن , و السياط تطرقع في الهواء .. و الناس تمشي مهرولة صدئة العيون . ذهلة تفكر في نفسها ..و في مشاكلها الصغيرة .. و أنها ليست وحيدة .. و ليست مهمة .. و بثقة خفيفة تركت طرفا فراشيتها يتباعدان اكثر فأكثر , و الفتحة الضئيلة تفرج عن وجهها , و عادت ثانية تحدج اللافتات الكبيرة بعينيها معاً .. بوجهها كله . إن حروفها ليست وقحة كما كانت تراها من قبل , و هي لا تمنح نفسها من أول مرة , بل تزهو بوضوحها .. و شملها ارتياح لم تدر من أين اتى . عندئذ ابتسمت .. لنفسها .
و في الشارع الواسع المزدحم , وسط مئات الأقدام المسرعة , و الغبار .. غابت البنت و ابتلعها الميدان الكبير .
________________

*تم نشرها في جريدة “المساء” عام 1959

مقالات ذات علاقة

حدث هذا في زمن بعيد

البانوسي بن عثمان

نقل البقرة

عمر أبوالقاسم الككلي

السّجان يسّتحى عندما يتخذْ ملامح بانوسيّة***  

المشرف العام

اترك تعليق